الدكتور زاحم محمد الشهيلي
إن شعور الإنسان الأزلي بإنتمائه وولائه للرقعة الجغرافية التي عاش وترعر بها ضمن مجتمع له منتوجه الحضاري والفكري واصوله وعاداته وتقاليده وقوانينه، بلور العلاقة الجدلية بين “الوطن” و”المواطن” و”المواطنة”، وما يترتب عليها من التزامات وحقوق وواجبات تعزز وتقوي أواصر هذه العلاقة الإنسانية، التي تحفظ للمرء حقوقه وواجباته وتوفر له الطمأنينة والمحافظة على كيانه الشخصي والفكري والعائلي في المجتمع “الجمعي” بمنعزل عن الخوف والقلق … وعليه فلابد أن نتعرف عن قرب على هذه المفاهيم “المقدسة” لكي نحدد ماهية العلاقة بينها.
يتبلور مفهوم الوطن بعدة تعاريف تتباين حسب طبيعة تفكير الإنسان وثقافته ومعاناته في الحياة المرتبطة بالتمتع أو عدم التمتع بحقوقه المشروعة وتحقيق آماله، فمنهم من يقول بأن الوطن هو “مكاني الذي هاجرت اليه وأنا اشعر فيه بالامان لي ولاسرتي” … وآخرٌون يرون بأن الوطن هو “المكان الذي ولدت فيه” أو هو “ارض آبائي وأجدادي”، وكذلك “المكان الذي ترعرعت فيه ولي به ذكريات” … ومنهم من يذهب الى ابعد من ذلك بالقول أن الوطن هو “المكان الذي اشعر فيه بالامان من كل النواحي” … ومن المفكرين من يقول بأن الوطن هو “المكان الذي تحفظ فيه كرامتي ويكون فيه معاشي” … وهناك رأيٌ يحتفظ به بعض فقهاء اللغة بشأن تعريف الوطن بقولهم هو “المنزل الذي يقيم به الإنسان” … حيث نلاحظ بأن أكثر التعاريف تشير الى ضرورة توفر أمرين أساسيين لصيرورة ونشأة الوطن في ذهن المواطن وهما “المكان” ذات المعالم الحضارية و”الأمان”، الذي يجب أن يتوفر في ذلك المكان، أي أن الوطن يعني في هذه الحالة “المكان الذي يتوفر فيه الأمان للإنسان”، ويقصد بالامان هنا سيادة القانون الذي يصون حقوق وكرامة الفرد في المجتمع الجمعي ويحدد الواجبات الملقاة على عاتقه في اطار مؤسسات الدولة المدنية الديمقراطية المعاصرة التي تؤمن بحرية الفكر والعقيدة والعيش الرقيد لأبناءها دون تمييز. وهذا الامر مرتبط بالدولة ومدى آهليتها واستعدادها لسن التشريعات القانونية وتنفيذها، وكذلك مدى التزام المواطن بهذه التشريعات واحترمه لها.
أما مفهوم المواطن ومدى ارتباطه بالوطن، فيذهب بنا في طبيعة الحال الى القول بأنه ليس هناك وطن بلا مواطن، حيث يؤكد علماء اللغة والمفكرون على أن الفعل (وَطَنَ) يعني أقام بالمكان وأوطن به، أي اتخذه وطناً ومحلاً يسكن فيه، ومثله استوطن، لذلك فإن تسمية المواطن مشتقة من كلمة وطن ومفاعلة من الفعل “واطَنَ” الذي يعني وافق واتفق، فقولنا واطنت فلاناً على هذا الأمر يعني اتفقت معه عليه. حيث يقودنا هذا التفسير الى الإستنتاج بأن المواطن هو “الإنسان الذي يعيش في ذلك المكان (الوطن) ويكون جزءاً منه” … وبناءً على هذه العلاقة الأزلية اللصيقة والمتوازنة بين المرء والمكان الذي يعيش فيه فإنه يترتب على المواطن ايضاً، أياً كان جنسه أو منصبه أو اتجاهه السياسي والديني والعرقي، مسؤوليات قانونية واخلاقية تأريخية في المحافظة على كيان وطنه واستقلاليته والالتزام بقوانينه والدفاع عنه وعن حقوقه ومصالحه والمحافظة على مصالح شعبه، مستمداً قوته من الموروث الحضاري والتأريخ المشترك وروح “الوطنية والمواطنة” التي يؤمن بها ويعمل من أجلها، والتي تؤكد ولائه وحبه لهذه الارض وانتمائه لها ولابناءها، بحيث لاتكون هناك مصلحة عليا تتعارض ومصلحة الوطن والمواطن.
وفي ضوء هذا التوصيف يستطيع المواطن أن يمارسة دوره الرقابي الذاتي لحماية الوطن، أي القيام بدور الرقيب في المحافظة على النظام وحماية مؤسسات الدولة وتنفيذ القانون، بالاضافة الى المهام الاخرى الملقاة على عاتقه كمواطن يشعر “بالامان” والاطمأنان على كيانه الشخصي والفكري، حيث يتجسد هذا الدور بشكل أساسي في الالتزام بالتشريعات ورصد المخالفات القانونية، مثل تعاطي الرشا والضرر المتعمد بممتلكات الدولة وعدم تطبيق النظام أو الاساءة اليه … وكما يفعل المواطن الياباني على سبيل المثال حين يرى أحداً يرمي اعقاب السيكارة في الأرض بدلاً من أن يضعها في حاوية القمامة المخصصة لهذا الغرض … حيث يروي أحد الاصدقاء بأنه كان ذات مرة يسير في شوارع طوكيو عاصمة اليابان، فقام بالقاء عقب السيكارة على الارض بعد أن تأكد له خلو المكان من المارة، واذا به يرى امرأة مسنة تنظر اليه عن بعد بإزدراء شديد، وحينها تمنى لو أن الارض انشقت وابلعته في تلك اللحظة خير من أن يرى تلك النظرات الثاقبة المعبرة … وفي حادثة اخرى في اليابان ايضاً يروي احد الزملاء قائلاً: حين تعرضت اليابان للهزات الارضية، والتي ادت الى تدمير الكثير من المحطات النووية لتوليد الطاقة الكهربائية، دعت الحكومة اليابانية مواطنيها الى الترشيد في استهلاك الطاقة، وعملت برمجة لقطع التيار الكهربائي عن عدد من المدن والاحياء السكنية لعدة ساعة في الليل، فالتزم الجميع بهذه التعليمات التزاما منقطع النظير، رغم ان الكهرباء كانت كافية وليس هناك ربما حاجة الى الترشيد، وحين سألنا اليابانيين عن سر التزامهم بهذه التعليمات، قالوا بأنهم مستعدون أن يموتوا في تلك الليالي لكي تحيا اليابان في صباح اليوم التالي … وهكذا حين تحصل حادثة اصطدام في تقاطع احدى الشوارع القريبة من الاحياء السكنية في برلين، ويصل رجل المرور ليكتب تقريره عن الحادث، فتأتي امرأة مسنة تسكن في الطابق العلوي لتروي له كيف حصل الاصطدام حين كانت تنظر وهي جالسة في شرفة الشقة المطلة على مكان الحادث، فيأخذ الشرطي باقوال تلك المرأة، التي دفعها الشعور بالمسؤلية تجاه المحافظة على النظام في وطنها.
مما لاشك فيه، فإن هذا الموضوع يقودنا ايضاً الى حتمية التعرف على مفهومي “الوطنية والمواطنة” باصولها ومدلولاتها الحقيقة المستنبطة من مفهومي الوطن والمواطن، حيث أضحت “الوطنية” في كثير من البلدان مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمواطنة، فهي نسبة مؤنثة للوطن، ولا تتحدد اطلاقاً في حال كونها تعبيراً عن الانتماء والنشأة والولاء للوطن والتغني بحبه عاطفياً حين يعيش المرء في بلاد الغربة مثلاً، وانما تتحدد عملياً في التصرف والسلوك حين يقدم المواطن الخدمة لوطنه وفدائه بالمال والنفس أذا ما توفرت له الفرصة المناسبة، بحيث يعادل حب الوطن حب النفس، وهذا ما نستدل عليه في قوله تعالى: “ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم”.
وفي الفكر المعاصر يرتبط مفهوم المواطنة بالوطنية، التي لاتعني فقط النزعة الشعورية لدى المواطن، وانما النزعة الفكرية التي لها مبادئها العامة وطقوسها السلوكية، وتعني في مفهومها العام “أن الولاء للوطن مقدم على أي ولاء سواه، والولاء للوطن يعني الولاء لبقعته الجغرافية ولجماعته من الناس ولدولته ولشاراته المميزة”، حسب المفكرين. وعليه يمكن القول بأن الوطنية بهذه الصفة ليست حديثة، وانما وجدت في المجتمعات القديمة كاليونانية والرومانية، وتطورت في المجتمعات الاوربية الحديثة حين شحنت بشعور الاتباع الوطني وبروح التضحية، وبوصفها ديناً له قداسته ليحل محل المشاعر الدينية المسيحية، بحيث أصبح الدين والوطنية كفتي ميزان كلما رجحت واحدة طافت الاخرى. ويعزو بعض الباحثين ارساء مبادئ الوطنية في الدولة القومية الديمقراطية المعاصرة في اوروبا الى حدوث ثلاث تحولات كبرى متكاملة وهي، بروز الدولة القومية، والمشاركة في العمل السياسي والاشراف على حركته، وسن القوانين والتشريعات التي تنظم العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وبما يلبي حاجات وطموحات تلك المجتمعات بعد ان أوكلت مهمة اصدار هذه القوانين الى الشعب الذي اصبح مصدراً للسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، حيث تتجسدت في ذلك قمة “المواطنة”.
ويتفق عدد من المفكرين على أن “المواطنة” تعني مساكنة وتعايش في وطن واحد وما يترتب على ذلك من حقوق، وغالباً ما تتحد بالمفاعلة بين الوطن والمواطن أو المواطنين أنفسهم بصفتهم أفرادا في المجتمع الجمعي، وقد تكون بين العناصر المكونة للوطن كالشعب والدولة، والناس والقانون، وما شابه ذلك. ويشير أحد الكتاب الى أمرين أو مرتكزين اساسيين كبيرين تقوم عليهما المواطنة في العصر الحديث أو الحالي وهما: المشاركة في الحكم، والسماواة بين جميع المواطنين. حيث تتبلور هذه العناصر في “حقوق المواطن” أو “حقوق الإنسان في ظل وطنه” سواءً كانت حقوقاً مدنية أو سياسية أو أقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية، والتي دخلت في مسار عولمي وفي اطار منظمات حقوق الإنسان الدولية بحيث تدان اي دولة تنتهكها أو تتجاوز عليها. ويرى آخرون بأن مفهوم “المواطنة” المعاصر ومسارات تطبيقها ومتطلباتها التربوية تتمثل في عدة امور هامة منها: 1) المساواة بين المواطنين في ظل قومية وطنية واحدة على أساس الانتماء لهذه الوطنية. 2) امتلاك (المواطن) حقوقاً اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية يتكفل بها النظام. 3) امتلاك (المواطن) واجبات تجاه الدولة والمجتمع. 4) استحقاق المواطن ان يشارك بصورة ما في خدمة وطنه عبر المجال السياسي مباشرة او بالإنابة. 5) الولاء من المواطن للوطن ولكل رمزياته نشيداً وعلماً ولغة واعرافاً الى درجة التضحية في سبيله.
وما علينا في نهاية الامر الا أن نسلم ونسجل أعترافاً بأن العلاقة الجدلية بين مفاهيم “الوطن” و “والمواطن” و “والمواطنة” متجذرة ومتأصلة تأريخياً وحضارياً، ولايمكن في أي حال من الأحوال الفصل بينها، كما هو الحال في التوائم الثلاثة المتلاصقة مع بعضها، والتي اضحى أمر فصلها بعملية جراحية مستحيلاً لسبب انها تعيش بقلب واحد … فبقدر ما هناك حقوق للمواطن على الوطن … هناك حقوق للوطن على المواطن … والتي تتبلور منها العلاقات الإنسانية والتعايش السلمي في المجتمع الجمعي، وتنمو وتترعرع الوطنية والمواطنة في الضمير والوجدان.