د. حسين سرمك حسن
————————
تحليل ديوان “المحبرة” للمبدع “جوزف حرب”
بغداد المحروسة
2012 – 2013
ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً .
ولأن الشاعر كان قد رسم أمامنا مستلزمات عمله في مكتبه الشعري الخلاقي ، ومنها أن أوراقه هي الغيم حيث البياض والخفّة والحركية الإنتقالية المسترسلة ، وطابع الرسالة الإستعاري ؛ فالغيم رسالة ، وقد جاء الملاك حاملاً رسالة الكون السرّية ، مخطوطة من ستّ غيمات.. ومكتوبا بمنديل ، ولا تناشز في المكتوب ، فالمنديل “غيمة” وداع المحبّين ، وسحابة دموعهم الصغيرة الدافئة . وقد “حمل” الشاعر، حانياً، المكتوب والمخطوطة اللذين “حمّلهما” الكون للملاك ، بـ “قوس اليدين” المرهف . كلّها “حركات” متسلسلة هادئة وشفيفة .. والأهم “متّصلة” ، هذا الإتصال والديمومة التي عبّر عنها “رمزٌ” وُشّح الكونُ به المنديلَ المكتوب ، هو “جناح عصفور” محاط بفواصل وليس بنقاط . يؤوّل الشاعر هذه “الشفرة” الرمزية التي صاغها الكون بأن الفواصل تشير إلى وحدة هذا الكون الدينامية .. إلى أن كلّ شيء في تواصل وترابط .. لا توجد حدود عازلة ، ودوائر وجود حديدية . الكل يتفاعل بالكل وينفعل به . وهذه “المقدّمة” الإشارية هي روح الرؤية الشعرية التي تنطلق من وحدة مكونات الكون والحياة وتداخلها وصولاً إلى تراسلها الثر . ولا يمكن أن يكون هنك شاعر إن لم يتسلح بهذه النظرية “الإحيائية” والترابطية الملتحمة . فكل ما في الكون حيّ وذو روح تتيح له ديمومة الحركة الحيوية والترابط العضوي الفاعل مع المكوّنات الأخرى بالتحام تبادلي مستمر .
الفاصلة في اللغة (،) هي علامة على أن الجملة مكوّنة من جمل مترابطة ، ومادامت هناك فاصلة ، فمعنى ذلك أن الجملة لم تُغلق بعد . هذا ما ابتكره “مرسيل بروست” في مقاطعه الطويلة لتي بلا نقاط في “البحث عن الزمن الضائع” . ومتى ما دخلت “النقطة” على الجملة فإنها تختمها .. في الواقع “تميتها” ، وتمنع نماءها . النقطة نثر ، والفاصلة شعر . والفواصل هذه تحيط بجناح عصفور رمزاً للحرّية والإنطلاق والحيوية . هكذا أوّل الشاعر رمز اجتماع جناح العصفور بالفواصل ، الذي وشّح به الكون منديل مكتوبه ، ديمومة حركة بفواصل ، لا تكبحها نفاط :
(فتحتُ شريطةَ المنديلِ ، وهو موشّحٌ
بجناحِ عصفورٍ تحيطُ به فواصلُ للدلالةِ أنّهُ لا شيءَ
في ذا الكون مُنتهياً لهُ نقطٌ – ص 14) .
وتأويل الشاعر استباقي بعض الشيء ، فنحن لم نقرأ “المكتوب” ، ونكمله ، لنضع هذا الرمز الإفتتاحي/ العلامة/ أو العنوان ضمن إطار “الصورة الكلّية” . لكنه “شاعر” ، وجزء كبير من شغله هو “حدسه” المعرفي – طبعا حسب نظرية المعرفة الشعرية إذا جاز التعبير – وقدرته على اكتناه المضامين من ومضات مقدّماتها . وبعد العنوان الإشارة الرمز يأتي “متن” المكتوب :
(يقولُ الكونُ في مكتوبهِ :
مجموعةٌ
فيها قصائديَ التيْ أرجوْ قراءَتها ، وتنقيةَ الذيْ ما ليسَ
بعدُ مُنخّلُ الرؤيا بها ، أوْ قدْ يكونُ بغيرِ ما لغةٍ
مرصّعةِ العبارةِ بالبهاءِ الشاعريِّ ، وغيرِ عُمقٍ كاملِ
التكوينِ ، مفتوحٌ على ما لا يشيخُ ، ولا يزولُ . – ص 14) .
اي أن أخانا الكون شاعر ، أرسل مجموعته الشعرية التي تضم قصائده مكتوبة على ستّ غيمات ، راجياً من الشاعر الأكبر/الإنسان، أن يقرأ نصوصه ، ويُعمل بصيرته النقدية فيها ، من ناحية الرؤيا والشكل والمضمون. فالكون هو في حقيقته قصيدة .. والله هو مبدعها .. شاعرها الأكبر الذي عرف ما الذي يمكن أن يفعله الشعراء فصار يحذّر منهم ومن فعل غوايتهم . والكون شاعر .. يكتب القصائد كل صباح .. بل كل لحظة أمام أعيننا التي لا تلتقطها بسبب صدأ فاعليتها وركام أتربة العادة . وهذا الكون الشاعر يطرح من خلال مكتوب طلبه اشتراطات العملية الشعرية الثلاثة ؛ فهو يدعو الشاعر الأكبر/ الشاعر الإنسان إلى أن ينقّيه من ثلاث عثرات تشكّل روح وقوام النص الشعري ، والتي ينبغي أن تبدأ بـ “الرؤيا” . وكنتُ قد قلتُ في “الإشارات التمهيدية” إن عملية الخلق الشعري (أو أن تكون شاعراً) تقوم على ركيزتي سؤالين :
سؤال الرؤيا ، وهو المتعلّق بالإجابة على : لماذا أكتب الشعر ؟ أو ما هي الجدوى من الشعر ؟ وهو سؤال الغايات .
وسؤال الرؤية ، وهو المتعلّق بالإجابة على : كيف أكتب الشعر ؟ وهو سؤال التقنيات والوسائط .
والكون يرجو أولا “نخل” الرؤيا في قصائده . فهو يدرك أن لا شعر بدون رؤيا تسبقه وتحدّد الغاية من تحمّل عذاباته ، وكل الذين جاءوا إلى الشعر وهم ينظرون إليه كـ “عمل” و “هواية” وحتى “موهبة” تؤدّى وتمارس من دون “رؤيا” تحدّد جدواها ، ابتلعهم الكون الشعري ، وتساقطت أوراقهم من شجرة الشعر العظيمة ، لأنهم لم يكونوا يعرفوا في أي الدروب يسيرون ، وإلى أين ؟ البعض ممن نعرفهم في الساحة الشعرية العربية أمضى أكثر من نصف قرن في الكتابة الشعرية ، ولم يصبح شاعراً بعد !
وأعظم أسس هذه الرؤيا ، بل أساسها الوحيد ، هو أن ينظر الشاعر إلى الشعر كدفاع ضد الموت ، ووسيلة لتحقيق الخلود . وهذا بعض ما يتضمنه الإهداء الصادم الذي وضعه جوزف حرب لديوانه هذا .
ثم يأتي ثانياً ، وهو فعلاً ثانياً في “تسلسل” العملية الشعرية ، بعيدا عن أطروحات البنيويين المفرطة الذين جعلوا العقل سجينا للغة ، وجاء فوكو ليجعله سجينا للكلمة المفردة ، يأتي شرط اللغة (لغة مرصّعة العبارة بالبهاء الشاعري) ، فاللغة أداة الشعر الأكبر والأعظم ، وتعتمد كل “رؤية” الشاعر عليها ، كما أنه لا يستطيع توصيل رؤياه ، وكشف أبعادها ، وتأصيل فعلها في نفوس المتلقين ، من دونها . لا يحتاج الشاعر إلى لغة شعرية “إنزياحية” كما توصف حسب ، بل يحتاج إلى لغة شعرية خاصة به أيضا ؛ بصمته اللغوية الفريدة التي تجعلنا نعرف قصيدته من بين عشرات القصائد . وهذه سمة لا يفلح في امتلاكها إلا الشعراء الأفذاذ الذين يشكل كل منهم “كوناً” شعريا قائما بذاته يدور في فلك رؤياه .
ثم يأتي ثالثا ، المضمون (عمق كامل التكوين ، مفتوح على ما لا يشيخ ، ولا يزول) ، المعنى ، الذي كثيرا ما أتفق مع الجرجاني عبد القاهر ، في أطروحته الفذّة التي يحاول قلب أطرافها بعض فرسان الحداثة وما بعدها من النقاد العرب الذين يعيشون على فتات موائد النقد الغربي ، المعنى هو الذي يحدّد الشكل ، وإذا أردت الإنجراف مع الدعوات المضادة ، فستكون كمن يخيط الثوب ويحضره ليقحم جسد المعنى فيه ، يذكّرك هذا الموقف بـ “سرير بروكوست” الشهير . وإذا أردنا تحقيق تسوية عادلة وحداثية وموضوعية أيضا ، يمكننا القول أن المعنى يولد في مشغل لاشعور الشاعر وهو مرتديّا حلّته من (لغة مرصّعة العبارة بالبهاء الشاعريّ) . وبالفعل ، فأين نرى الإبتسامة عادةً ؟ “أمام” الوجه ، أم “خلف” الوجه ؟ والجواب لا هذا ولا ذاك ، نحن نرى الإبتسامة “في” الوجه .
والمعنى بالنسبة للكون الشاعر ينبغي أن يكون عميقاً ، ومتماسكا ، ومسخّراً للتعامل مع الموضوعات الخالدة . الشعر مفتاح من مفاتيح تطمين قلق النفس البشرية من الموت . لقد كانت رحلة جلجامش للبحث عن الخلود ، مدمّرة ومخيفة ، وكان حافزها الظاهر هو أنه “يريد أن يجعل له ذِكراً” كما قال لأمّه الإلهة “ننسون” . وقد فشلت كل محاولاته في هذا الإتجاه ، ولكن الشعر هو الذي جعل له “اسماً” مدوّيا في ذاكرة البشرية ، ونقش له “ذكراً” على جبين التاريخ . لقد صارت ملحمة جلجامش أعظم نص شعري في التاريخ ليس لأنها تتحدّث عن بطولات جلجامش في قتله خمبابا وفي تحدّيه للآلهة والفتك بثورها السماوي . ولا حتى في رحلة البحث عن الخلود برغم أهميّتها . لقد تلخصت أهميتها في أن الشاعر ، ولأول مرّة في تاريخ البشرية ، يعلن احتجاج الإنسان على الآلهة عبر صرخة : لماذا أموت ؟ في الوقت الذي كان فيها البشر ، وفي جميع أصقاع الأرض ، يساقون بعصا المُثكل كالأغنام ، مستسلمين يائسين . وجوزف حرب ، وكما وضع ذلك على لسان الكون الشاعر ، يرى أن الموت هو الموضوع (العميق الكامل التكوين ، والمفتوح على ما لا يشيخ ، ولا يزول) .
ولكن تبقى خصيصة أخرى (أو لنسمّها : وصيّة ) لا تقلّ أهمية ، وتمثّل روح الشعر ، وهي الخاصيّة الجمالية ، والتي لا يشفع لغيابها ، لا رؤيا وجودية عميقة نافذة ، ولا لغة مرصّعة بالبهاء الشعري ، ولا عمق كامل التكوين . فقلب الشاعر هو عقله ، ومن خفقته المترعة بالشوق للمثال والكمال ، يأتي النص مفعما بنبضات الحياة ، وبالتناسق والجمال . وهذا ما يطلبه الكون الشاعر من الشاعر المعلّم في عليّته الكونيّة ، في التماسه المكتوب ، وبعد أن أطلق حرّية الأخير في أن يضيف ويحذف وينتقد ويزيل ويعلّق على النصّ ، ليقرّر هل هو صالح للنشر ، بأن يجعل لحبر النصّ ما للغمامة من دواة البحر :
(احذف ، أضفْ للنصّ ،
صحّح ،
وعلّق ، وانتقدْ ،
وأزلْ ، ونقّح ،
أدرْ في النصّ حبركْ ، هلْ لهُ
ما للغمامةِ من دواة البحرِ ؟
هلْ
هو صالحٌ للنشرْ؟
“آلْكون” – ص 14 و15) .
وإذا كانت الخصائص الثلاث الأولى تجريديّة الطابع ، وتنطوي على مرجعياتها في ذاتها ، فإن الخاصّية الأخيرة “مادّية” الجوهر ، وتكمن مرجعياتها خارجها ، أي أن سمة الجمال يجب أن تنطوي على أكبر قدر من “الحسّية” ، فالجمال – حتى لو صيغ بتهبيرات تجريدية ، لن يحقق الإستثارة المطلوبة في نفوسنا إن لم يكن ذو جذور حسّية مرتبطة بصورة أساسية بموضوع الحب الأساسي من ناحية ، وبإشباع الدوافع الرغبية اللاهثة من ناحية أخرى . وصحيحٌ أن البحر ليس له دواة ، ولكن عليك “تصوّر” دواة خارقة تناسبه تمتح منها الغمامة . ولعلّ أكثر المكتشفات والمخترعات العلمية كانت قد حملت بأجنّتها النصوص الإبداعية (شعرا وسردا بصورة رئيسية) ؛ حملتها إرهاصاتٍ ، واختلاجاتِ رؤية ، وأحيانا بالصورة التفصيلية الدقيقة . يصوّرها الشاعر بصورة “شعرية” تلتقط “روح” العملية التحوّلية التي يأتي العالِم ليختبرها ، ويبتكر قانونا يحكم تكرارها . بالنسبة لجوزف حرب ، وعلى لسان الكون الشاعر ، فإن ما تحمله الغمامة من دواة البحر هي “روحه” الهلامية المتصاعدة .. ما نوصّفه علميا بـ “بخاره” ، البخار بالنسبة للعالِم هو “روح” البحر بالنسبة للشاعر . لكن عظمة الشعر تكمن في “تكثيف” هذا التحوّل . كيف تتركّز هذه الروح التي لا يحدّها حدّ في غمامة صغيرة ملمومة على ذاتها . العالم يؤمن أن الغمامة بخار ماء متصاعد ، لكن الشاعر يرى أن الغمامة روح ، وهي بنت البحر .. صبيّة بحريّة .. ذاك علم العالِم ، وهذا “علم” الشاعر ، وهو – وهنا بيت قصيدنا – سرّ جمال هذه الصورة .
هذا ما تضمّنه المكتوب/ المنديل الذي يطلب فيه الكون الشاعر من الإنسان الشاعر الأكبر أن يقوم بـ “نقد” قصائد مجموعته الشعريّة الستّ التي كُتبت على ستّ غيمات . وهنا يبدأ الشاعر الأكبر المتعال بقراءة القصائد ، مكرّراً طلب الكون في بداية المقطع الربع ، تكرار لا داعي له ، مادمنا قد عرفنا الطلب في المقطع السابق ، لكن الشاعر وكأنه يؤكد نرجسيّته ، وعلوّ شاعريته الشامتة :
(مجموعةٌ شعريّةٌ للكون أرسلها
إليّ لكيْ أنقّحَها لهُ . هيَ ستُّ غيماتٍ عليها خُطّ
ستُّ قصائدٍ جُمعتْ بديوانٍ يُسمّى :
((الخلق)) .
هذا
بعضُ ما في
نصّها : – ص 15) .