أغصان دالية
المصطفى العمري
الغصن الأول:
ومشى بخطى مشكوكة نحو المجهول … مجهوله هو … كان الوحيد الذي لا يدري إلى أين يتجه … أما جيرانه ومعارفه وأصدقاؤه وأعداؤه فكانوا كلهم يعلمون إلى أين يوصل ذاك الطريق الذي سار عليه… ظل يمشي … وظلت عيونهم ترقب من بعيد نقطة وصوله … كانوا كلهم يعرفون بالضبط أين توجد.
وذات عياء توقف … نظر يمينا وشمالا فظهر له أن يقف تحت ظل شجرة كانت هناك على حافة الطريق… وقف كثيرا… انتظر الجميع أن يستمر في سيره إلى حيث يعلمون.
بقي واقفا … واقفا ….أقلق وقوفه الكثيرين ….أحدهم دفعته جرأته إلى التقدم نحوه …. فبدا له غارقا في تفكير عميق كمن يقرأ في صلاته …. انتظره أن يركع لكن الرجل ظل واقفا. حط يده على كتفه فهوى على الأرض كشجرة تهالك جدعها … تناثرت من رأسه جوزات كثيرة . بعضهم التقط مليئاتها وبعضهم فارغاتها . للناس فيما يلتقطون مذاهب.
الغصن الثاني:
كان خالي حدو العجوز الأعمى المقطوعة يده اليمنى و البالغ من العمر الثمانين سنة يبكي وينوح بصوت عال وهو يردد : أنا الأبله أنا من تركتهم يأخذونها ، خدعوني، أخرجوها أمام عيني وأنا أنظر إليهم دون أن أمنعهم. أثار كلامه فضول أهل الحارة كيف أصبح خالي حدو يرى وهو الفاقد للبصر مذ عرفوه سألته إحدى جاراته:
– كيف رأيتهم يا خالي حدو يخرجون جثمان خالتي إيطو؟
– رأيتهم بقلبي يا بنتي ، تلك زوجتي منذ أكثر من خمسين سنة … رأسمالي الذي بقي لي
عيني التي بها أبصر …لكنها فضلت أن تنقرض قبلي.
الغصن الثالث
إلتقيت بها بأحد أكبر شوارع مدينتي
؟ – هل تذكرني
– لا والله ، لا.
– أنانسمة.
– أي نسمة؟
– نسمة التي استوطنت أحلامك مذ بدأت الأحلام تتسرب إلى ذهنك.
– لم أحلم يوما بنسمة يا نسمة.
– بل كنت تحلم بي … وكنت أسكن أرجاء جمجمتك … كنت حلمك الوحيد. أنا لا أنسى الجماجم التي سكنتها ولو لمدة قصيرة … ضحكت ساخرة مني وانصرفت.
الغصن الرابع
لما ودع الدنيا ترك لها أكياسا من الفقر المذقع ، ثلاثة إخوة وأما نال منها الجنون الكثير.
كانت تبلغ سبعة عشر سنة وكانت آية في الجمال. وكان جوابها لكل من يتقدم لخطبتها: – “مسؤولة أنا عن أم وإخوة صغار ما للزواج خلقت.”
كان همها الوحيد هو رعاية إخوتها وأمها المختلة عقليا التي التحقت بزوجها بعد خمس سنوات من وفاته.
كانت الشابة الوسيمة تقضي ليلها ونهارها و راء آلة خياطة قديمة تصدق عليها بها أحد المحسنين. قضت أكثر من عشرين سنة نَمْلَة.
اشتد عود الإخوة الصغار… مضى كل منهم إلى حال سبيله. نسوا صاحبة الظهر المقوس بكت بدموع حمراء على شباب أفنته فيما تفني فيه اليوم شيخوختها … رفقة آلة خياطة معتوهة.
الغصن الخامس
– لا يا بنيتي أنا لست متفقا معك …. هذا زواج فاشل من البداية… أهناك فتاة تقبل الزواج من عاطل؟
هكذا حاول الأب أن يقنع ابنته بالعدول عن بناء حياتها مع من كانت تحبه منذ أيام الكلية
– إن كان عاطلا يا أبي فأنا استطعت الحصول على عمل مهم وراتب يسمح لي بفتح بيت وبناء أسرة. فلم أنتظر هكذا دون زواج أنا التي أحببت عبد الرزاق منذ زمان ؟ أعرفه جيدا ويعرفني منذ أيام الكلية.أحبه ويحبني.
– لا يا بنيتي ، الحب وحده لا يبني البيوت …. تمزقت … بكت وناحت، لما تصاعد نواحها امتدت إليها يد أمها توقظها قائلة: – باسم الله عليك يا بنيتي مالذي يبكيك؟
– كان حلما رائعا يا أمي أفسده علي أبي.
الغصن السادس
أطلت عليها في الأفق شمس الأربعين … ونبت الليل في حديقتها. لم يُثِرْ تفاح صدرها أحدا تناثرت أوراق أشجارها … مَس العراء أغصانها فالْتَوَتْ تحضن بعضها البعض … بحرارة المشتاق الولهان. نزلت على خديها دموع بلون قلبها … وطلعت من بئر صدرها آآه…
خرت لها الأحزان ساجدة.
مقتطفات من مجموعتي القصصية: “أغصان دالية، عناقيدها وأشياء أخرى”
المصطفى العمري قاص وشاعر ومترجم من المملكة المغربية.