حين يخلو الإنسان إلى نفسه يمكنه، في الغالب الأعم، ان يكون أكثر صراحة وشفافية وقدرة على التفكير الحر دون قيود سياسية أو اجتماعية تثقل عليه بسبب مراعاته للتقاليد والعادات الاجتماعية وخشية عدم الارتياح من جانب المجتمع عموما أو من أفراد في حالة التصريح بأفكاره والكشف عن مكنوناته. وفي فترات العمل السياسي النشط غالباً ما كنت أعود إلى نفسي محاسباً إياها عن كثير من الأمور التي حصلت في ذلك اليوم أو قبلها في محاولة للاستفادة من أخطائي بأمل عدم تكرارها. ولكن الظروف المحيطة بالإنسان هي التي غالباً ما تتحكم بتصرفات الإنسان اليومية، سواء رغب بذلك أم كره! وفي أحد الاجتماعات العامة اعتذرت لمن يمكن أن أكون قد أسئت إليه أو إليها دون قصد مني وأثناء زحمة العمل السياسي، لاسيما الأنصاري.
منذ فترة غير قصيرة أتابع بقلق وعدم ارتياح دور الإعلام العراقي، الداخلي والخارجي، بشكل عام، حيث تتردد فكرة خاطئة مفادها: لم يعد للأحزاب السياسية اي دور في الحياة السياسية والتحولات الاجتماعية الثورية المعاصرة، وبالتالي، لا بد من رفضها لأنها السبب في مصائب وكوارث العراق أولاً، وأن عملية التحولات والتغييرات السياسية والاجتماعية سوف تتحملها الحركات الجماهيرية العفوية التي تعتمد المبادرات الذاتية ومنظمات المجتمع المدني والحشود الشعبية وشبكات أو منصات التواصل الاجتماعي، فهي القوة القادرة على النضال من أجل التغيير وتحقيقه، وليس الأحزاب السياسية ثانياً. ويشيرون في ذلك إلى ما حصل في تونس ومصر في الربيع العربي وفي العراق في انتفاضة تشرين والدور الكبير الذي لعبته ومازالت تلعبه منصات التواصل الاجتماعي ودورها الكبير في التعبئة والتحريض والتظاهر وتحقيق الأحلام. في هذا الطرح نصف الحقيقة، وهو الدور المهم للحركات الجماهيرية، والنصف الثاني هو الخطأ بعينه أي الفصل بين الحركات الجماهيرية والأحزاب السياسية، أي رفض وجود أحزاب سياسية تلعب دورها المطلوب في الحياة السياسية وفي الحركات الجماهيري والتحولات الثورية السلمية في البلاد.
لم تتصد لهذا الاتجاه الخطير في رفض الأحزاب السياسية وإدانتها دون تمييز سوى بعض الصحف المحلية، لاسيما الصحف التالية: طريق الشعب والمدى والتضامن وإلى الأمام. وهذه الفكرة، التي كما يبدو، اصبحت ظاهرة سلبية يرددها كثير من الناس، ومنهم من هم ضمن قوى الانتفاضة التشرينية، دون وعي منهم بعواقبها السياسية الفعلية على الواقع العراقي وعلى وجهة التطور، وعلى الحركات الجماهيرية الواسعة ذاتها، التي ربما تنتهي بالتعثر والفشل لغياب الرؤية الواضحة والقيادة الفاعلة والمؤثرة والقادرة على قيادة النضال صوب الأهداف المنشودة من الحركات الشعبية الديمقراطية والتقدمية، لاسيما حين تكون هذه القيادة تعبر عن تحالف لأحزاب سياسية مدنية في ائتلاف سياسي أو جبهة وطنية موحدة.
صحيح جداً حين نقول إن الأحزاب وحدها دون حركة جماهيرية واعية ومنظمة لا يمكنها تحقيق المنشود، ولكن أيضاً لا يمكن للحركات الشعبية تحقيق ما تصبو إليه دون تنظيم سياسي أو أحزاب سياسية وقيادة وبرامج سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وبيئية.
كلنا يتابع الدور المتنوع والتأثير المباشر الذي يلعبه الإعلام على مشاهدي ومشاهدات التلفزة، أو مستمعي ومستمعات محطات الإذاعة، أو قراء وقارئات الكتب والمجلات والصحف اليومية، إضافة إلى ما ينشر على صفحات وشبكات التواصل الاجتماعي المتنوعة والعديدة والمتزايدة سنة بعد أخرى. إذ ما يذاع عبر التلفزة والإذاعات العربية وشبكات التواصل الاجتماعي والمجلات والصحف يمكنه أن يساهم في تشكيل رؤية معادية لدى المتلقي أو المتلقية للأحزاب السياسية والحياة الحزبية بشكل عام، لاسيما وقد شهد العراق تجارب معقدة وصعبة ومريرة طيلة العقود المنصرمة ومنذ تأسيس الدولة العراقية حتى اليوم أولا، ثم النهج الذي فرض نفسه خلال الأعوام التي بدأت في اعقاب الإطاحة الخارجية بالدكتاتورية البعثية الفاشية، والتي كان أبطالها قادة الأحزاب الاسلامية السياسية والميليشيات الطائفية المسلحة، والأحزاب القومية المتنوعة ثانياً، إضافة إلى الدور الكبير لقوى الاحتلال الأمريكي البريطاني وقوى إيران في البلاد ثالثاً، والإحباطات التي تعرضت له الجماهير بسبب سياسات الأحزاب الحاكمة في النظام السياسي الطائفي المحاصصي الفاسد رابعاً، وضعف ردود الفعل المحدودة لدى من يعارض هذه التوجهات الخاطئة التي تريد انهاء دور الاحزاب دون التمييز الواعي والمعمق بين الأحزاب القائمة في العراق وتلك التي يفترض ان توجد وتلك التي يفترض ان تختفي لأنها تتعارض من حيث المبدأ والواقع مع الدستور العراقي ومع اللوائح العالمية لحقوق الإنسان، باعتبارها أحزاباً سياسة عنصرية أو دينية وطائفية سياسية، أو مناهضة لحقوق المرأة ومساواتها بالرجل خامساً.
تشير المعطيات المتوفرة عن جميع الحركات الاجتماعية ذات الوجهة السياسية التي لعبت دوراً في النضالات السياسية الاجتماعية الأخيرة في كثير من دول العالم، ومنها بعض الدول العربية، إضافة إلى العراق، إلى إنها تتكون من مجموعات نضالية متباينة من حيث الفكر والسياسة، من حيث القوى التي تعبر عنها، وكذلك من حيث الأهداف العامة والتفصيلية، وكذلك تباينها في الوسائل والأساليب التي تمارسها في نضالها. مع احتمال توحدها في اتجاه يبدو وكأنه اتجاه واحد حين يتصاعد زخم الحركة الشعبية وقدرتها في التأثير، ولكنها سرعان ما تقف في مواجهة السؤال التالي: ما العمل الآن؟ وهنا تبدأ الرؤى أو الاجتهادات المتباينة والتي تنشأ عنها الاختلافات والخلافات في الظهور والفعل، بسبب تنوع القوى المشاركة في الحركة وعدم وجود اتفاق واعٍ وفاعل على الأهداف الأساسية التي يفترض أن تحققها وتنتهي إليها الحركة الجماهيرية والحشود المعبأة، وغياب القيادة الواحدة والفعلية لكل الجماهير المشاركة في الحراك الشعبي. يمكن أن نأخذ العراق نموذجاً في هذا الصدد.
هكذا واجه الربيع العربي بمصر، إذ استطاعت قوى الإسلام السياسي (جماعة الإخوان المسلمين) سرقة الثورة الشعبية، ثم ناضلت الحركة الشعبية من جديد ضد هذه الجماعة وانتصرت عليها فعلاً، ولكنها خسرت الثورة ثانية حين سرقتها قيادة القوات المسلحة، وفرضت نظاماً عسكرياً جائراً ومناهضاً لحقوق الإنسان والحياة الديمقراطية في مصر الشقيقة. لقد ضاعت الثورة بسبب غياب قيادتها السياسية الحزبية الواعية أو بسبب ضعف الأحزاب الديمقراطية وعدم تحالفها، التي كان عليها تسلم زمام أمور الحركة الشعبية بيديها. هكذا هو واقع الحال في الحركة والانتفاضة التشرينية في العراق، التي ما تزال جارية وبضعف ملموس لأسباب عديدة، بما في ذلك وباء كورونا ومناورات ومؤامرات الأعداء والقوى الانتهازية وعمليات الاغتيال والاختطاف المستمرة في ظل حكومة جائرة وانتهازية ومساوة على مصالح الشعب، مع احتمال كبير بتصاعد الانتفاضة مجدداً بزخم أكبر، مع واقع بأن الحركة الجماهيرية مازالت دون وحدة عمل وهدف، حتى لو كانت متنوعة، ودون قيادة فعلية لمجمل الحركة، بل مازالت حركات اجتماعية سياسية في العاصمة بغداد وفي المحافظات، لها قاسم مشترك، ولكن ليس لها قيادة مشتركة، كما ليس هناك تحالفاً لعدة أحزاب وقوى سياسية قادراً على إقناع القسم الأعظم من قوى الانتفاضة التشرينية بدوره وقدرته على قيادة الانتفاضة إلى برّ السلام. إنها المعضلة الكبيرة التي ستبقى تواجه الحركة الجماهيرية وتدور فيها كحلقة مفرغة ما لم يتسن لها قطع تلك الحلقة بتحالفات سياسية وقيادة سياسية قادرة على تحقيق الأهداف المنشودة. وهذه لا تتم بمجرد رغبات وأماني طيبة، بل بوجود الأحزاب السياسية ذات البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية القادرة على إقناع قوى الشعب، بطبقاته وفئاته الاجتماعية الوطنية ذات المصلحة بالتغيير، على وفق برامجها وتعبيرها عن مصالحها المتنوعة.
إن واقع العراق الراهن يتطلب وجود أحزاب سياسية تعبر عن مصالح الفئات الاجتماعية كالعمال والفلاحين والبرجوازية الصغير في المدنية، ومنها فئة المثقفين والمثقفات الواسعة، والبرجوازية المتوسطة، وهي كلها فئات قادرة في ان تكون حاملة للمجتمع المدني الديمقراطي وساعية لإقامة دولة وطنية ديمقراطية علمانية. وهي التي يستوجب أن تقوم تحالفاتها الاجتماعية والسياسية بوضع برنامج مشترك للمرحلة القادمة التي تتضمن الخلاص من النظام السياسي الطائفي الفاسد والمقيت وتحقيق التغييرات التي تنشدها الحركة الجماهيرية الشعبية التي انطلقت بقوة وانفجار شديدين في مواجهة قوى النظام الظلامية، ولكنها لم تستطع حتى الآن تحقيق المنشود لغياب العوامل المساعدة على تحقيق الانتصار رغم حجم الضحايا الكبير الذي قدمته قوى الانتفاضة التشرينية خلال العامين المنصرمين.
إن القوى التي تدعو إلى رفض الأحزاب ونشر الفكر المعادي للحياة السياسية الحزبية هي قوى إما جاهلة لأهمية ودور الحياة الحزبية في الحياة السياسية لأي بلد من البلدان، أو أنها لا تريد قصداً أن تحقق الحركات الشعبية النصر على النظام الطائفي الفاسد وتستفيد من وجوده وتبتزه بطرق شتى بسبب وجود قوى معارضة له غير قادرة على حسم المعركة لصالح الشعب، أو أنها مأجورة تماماً. هذا هو دور بعض قوى وأجهزة الإعلام والتلفزة في الشرق الأوسط/ ومنه العراق. كما إنها تريد خلط أوراق الأحزاب بين الأحزاب الإسلامية السياسية، التي يشكل وجودها تجاوزاً على الدستور والحياة الديمقراطية وأسس بناء الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني الديمقراطي، وبين الأحزاب السياسية الديمقراطية والتقدمية التي تبنى على أسس مدنية وديمقراطية.
أتمنى أن يتسع النقاش حول هذه القضية لكي يتبين لقوى الانتفاضة الشبابية والشعبية في العراق الأهمية البالغة للحياة السياسية الحزبية في الحراك الشعبي الجاري، بدلاً من الدعوة إلى إلغاء الحياة الحزبية ومهاجمة مقرات الأحزاب أو إشعال النيران فيها. إن التمييز بين الأحزاب وأهدافها وأساليب عملها مسألة مهمة جداً وضرورية، وبالتالي فأن الخلاص من الأحزاب المتعارضة مع مواد الدستور لا تتم بالقوة، بل عبر عملية إقناع سلمية وديمقراطية أولاً، وعلى وفق مواد الدستور العراقي وكذلك لوائح ومواثيق حقوق الإنسان الدولية والإقليمية. التي تحرم كلها وجود أحزاب سياسية تقوم على أسس دينية أو طائفية أو عنصرية أو وجود أحزاب تميز بين البشر وبين المرأة والرجل في غير صالح المرأة.
خلوة مع النفس بصوت مسموع حول الحياة الحزبية في العراق
اترك تعليقا