عبدالامير الركابي
ماالذي ينقص هذه الجهود او المواقف، ولماذا نعتبرها دون المستوى المطلوب او الذي تتطلبه اللحظة الحالية من التاريخ، ومن تطور الاحداث والظواهر في المنطقة ؟ لاشك ان النوايا التي تحرك هذا النمط من الكتاب والباحثين في التاريخ والفقه، واصحاب الراي، هو مما يستجلب الانتباه، باعتباره مظهرا من مظاهر الحيوية وتوفر النوايا الحسنة. الا ان المشكلة التي تحول بين هذه الظاهرة، وبين ان تصبح مصدرا لمتغيرات فعلية وجدية، انما تتاتى من ضعفها ومحدودية اثرها، وتقليدية منطلقاتها، اذا ماقورنت بالحالة التي تامل بالتصدي لها، او معالجتها. فالواقع العربي والاسلامي، لم يعد يواجه اليوم من القضايا والمشكلات، مايمكن ان يتجاوزبمثل هذه الرؤى والمواقف، والازمة التي يعاني منها الفكر المتداول، تعدت المعالجات المعتادة، او النمطية المنتزعة من ترسانة الافكار التي ننوه بها.
تبدو معضلات وتعقيدات مشكلات منطقتنا والعالم اليوم، ابعد بكثير من ان تحل بناء على المحاججات او المنظورات ” السلفية”، اي باعادة تطبيق مفاهيم انتهى مفعولها تاريخيا. فالاسلام الذي يتحدث عنه هؤلاء السادة، عاش في الواقع، وسرت عليه مفاعيل الحياة، وحقق الذي حققه، سواء بالنسبة للعرب، او للامم التي دخلت الاسلام. وحين خرج العرب بالدعوة تغيروا مع الوقت، وحيث قاموابتعريب البلاد التي دخلوها كمادة بشرية، فانهم لم يعودا نفس العرب اهل الجزيرة الا في مجال ممارسة السلطة، وفي هذه الناحية بالذات انتصرت العصبية على النبوة، وهذا امر طبيعي. فالدعوة المحمدية اصلا، كانت قد وقعت داخل مجتمع عصبية، وهي تمكنت من الانتصار عليه خلال حياة النبي / ص/ الاان العصبية، هي التي انتصرت بعد وفاة النبي. والقول بان / الامامة في قريش/ هو التكريس الفعلي لتلك العصبية، التي صارعت خارج الجزيرة لكي تفرض سلطتها ومفهومها، وهو ماتعززبالتسنن الذي الحق بمؤسسة الخلافة، فقام دين خاضع للعصبية، وغابت النبوة المنتصرة على العصبية، كما هو الحال ابان دولة المدينة النبوية، او والى حد ما، خلال حكم الراشدين الخمسة.
ان فكرة الاسلام الذي ينهي القبلية وعصبيتها، هو افتراض غير متحقق في الواقع. فالذي حدث هو ان النبوة اوجدت بعدا اخر، في حياة العرب، اعلى كونيا، ومتعاليا على القبلية، الا انه لم يلغها، في اي فترة كانت. وظلت هذه وماتزال قائمة الى اليوم، كما انها لم تبق فعالة وحسب، بل افلحت في وضع الدين في خدمتها، فاقامت اشكالا من الخلافة المستبدة الطاغية والمطلقة الصلاحية، والمحاطة برابطة الدم والقرابة، وبمفاهيم طاعة ولي الامر. هذه الحالة، كانت قد اثارت ضدها نزعات وعصبيات مقابلة،اصبحت هي الاخرى تتوسل بالدين الجديد، وتضع لنفسها المفاهيم والنظريات، وتتحول الى تيارات وطوائف، تدعي صفاء الدعوة وخلاصة الدين الصحيح القويم.
تبدو علة العلل في الفكر الاسلامي التجديدي في العالم العربي، كامنة في طغيان المنظور السلفي عليها، وتكرارها نفس الموضوعات. وهي بالمقارنة مثلا بالفكر الاسلامي الايراني، تبدو شاحبة ومكررة، وبلا روح ابداعية. فاذا قارنا فكر الاسلام العربي باسماء من نوع السبستري، او عبدالكريم سروش، او شريعتي، او اخرين من الايرانيين، نجد انفسنا امام مستويين مختلفين من المقاربات، احدهما بدائي ومكرر، والاخر مبدع يحاول ايجاد الاجوبة، في الاطار الواسع لتطور الافكار. وفي العالم العربي مثلا، يكاد العقل يعجز، لابل هو عاجز حتى عن الفصل بين النبوة او الدعوة وبين المجتمع، او الواقع المعاش، ويردد هؤلاء الذين يتحدثون بالاسلام، انه صالح لكل زمان ومكان. لكنهم اذا رجعوا الى تاريخه يصادفون التفارق واضحا، بين النبوة والواقع، منذ اليوم الاول لوفاة الرسول، وعقد اجتماع السقيفة. الامر الذي ظل يتطور، وتزداد معه النحل والملل تباعا، الى يومنا الحالي. ثم جاءت الامم الاسلامية غير العربية، فارسية وتركية خصوصا، وهيمنت على العرب، وسيدت مفاهيمها الطغيانية الاستبدادية الجلفة للاسلام عليهم، بينما العرب في حالة تراجع وانهياروتسليم للاخرين، وهو مااستمر لقرون طويلة، وكرس مفاهيم لاتمت بصلة الى الاسلام العربي الاول، او الى النبوة.
اذاتحدثت مع هؤلاء السادة عن المطلوب، والذي يتناسب مع الحالة المعاشة اليوم، يركزون على ضرورة مراعاة مايقبله او لايقبله الجمهور، ولاتدري هل ان هؤلاء يداهنون الناس، وينافقونهم، ام انهم يؤمنون بما يقولون، فان كانوا من الفئة الثانية، فانهم بلا ريب سياسيون، واصحاب اغراض، ولايمتون لعالم الايمان بصلة. هذا علما بانهم يدعون الايمان بالانبياء وسيرهم وتضحياتهم، ويرددونها كل يوم وكل ساعة. فهل ان ابناء الانبياء، ومن ينتمون الى عالم ومدرسة النبوة ، يصح فيهم ان يتصرفوا بمداهنة، ومراعاة، ويخافون التضحية ومعاندة الناس اذا وجدوهم على ضلال. هل يجوز اليوم ان نقبل الخطا الشائع والقاتل، دون ان نفكر حسب الافق النبوي، الذي يقول لنا بان بعض الانبياء عاشوا مئات السنين يتلقون الهزء والتعدي من الجهلة، بينما هم يبنون السفينة. او اضطروا لقبول كل اشكال الاضطهاد والقهر والتكفير، وخالفوا عامة الناس في رايهم ومايعتقدون، وقتلوا احيانا على يد الضالين المضلين، فلم يبدلوا او يغيروا، واتهموا بالجنون، وبالشعر وبغيره من النعوت، الا انهم اصروا على عدم قبول منطق ” هذا ماوجدنا عليه اباءنا”، واصروا على تغيير القائم، ونبذ السائد ومعاندته ومخالفته وتغييره.
ثم هل يجوز لمن هم من عالم ومناخ النبوات، اي الوعي الكوني، ان يظلوا قابعين بين دهاليز الطوائف والملل، يعدلونها هنا، ويصوبونها هناك، من دون ان ينظروا الى التاريخ الاسلامي والتجربة الاسلامية بكليتها، وبما آلت اليه، وما تطرحه على امة التوحيدية التاريخية، من تحديات، هل العالم الذي شهد نهضة الاسلام، ومن ثم تراجعه وتمزق اوصاله، ووقوع العرب تحت الظلمة والانحدار والانحطاط، خلال مايقرب من الف سنة، يمكن ان يستعاد من جديد من اوله وان تلغى تاريخيته، اي وجوده الواقعي المعاش والممارس، ومالسبب؟ هل اوقف الله الوجود والتاريخ والخلق، اليس من اهم سمات العالم والكون، كما قرره الخالق، انه يتقدم،وان الارض تدور، والاجرام تتحرك والكون سائر الى الامام، ام ان التوحيدية التاريخية، هي جمود على نقطة واحدة، ووقوف عند لحظة من اللحظات، يرجع اليها، وتستعاد، ثم يرجع اليها تكرارا، الى مالا نهاية له ؟.
الحلقة القادمة والاخيرة: ماذا لو عشنا على الارض مليون سنة اخرى ؟/3/