زهير الخويلدي
“عليهم أن يبذلوا أقصى جهدهم لإحراز النصر الأكيد بواسطة توعية أنفسهم على مصالحهم الطبقية…. ويجب أن يكون شعار نضالهم: الثورة الدائمة.”[1]
ان لفظ تمرد Revolte في اللغة الفرنسية يعني الفعل الجماعي الذي ترفض بواسطته مجموعة معينة السلطة السياسية الموجودة أو القواعد الاجتماعية القائمة. ويدل أيضا على حالة من الفكر يرفض من خلالها فرد مع عداوة شديدة كل سلطة تحد من حريته. ان الروح المتمردة هي حالة مستمرة من المعارضة ليس فقط ضد النظام البرجوازي والمؤسسات والنزعة الأكاديمية بل وأيضا ضد الوضع البشري برمته وما يعانيه من ازدراء وامتهان.
غير أن تجذير التمرد واستبطانه في الفرد في فترة الشباب يمكن أن يتبخر بمجرد التقدم في السن وتراجع القوة البشرية واصابتها بالهرم. من جهة ثانية تعتبر المقاومة المطلقة وسيطا ضروريا للانتقال من التمرد الفردي الى الثورة الجماعية والهبة الاجتماعية. لكن ماذا تعني الثورة؟ وما ميزتها عن التمرد؟ وهل يمكن الحديث عن الثورة الدائمة مثل التمرد الجذري؟
ان لفظ ثورة Revolution في اللغة الفرنسية هو تغير مفاجئ في النظام الاجتماعي. لكن الثورة أكثر عقلانية من التمرد فهي لا تبحث فقط عن التحطيم بل تريد أيضا بناء نظام جديد، ولا تبقى في لحظة النقد والسجال بل تسعى الى أن تكون فاعلة وتتحول الى قوة اقتراح وتبدع بدائل ممكنة. وآيتها في ذلك أن كل المبدعين هم ثوار وأن كل الثوار هم مبدعون.
اذا كان التمرد واجب على كل فرد تعرض الى الاضطهاد والاستغلال فإن الثورة حق بالنسبة الى الشعوب التي تصاب بداء الاستبداد والشمولية. ان الثورة التامة والجذرية هي التي تريد تغيير نمط الحياة وتحويل العالم وتجديد الفنون واستبدال بنية الملكية والقضاء على نمط الحكم القديم وخلق نمط حكم مختلف يتناسب مع طموحات القوى الصاعدة ومختلف شرائح المجتمع في العدالة والكرامة والحقوق والحريات والمساواة.
لكن اذا كان التمرد يقتصر على المجال الاجتماعي والسياسي فإن الثورة تطلق على مختلف المجالات وبالتحديد تشمل ميادين الثقافة والعلم والاقتصاد والسياسة والتقنية والفنون. لكن ما المقصود بالثورة الدائمة؟ وهل هي على مراحل وتتبع نظاما متدرجا؟
ان لفظ الثورة الدائمة Révolution permanente في اللغة الفرنسية يعني التطوير المستمر للثورة الديمقراطية لتتحول الى ثورة اشتراكية وخاصة بالنسبة الى الدول التي تشهد أنظمة رأسمالية متخلفة والتي تنتمي الى العالم الثالث التابع والخاضع لسيطرة العالم المتقدم.
لقد رأى كارل ماركس أنه من الضروري تصعيد الثورة وعدم الاقتصار على دولة واحدة من أجل بلوغ العالمية وذلك بأن يستمر الثوار في النضال وعدم التوقف ومواصلة تفكيك وتحطيم الأجهزة والبنى القديمة وجعل الثورة تكتسح المعمورة وتنصر على الصعيد الكوني.
أما ليون تروتسكي فإنه أعطى الأولوية للعمل الثوري في العالم من أجل تهيئة الظروف المناسبة لقيام الثورة العمالية الأممية وذلك بتجاوز الحدود القومية ومحاربة التخلف الموروث ومحاربة الامبريالية والتقسيم العالمي للعمل والسوق الدولية بالتنسيق الاشتراكي للقوى الانتاجية على نطاق عالمي في ظل الدولة الاشتراكية الواحدة ذات التنظيم الذاتي.
إذ يقول هنا:”إن الثورة الدائمة تعني… ثورة ترفض أن تساوم مع أي شكل من أشكال السيطرة الطبقية ولا تقف عند المرحلة الديمقراطية بل تتجاوزها إلى الاجراءات الاشتراكية وإلى الحرب ضد الرجعية الخارجية… ولا تنتهي إلا بتصفية المجتمع الطبقي تصفية تامة.”[2]
لكن كيف تندرج منهجية اقامة دولة ديمقراطية عقلانية تعمل على جميع القضايا بالطرق السلمية والإصلاحات التدريجية والتطوير المرحلي ضمن مسار عكسي من الثورة المضادة؟
اللافت للنظر أن الثورة العربية في نسختها الأولى في تونس ومصر أنها كانت هبة اجتماعية غير تقليدية تميزت بالعصيان المدني واستخدمت طرق سلمية وارتكزت بالأساس على المهمشين والمعطلين والعنصر الشبابي والطلبة والتلاميذ والعمال والناشطين والمثقفين والنقابيين والمحامين ورجال التعليم والصحفيين وحددت الخروج من النفق كهدف لها. كما أن مطمحها هو اسقاط دولة الفساد والتخلص من النظام الشمولي والتحرر من التبعية للغرب واعطاء السيادة للشعب والحرية للأفراد والشغل لطالبيه والحقوق للجميع دون استثناء.
كما أن الانتشار العربي الذي عرفته هذه الثورة ومحاولة الركوب عليها وعسكرتها وتدجينها وتوظيفها لخدمة بعض الأجندات المعولمة قد جعلها تتصف بالخاصية الحضارية العربية.
غني عن البيان أن الصيرورة الثورية العربية ستظل متواصلة مهما حادت عن مسارها ومهما حاول البعض افقادها لطابعها المدني والسلمي وستحقق أهدافها في ادخال العرب الى الحداثة السياسية وانجاز حلم الوحدة وتحرير فلسطين وفرض السيادة على الأرض وأن تفكيك الأنظمة التقليدية هو أمر لا مفر منه ورهين ديمومة الانتفاضات العربية في أروقتها الناطقة بلغة الضاد في الغرب والشرق والخليج وأن بناء الدولة العربة الديمقراطية ذات المرجعية الاسلامية التقدمية هو أفق لكل فعل ثوري جماعي. فمتى يفهم المترددون أن العرب قد عادوا من جديد للفعل في التاريخ ولن يعودوا على أعقابهم؟ وكيف نستكمل مهمتنا الثورية وننهي الانقسام مادام الشعب المسلح بالأمل هو الذي يريد ذلك؟
المراجع:
كارل ماركس، من خطاب إلى “العصبة الشيوعية أبريل 1850 حول ثورة 1848-1849 في ألمانيا.
ليون تروتسكي، ثورة دائمة أو ثورة على مراحل؟ ، نصوص مختارة، طبعة دار الشمس،1989
كاتب فلسفي
[1] كارل ماركس، من خطاب إلى “العصبة الشيوعية أبريل 1850 حول ثورة 1848-1849 في ألمانيا.
[2] ليون تروتسكي، ثورة دائمة أو ثورة على مراحل؟ ، نصوص مختارة، طبعة دار الشمس،