عبدالامير الركابي
يجلب احمد الكاتب منذ فترة الانتباه ويثير النقاشات بسبب رايه المعلن والذي ضمنه كتابه عن الفكر الشيعي ، والسبب في ذلك جراته وخصوصية ان لم يكن فرادة مايتناوله ، فهو يذهب مباشرة الى ركيزة اساسيه من ركائز التشيع هي مسالة الامام الثاني عشر، فيقول بلا مواربة ان هذه الفكرة قامت من دون اساس وهي مفبركة ، والشخص المسمى الامام الغائب الثاني عشر في ترتيب الائمة الشيعة لاوجود له ولم يولد ، فابوه اي الامام الحسن العسكري لم يعقب ومات وليس له اولاد ، الامر الذي خلق ازمة في التيار الشيعي الامامي ، الذي كان يقول باستمرار الامامة في ال البيت الى يوم القيامه، مما دفع بالقائمين على المذهب لان بفبركوا قصة ولادة محمد بن الحسن العسكري وغيبته، وانتظاره لحين ظهوره في اخر الزمان حيث سيملا الدنيا عدلا بعد ان تكون قد ملات جورا.
والكاتب يتحرى التاريخ والوقائع كما يتابع فكرة المهدي نفسها وتنقلها بين الائمة الشيعة الاثنا عشرية وغيرهم من اولاد وسلالة الامام علي، وبعد التدقيق في الروايات والوقائع التي يعثر عليها ينتهي الى الجزم بعدم وجود شخص اسمه محمد بن الحسن العسكري، اما فكرة المهدي نفسها، فهو يحيلها الى مايمكن اعتباره ظاهرة عامة، نجدها لدي كافة الشعوب وبالاخص منها التي تواجه ازمات او انتكاسات خلال مسارات تاريخها، الا انه وبعد ان يعمم يعود فيخصص، اذ يعتبر موضوع المهدي في العراق بالذات، موضوعا خاصا، وله تبعات تجعله مختلفا من حيث الوقع والاثر والمعنى والدلالة، والاثرهنا له تجسيد مختلف عما يعرف في غيره من بلدان العالم .
والحقيقة ان هذه النقطة بالذات تؤشر لنا منذ البداية الى نمط ثقافة الاستاذ احمد الكاتب، فمعرفته المشيخية، تمنعه من يكون ملما فعلا بالظواهر والافكار، وبتاريخ الحضارات او بالعلوم، ومنها علوم الاجتماع وعلم اجتماع الاديان منه بوجه خاص، وهو بناء عليه لا ينتظر منه ان يقدم رايا يصل الى الدرجة، او السوية الفكرية التي تتعدى النطاق المشيخي والحوزوي ، وهذا المجال في الحقيقة، غير قادر على الاحاطة بموضوع مثل موضوع “المهدي” على عمقه وترابطه مع الخاصيات الحضارية للعراق وتكوينه، وبما يتعلق بالحضارة العراقية وخاصياتها، فان هذه الفكرة هي فكرة اساسية اصيلة في التكوين الوطني العراقي، وجدت في الحضارة الاولى قبل الاسلام، وتكررت مرة اخرى بصورة اوضح واكثر تبلورا،في الفترة الاسلامية او خلال الدورة الحضارية العراقية الثانية. ولكي لانطيل وندخل في التفصيلات، سوف نتحاشى الان اصول فكرة المهدي في الحضارة القديمة ، الا اننا يجب ان نتذكر بان الحضارة العراقية من خاصياتها انها تمر بفترات انقطاع، وهذا امر يتصل بحساسية البناء الحضاري العراقي وتعقيده.مع تعرضه الدائم للضغوط والغزوات من خارجه. حدث الانقطاع الاول مابين سقوط بابل والفتح الاسلامي، والانقطاع الثاني منذ سقوط بغداد على يد هولاكوعلى القرن السابع عشر، لهذا فان مسالة الامل بالعودة الى الحياة، تظل لازمة للوعي العام، وخلال قرون الانهيار، يلعب الحلم بالنهوض، دور العامل النفسي المساعد على الاستمرار والبقاء.
ووفي هذا السياق، جاءت فكرة المهدي خلال الفترة الاخيرة من الحكم العباسي، ولم تكن نتيجه مازق التشيع، بل لمازق البناء الحضاري برمته، واستقرار الشعور بقرب انهياره . وهذه الفكرة لاتبتعد عن فكرة ” الوعد ” الابراهيمية التي ختمت عليها الفترة الحضارية الاولى ، ففشل الابراهيمة وانتكاسها حولها الى حركة ، والى وعد حيث ” يرث الله الارض وماعليها ” مع فارق ان الوعد المذكور عاش خارج العراق ، وتحور مع الزمن وتوالت عليه رسالات داخل مجموعة ” عراقية الاصل” ظلت تعيش في عزلة عما حولها ، الى ان تجلى الوعد في الجزيرة العربية عبر الثورة الابراهيمية الاسلامية ، التي عادت الى العراق بالفتح وكانت هي الحافز الذي اعاد دورة الحضارة العراقية للعمل فكانت الدورة الحضارية الثانية الممتدة من الفتح حتى سقوط بغدادعلى يد المغول.
المسالة الاهم هنا هي ان فكرة المهدي هي فكرة عراقية اصيلة ، وانها انتشرت مثلها مثل غيرها من عشرات المفاهيم في الاصقاع المجاورة ووصلت اليونان وحضارتها وتحورت واتخذت مظاهر واشكال اخرى، اما في العراق وكما يلاحظ الاستاذ احمد، فلقد حافظت على اصالتها ومفعولها ومكانتها وقوة فعلها.
هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى اهم، فان الاستاذ احمد يتجه اتجاها اذا اعتمدناه، فاننا سوف نخلخل ونهدم بنية الوعي الايماني التوحيدي برمته، ذلك لان الروايات التوراتية كلها، تتضمن نواحي مشابهة، تخص قسما من الانبياء، او جميعهم تقريبا، ماعدا النبي محمد / ص / الذي لايمكن نكران وجوده التاريخي، فالنبي عيسى ليس هنالك اي دليل على وجوده التاريخي، وحين سال نابليون بابا اوربا: هل للمسيح وجود تاريخي ؟ لم يجب البابا باي شي وصمت. وكل الدلائل تشير الى ان المسيح هو ثلاث شخصيات، كلها المسيح، وبعضهم يقول ان لامسيح قد وجد على الاطلاق، والشيء نفسه ينطبق على موسى، فقصة موسى هي قصة سرجون الاكدي بحذافيرها، والنبي يوسف لاوجود له على الاطلاق، في تاريخ مصر ومزامير داود وجدت في اور، والتوراة الحاليه ليست توراة موسى، فتلك قد ضاعت، والموجودة هي التوراة التي كتبها النبي عزرا في بابل في القرن السادس قبل الميلاد، وعليه فان طلب الوثوقية يخالف كتاب الله الاخير، اي القران، واذا طبقنا منهج الاستاذ احمد، فاننا سوف ننتهي الى الاخلال ببنية الكتاب الذي يرتكز اليه الاسلام، باعتباره كتاب الله وختام ماانزل الى الناس.
ولست اكفر الاستاذ احمد الكاتب بناء عليه الا انني انبهه الى سوء المنهج الذي اعتمده، والى خطورة اعتماده. وحسب رايي فان طريقته في البحث التاريخي، متاثرة بالعقلانية التاريخية الاوربية الحديثة، كما يتبناها عبدالله العروي في كتابه “العرب والفكر التاريخي”، وهذه مدرسة ومنهج يحق للاستاذ الكاتب ان يتناه بالطبع ولكن على ان يخرج من الاسلام لابل ومن التوحيد كله ومن منهجه ومدرسته.