لطيف عبد سالم
بفرحٍ غَامِر تلقّيتُ من صديقي الشاعِر ناظم الصرخي مجموعته الشِعريَّة التي أصدرها سنة 2014م عن دار الحوراء في شارع المتنبي ببغداد، والتي وسمها باسم (عُشْبة الخُلُود). وحين تصفحت الديوان للمرة الأولى قصد معاينته, وجدتني متفاجئاً وفرحاً في الوقت ذاته بعد أنْ ظهر ليّ أنَّ جميعَ قصائد الديوان كتبت على أسلوب التفعيلة في الشِّعر؛ لأني عرفت الصرخي شاعِراً مهتماً بقصيدة العمود. وهو أمر يعبر عن قدرته على النظم بمختلف أنواع الشِّعر.
لعلَّ أول ما استوقفَني في ديوان الشاعِر الصرخي هذا، هو الإيقاعُ في عُنْوَانه النابض بحَتْميَّة حمل الإنسان أوجاعه، والسعي جاهداً في مهمة البحث عن عوالمٍ مفعمة بألوان التفاؤل التي بوسعها أنْ تعيدَ إليه عذوبة الأمل في الحياة، فلا رَيْب أنَّ الأمرَ الذي يتبادر إلى الذهن مباشرة عند قراءة العنوان المذكور أو سماعه هو اتصال عُشْبةَ الخُلُود بتراثٍ أسطوريّ يتجسد بملحمةِ جلجامش السومرية التي تُعَدّ عملاً إبداعياً اسطورياً شِعرياً ينظر إليه العديد من الباحثين بوصفه أقدم قصة كتبها الإنسان. ومما هو جدير بالإشارة أنَّ مجموعةَ الحكايات الأسطوريَّة والبطولية، فضلاً عن الأعمالِ الخارقة التي تضمنتها تلك الملحمة – المكتوبة بخطٍ مسماريّ على أحد عشر لوحاً طينياً – تتمحور حول السعي المستميت للملك جلجامش الذي عاش بمدينة أوروك (الوركاء) الواقعة في وادي الرافدين إلى معرفةِ سِرّ الحياة الخالدة.
ليس خافياً أنَّ الصرخيَ استمد عُنوان ديوانه هذا من قصيدةِ (عُشْبة الخُلُود) التي عمد إلى جعلِ موقعها في مُقدمةِ نصوصه الشِعريَّة التي ضمنها إياه. ويبدو أنَّ ذلك مرده إلى تيقنه من أنَّ قصيدتَه عُشْبة الخُلُود تلخص الملامح العامة لمحتوى ديوانه موضوع بحثنا، والذي زينه بواحد وأربعين نصاً من شّعرِ التفعيلة، إذ يتضح من التمعن في تلك القصيدة التي استهل بها ديوانه أنَّه كان يَحدُوه الأملُ في أنْ تنهضَ حاضرة الدنيا (بغداد) قوية صلبة في وجه من يناصبونها العداء، وتتجاوز كبوتها لتعود كما كانت عاصمة العلم والثقافة، وأميرة زمانها، بعد أنْ دنستها خيول المحتل، وأفقدتها بريقها كما أضاعتْ الأفعى آمال بطل ملحمة جلجامش بعد أنْ سرقت نبتة الخُلُود.
***
يا رشفة الظمآن في مجمرة الهجيرْ
وروضة تزهو بها الأطيار والغديرْ
بغداد يا شهية الثمار
ضنَّ عليكِ الغيمُ والنهارْ
فأجدبتْ واحاتكِ الخضراء حيث استُلِبَ النُضارْ
وغادرت حمائم الأفراح سعفَ نخلةٍ
برْحيّة الأعذاق والظلالْ
واحتَضرَ الهَزارْ
مِنْ حيفِ مَنْ دنسها بوطأة الشنارْ
***
مثلما فُجع جلجامش بفقد صديقه الحميم (أنكيدو) الذي رافقه في رحلة البحث عن نبتةِ الخُلُود، استهلَّ الصرخي مجموعته الشعرية المذكورة بإهداءٍ جميل جداً إلى شقيقه الشهيد رزاق (طيَّبَ الله ثراهُ) في صورةٍ رمزيَّة تعكس اعتراف الشاعِر بالجميل، وإقراره بالفضل، وحفظه الود إلى مَنْ نذروا أنفسهم دفاعاً عن تراب العراق وكرامة شعبه، إذ أنَّ الشهيدَ يُعَدّ بوصفه الأجدر بالإهداء والتنويه. ولا أراني مُبالِغاً إن قلتُ: إنَّ الإهداءَ المذكور يعكس شيمة الوفاء التي تشكل الثيمة الغالبة في الديوان.
تصفحتُ النصوص التي تضمنها ديوان عُشْبة الخُلُود، فوجدت أنَّ الصرخي قد صدح بما جادت به القَرِيحَة من شِّعرِ تفعيلةٍ سعياً في التعبير – بدلالاتٍ ورموزٍ وإيحاءاتٍ تجمع الكثير من المشتركات ضمن إطار الصورة الكلّية – عن موقفه تجاه قضايا وطنه؛ لإدراكه أنَّ الشِّعرَ رسالةٌ إنسانية بوصفه خطاباً مؤثراً يمتلك من الآليَّات المؤثرة ما يجعله قادراً على بناءِ تصوراتٍ بوسعِها المُساهمة في تأصيل مهمة نهضة المُجتمع وتقدمه من خلال تعزيز الوعيّ بما تباين من المُشكلات التي تواجه المُجتمع، بالإضافة إلى التحدياتِ والتهديدات الخارجيَّة والداخليَّة التي تحيق بالهويةِ الوطنيَّة. وفي هذا السياق يمكن القول إنَّ الوطنَ يُعَدّ بوصفه القضيَّة الرئيسة التي تمحورت حولها ثيمة أغلب قصائد الديوان الحالي؛ تعبيراً عن فخرِ الشّاعِر بتراث بلده وثقافته، فضلاً عن اعتزازه بهويته الوطنيَّة، والذي يعكس وعيه الانتمائي بالمكان.
في قصيدتِه الموسومة (وطن).. ص 69، منح الصرخي عواطفه الجياشة مساحة تعبيريَّة وهو يتغزَّل بالعراق، معبراً برمزيةٍ عن دلالاتِ عراقة تاريخ بلده وحضارته وعظمة إنسانه، إذ توحي الصور الشِّعريَّة التي نسجها بأنَّه يتغنى في جمالِ وطنٍ لا يمكن أن يماثله جمال، ولعلَّ من المناسب أنْ نقتطعَ بعض أبياتِ القصيدة المذكورة للاستشهاد بها:
***
وطنٌ يسكنُ ضوءَ المقلتين
تارةً يُلبسُني ثوبَ البهاءْ
تارةً يمسحُ عن عينيْ البكاءْ
وطنٌ يمنحني البسمةَ
فليُجزْى بآياتِ الوفاءْ
***
وطنٌ يشدو به المجدُ
صباحاً ومساءْ
قابساً من جذوة الفخر أئتلاقْ
يتمنى أنْ يكنى
بالعراق
***
خلال تجوالنا في أروقة غابة الشّاعر الصرخي الشِّعريَّة، يتضح لنا جلياً أنَّ الإحباطاتَ التي تعرَّض لها، لم يكن بوسعها إيقاف نزف قريحته باتجاه الوطن بوصفه الحضن الذي لم، ولن يجد أحنّ منه. وفي تعبيرٍ رَمْزِيّ عن مشاعرِ الحب والعلاقة الحميمة التي تربط الفرد بوطنه، جاءت قصيدته الموسومة (الحان الوطن المحروق).. ص 91 محملة بهدير التأوُّهات والوجع، فأبياتها التي تحمل في طياتها نبرة الحزن والألم تكاد تبتلع آهات الوطن ممزوجة بحسراتٍ مفجوعة:
***
اسْـودَّ القمـــح وزال النـــــــور
وأقواس القـــزح اليوميــــةِ
حـُجـِبت بدخانٍ مسمــــــومٍ
ذَبُــــل الـــــــورد
أنتــحـــــر الآس
وتداعىَ ضِحك الأطفــــال
وأسارير الحــــب تلاشــــــتْ
صـُبـِغتْ بريـــاحٍ سـوداءْ
مطرقـــــة من حممٍ تلهث
أشباح قاتمة اللـــــــونِ
باتت تلتحف الأشيـــاءْ
(نيرون) الآثم في قصرهِ
يتلذذُ رائحة النارِ
عن بعـُدٍ يرسل حطاباً
مدسوساً
كي يذكى النار
يستمتع أبناء العـمِّ
بشياط اللـــحمِ المحتـــرقِ
بعويــــل الأطفال اليتــــــمِ
وتناثر أتربة الــــــهدمِ
يستأسدُ منهم أجلافٌ
برعوا تقبيلاً في أيدي
موشومة بالـــدمِ والعهــــرِ
***
اللاَفِتُ لِلنَّظَرِ أنَّ رَمْزِيَّةَ الخطاب الشِّعريّ كانت حاضرة في ديوان الشّاعر الصرخي هذا، فعلى سبيل المثال لا الحصر وجدتُ في العديد من قصائده، وبخاصة الموسومة: (اعرني دموعاً، تاج مائي، أميرة الإلهام، تراتيل، دفء البوح، قران) أنَّه اعتمدَ مناجاة الأحبّة – ممثلة بالمرأة – في إشاراتٍ رَمْزِيَّة تعبيراً عما ألمَّ بوطنه من آلام ومواجع، بالإضافة إلى ما أحاقه من أخطارٍ تسببت في ضياعِ الكثير من آمال شعبه، إذ اجتهد الصرخي هنا في تصويرِ المرأة رَمْزاً للوطن، ولعلَّه من المناسب أنْ نقتطع نصاً من قصيدته دفء البوح.. ص 125:
***
ما أجمل البوح إذا
أثقل قلب العاشق الضنى
القمر الساحر للنجومْ
الأرض للشمس بلا انحسار
البلبل الغريد للأيكة للنضارْ
المطر المحبوس للغيوم
وعشبة الصحراء للهموم
الجفـْنُ للدمع الذي أرهقه الهطولْ
فانداح في السهولْ
يُلهب في وجنتها الحريق
يلتهم الفصولْ
***
ما أجمل البوح إذا كان على يقينْ
ملتحفًا ملاءة الأشواق والحنينْ
الصدق لا المكر الذي يفجّرُ الأنينْ
يشرّبك الآمال بالظنونْ
ليرتقي المأفون والخؤونْ
فيخمد البروق في أروقةِ السنينْ
ينتصر الدَجـَنْ
يسرّبل الأفراحَ في كفنْ
مشاعرُ خيبة الشعوب العربيَّة المرتوية بآثام قياداتها السياسيَّة، والتي نضجت ثمارها حتى سقطت، لم يَعُدّ بوسع الصرخي الاحتفاظ بها في قلبه، فكان أنْ عمدَ إلى البوح بها شِّعراً في إشارةٍ رمزية إلى الخذلان العربيّ الذي لم ينفع معه الركون إلى الصّبر أو التظاهر به. وقد ظهرت تلك الانفعالات بشكلٍ واضح في قصيدة حوارية الجمر.. ص 77 التي عبر فيها عن زيف ما يسمى بـ (الربيع العربي)، والتي نقتطع منها النص التالي:
***
مددت يديْ
الى جمرٍ
كساه رماد خيباتٍ
ثلوج أثقلت صدر البراعم في خطيئاتٍ
أصابع زادها الإجحاف إصرارًا
بنبضٍ واثقٍ سَغِبٍ
نبشت ورايتي أُفقي
وأسيافي نبؤاتي
رجائي بانبجاس الصخر يروي ماؤوه جدْبي
ولكن ْ صاح بي صوت ٌ
ألاَ تترك أنحائي ؟؟
فأن النبش في مقبرة الماضي بلا جدوى
دع النيّام في أوهامهم سكرى
غزا المكرُ أجنّتكم
وأضحى يومهم ْ دهرا
فزادت أنْةُ الوادي
أطاح بدفئنا عصف ٌ من الدجل ِ
فضاع الوهج من عيني
وضاع توقدي ْ المرجى
وضاع المبتغى من نزف أجيالي
أعد لي ما أزاحته
أصابع توْقك اللهفى
فليس لديَ آمال لأفنيها
فقد أجهضتم البشرى
وناء توقد الأيام بالحسره ْ
***
إنَّ القراءةَ المتأنية لديوان الزميل الشاعِر ناظم الصرخي، توضح لنا أنَّه أديب متمكن، ومثقف اعتاد الإقبال على المطالعة بنَهم من أجل البحث والاطلاع الذي مكنه من مواكبةِ مسار الحياة الأدبية، وما شهدته من تطورات. وقد بدا ذلك واضحاً من خلال جمالية الصور الشِعريَّة واهتمامه بالمفردة التي تعكس شغفاً بلغة السحر والبيان. ويبدو أنَّه وجد في واحة الشِّعرِ ضالته التي فتحت له آفاق التعبير عن ذاته وآماله المرتبطة بهموم وآلام وتطلعات شعبه. ويمكن الجزم بأنَّ إيلاءَ الصرخي الاهتمام بقضية الوطن في ديوانه هذا تُعَدّ استجابة لما تَحمّله شعبه من آلامٍ وهموم وتضحيات وهو يتطلع إلى تحقيق البسيط من آماله.
أباركُ للصديق العزيز الشاعِر ناظم الصرخي على هذا الجهد الطيب، متمنياً أنْ يبادرَ إلى إعادة طبع ديوانه عُشْبة الخُلُود؛ لأجل تأمينه لمَنْ لم تسنح له فرصة الاطلاع عليه من القرّاء مع تمنياتي بدوام العطاء الإنسانيّ المتجدد.
***
المجموعة الشعرية: عُشْبة الخُلُود.
المؤلف: الشاعِر ناظم الصرخي.
دار الحوراء للطباعة – بغداد
تاريخ الاصدار: 2014م.
عدد صفحات الديوان: 140 صفحة.