ـ المثير للدهشة والاستغراب مايقوله الكاتب بخصوص “وكان هدفها المباشر التحررمن الاحتلال البريطاني والحكم الكولونيالي، وإقامة دولة وطنيه ديمقراطية وعصرية”، هنا يطفح الجهل بالتاريخ حتى يبلغ مستوى يتعدى كل الحدود، وان وفقا لمنطق ومفاهيم صاحب الراي نفسه، فكيف يمكن لثورة وطنيه عامة( متخيله أصلا)، ان يكون هدفها ومقصدها “إقامة دولة ديمقراطية عصرية” ومن اين اتى ياترى بمثل هذا الغرض، او الهدف، ومن ابلغه به، ولماذا لايكون الغرض والمطلوب مثلا هو “اللادولة”، او السياقات المتعلقة بالكيانيه الإمبراطورية، التي هي خاصية العراق البنيوية التاريخيه، الثابته بدون خطأ، والتي لم يبلغنا الكاتب بانها كذلك، او انها تمثل خاصية ثابته في التاريخ العراقي الرافديني، حتى لو أراد ان يقول لنا بان هذا السياق، او التشكل التاريخي البنيوي، قد طرا عليه مايجعله غير قابل للتحقق اليوم، على شرط ان يبين كيف ولماذا؟ وماالاسباب الموجبه المستجده التي تحول دون ذلك؟.
واضح ان مايعتقده زكي خيري هو افتراض لااساس له، التاريخ الخاص على ضخامته وعلوه النوعي، ليس له فيه حضور باية درجة كانت، فلا عراق الا مايتوافق منه مع سياقات الحالة الغربية، والنموذج الغربي الحالي، بمعنى ليس الاستلاب الاكراهي بحق واقع وتاريخ و طمسه حاصل هنا للتعذر المنهجي، والواقعي خصوصا وان ماننوه به من واقع، هو من نوع ونمط متعد للنموذج المستعمل في غمطه، ينطوي على ما يتجاوزه كليا، سواء على مستوى الخاصايات، أوالتكوين، مايجعل من زكي خيري وامثاله ملتحقين بالغرب بدرجة امتياز ضد ذواتهم المفترض انهم نتاجها وينتمون لها، فهم يفعلون، لابل لاهم لهم الا ان يفعلوا بالضبط، مثلما فعل الاحتلال باقامته دولة مفبركة من خارج النصاب المجتمعي، وبلا أي احتساب لمقتضيات التشكل الوطني المستمر منذ ثلاثة قرون، علما بان الفبركة من اسفل، لاتقل خطرا عن الأولى، او تنقص عنها فعالية، ان لم تتجاوزها وتكرسها على الصعد كافة، هذا اذا لم نقل بان المشروع الافنائي الاستعماري المفبرك، لم يكن ليعيش من دون الاسناد الشامل المفهومي المقدم له من مايعرف باحزاب وأفكار الحداثة اجمالا،ولايجب ان ننسى بان زكي خيري هنا قد أصاب بالفعل في ناحيه لايمكن الشك فيها، هي ان الحدث الثوري العشريني، كان بالفعل يريد”التحررمن الاحتلال البريطاني والحكم الكولونيالي”، الامر الذي لاشك فيه، وهو من قبيل البداهة المتفقه مع كينونته وتاريخه الراهن الحديث، كان العراق الأسفل والمنتفك في المقدمه، قد خاض في سياقه ومن اجله قرابة 150 تمردا وصداما عسكريا، ضد الاحتلال العثماني خلال القرون الثلاثة المنصرمه.
لكن هذا شيء والقول بهدف “إقامة دولة وطنيه ديمقراطية وعصرية” شيء آخر مختلف كليا، وهو منوط بحسب النموذج الغربي الذي يتحدث عن العراق، وعينه عليه، بالانقلاب البرجوازي، ومغادرة الاقطاعية وزمنها، في بلد لايعرف الاقطاع، ولم يعرفه على مر تاريخه، انما صار يعرف شكلا مسخا منه اليوم على يد الاحتلال الراسمالي، الذي اضطر بمناسبة احتلاله للعراق، لخيانة نفسه وطبيعته البرجوازيه الراسمالية، ليصير اقطاعيا، راعيا لانتاج صنف من الاقطاع المفبرك، المفروض من خارج العلاقات الزراعية التاريخيه، في هذا الموضع من العالم، وهو بناء عليه غير معني بالانتقال منه، ولا بمايوافق مثل هذا الانتقال المفبرك المتوهم من مقتضيات مجتمعية، وعلى مستوى النظام وشكله.
الانكى من ذلك ليس مايتعلق بالاقطاع والانتقال البرجوازي، لابل مايخص الشيوعية والماركسية ودلالتها، وماتريده من تحقيق للاشتراكية في بلد بنيته المجتمعية الأساس بنية ” لادولة”، لاملكية خاصة ولادولة فيها، تحوليّة، هدفها، على مر تاريخها “شيوعيتها” الدائمه، وكينونتها التي لاتنتج سلطات منفصلة من داخلها، ولاتخضع ل، او تنطبق عليها تهويمات انجلز عن “العائلة والملكية الخاصة والدولة”، نمط لارضوي، تعبيره الأول ابراهيمي، والثاني قرمطي اسماعيلي، سابق على نظريات ماركس الطبقية، والمتاخرة بكل المقاييس، مهما ادعت من “علموية”،بسبب احاديتها وقصورها البنيوي، مقارنة بالبنيه الازدواجية الناظمة لنمط وتكوين اللادولة المشاعي العراقي التاريخي(1).
ـ وهاهو كاتبنا يعترف بحقيقه موقعه وانتسابه فيقول: ” وقد أقيمت فعلا الدولة العراقية المعاصرة، دون ان تكون مستقلة تماما، او ذات سياده وطنيه كامله” اذن فان ماقد أقامه الإنكليز هو “الدولة العراقية” بحسب راي ” المفكر” الذي يتوهم انه الشيوعي الفذ، بغض النظر عن كونها غير كاملة السيادة، “دولة” لهامواصفات الدولة،ومرتكزاتها المجتمعية التاريخيه، وان تكن منقوصه. اليس هذا في الحقيقة والفعل، انتساب صريح للاحتلال، وموافقه على اهم واخطر مظاهره، وأسباب تكريسه لنفوذه، وامضى وسائلة التي لجا اليها بعد فشله العسكري، لاطفاء جذوة، والاجهاز على، وقتل الحدث الثوري العشريني؟
ـ بالاستكمال للطامة الكبرى، يختم خيري فيقول: “ولم تتحقق الديمقراطيه او الحرية السياسية بالنسبة لاكثرية السكان الساحقه، فقد احتكرتها الطبقات المالكة العليا. فلم يكن نجاح ثورة “1920” الثورة الوطنيه الأولى في العراق، نجاحا تاما او كاملا” هنا يجري الإصرار على تكريس المشروع الاستعماري، باعتباره واقعا وحقيقة مبررة تاريخيا، ليس ثمة ماهو مطروح بوجهها سوى مايعتور بنيتها من “نواقص”، بالمقابل ترتسم اللوحة على جبهة الثورة، بمحاولة الاجهاز عليها من خلال تحريف طبيعتها وأهدافها،، عبر ما يوحي، لابل ويقطع في كون الدولة المقامة من قبل الإنكليز، هي مكسب ثوري، تحقق بفعل الثورة العشرينيه، وهو ماكانت تريده وتهدف له، ولم تتمكن من تحقيقة كاملا، ولنتوقف هنا امام تناقض رهيب لا اسم له، فزكي خيري يقول في مكان اخر، كما مر معنا،ان هدف الثورة هو التحرر من الاستعمار، ثم يعود ليقول لنا بان هدفها( وهو مالم يخطر اطلاقا في بال الحدث الثوري العشريني ومايناقض بنبتها وتاريخها كليا) كان إقامة الدولة المفبركة الاستعمارية كما أقيمت وقتها، وكما اصطنعت من قبل المحتل عام 1921 كوسيلة لضمان نفوذ كان مهددا، باعتبارها نصف الهدف الذي كانت الثورة تريد تحقيقه، هكذا تلتقي اهداف واغراض الاستعمار والحدث الثوري بقدرة قادر، وفي مشهد مضحك مبكي، يفوق كل خيال.
وكما هو المعتاد من مظاهر التلفيق الممزوج بالجهالة، فنحن نتذكر في المناخ نفسه، ان الجادرجي كان يسقط الريف والقرى والبوادي من عالم “الوطنيه”، ليحصره قطعا بما ينتسب للغرب ونماذجه المنعكسه، الا انه لايجد نفسه متناقضا مثلا حين يقول:” لاشك في ان المظهر الأول للحركة الوطنية الحديثة في العراق ـ وقد كان مظهرا ضخما ـ هو ثورة حزيران 1920 ضد الاحتلال الإنكليزي” علما بان مايذكره هو حدث “ريفي قروي”، وهكذا يعيش هذا النفر من الأشخاص بسبب مايتجاوزهم، ويعلو على قدراتهم بنيويا وتاريخيا، مع التضاربات والتناقض من دون قدرة على تشخيصها، او شعور بوطأتها، بينما يستمرون مصرين على حفر مكان لهم في الواقع على حسابه، وخارج نبضه، لابل بالضد منه، وفي الحصيله والاطار العام، في خدمه المعسكر المضاد للحقيقة الوطنيه، الماحق لها.
.نعود فنتساءل: كيف، ومادلالة قبول العقل العراقي لمثل هذه اللحظة المعيبه من لحظات الفبركة الفاضحه، وكيف حدث ان ظل مثل هذا النوع من التفكير، وماترتب عليه من اشكال تنظيم وممارسة حاضرا، وفي بعض الفترات متغلبا، طيلة مايقارب من ثلاثة ارباع القرن، او اكثر؟، لنتصور وان يكن من باب الافتراض المستحيل، لو ان العراق في العشرينات والثلاثينات ظهرت فيه حركة، او بضعه مثقفين، او حتى مفكر واحد، قال بان الاحتلال الإنكليزي للعراق هو الدولة المقامة وقتها، وان هذه وسيلة استعمارية بحته، مخالفة لمسارات التشكل الوطني العراقي وطبيعته التاريخيه، وتمثل بالاحرى جريمه تاريخيه كبرى افنائية، غرضها الأساس تحوير بنية مجتمعية، والعمل على اكراهها وتطويعها لمقضيات معاكسه ومضادة لماهي عليه كينونة لأغراض استعمارية، علما بان المستهدف هنا هو واحد من اهم الكيانات تاريخيا، وانه مشبع بالمنجز الكوني البشري التاسيسي والوسيط، كما انه مركز فعالية تاريخية “وحضاية” لامثيل له على مستوىى المعمورة، بما يجعل محاولة الاجهاز عليه، وعلى الياته من قبيل الجريمه الكبرى بحق التاريخ البشري، ومايعرف ب “الحضارة”.
وسيكون من باب المبالغه لو اننا تطلبنا مثلا، ظهور بدايات تحسس بالخاصيات البنيويه مابين النهرينيه، فمثل هذا التخيل مما يقع بباب المستحيلات المطلقة في حينه، الامر الذي يجيز التساؤل من هذا الباب، بخصوص اذا كان من الجائز او العادل البحث عن عذر يمكن تلمسه للايديلوجيين الثلاثينين، باعتبارهم أبناء لحظتهم المغلقة، والمحكومة باشتراطات غير قابلة للاختراق انذاك. الامر الذي سيلجأ اليه البعض على اعتبار، ومن باب “الموضوعية التاريخيه” التي يميلون للوكها عادة. مايجعل من زكي خيري الماخوذ هنا كعينه، بموقع الغافل غير المتعمد، لابل الحسن النية( الطريق الى جهنم مليء بالنوايا الحسنه)، وذلك امر يمكن ان يرد في الذهن مقارنه بالاستعمار الغربي، الاب، والاصل، والظاهرة الحديثة الكبرى، وماقد أقدمت عليه ومارسته استعماريا وافنائيا باسم “التقدم” والحضارة، والعلموية التي هي في حالة العراق قاتلة لمحركات واسس واليات التقدم، بحسب زاوية النظر التحولية التاريخيه التي كان على الغرب وويرلند، ولونغرك بمقدمهم، ان يتوقفوا عندها مجبرين لكي يكتسبوا صفة التقدم الفعلي، والحضارية العلموية، لكننا في الحالتين نجد انفسنا بإزاء واحده من خاصيات التاريخ ومساراته، وبالأخص وبالذات، مايتعلق منه بالجزء المتعلق بالانتقال من سطوة وغلبة الأحادية المفهومية مجتمعيا، الى الازدواج، ومن ماقبل مقاربة العقل البشري للظاهرة المجتمعية وخواصها المضمرة بين تضاعيفها، الى تجاوز العتبة التي حققها الغرب بعد طول قصور عقلي، إزاء المجتمعية، بطرقة الابتدائي عن طريق ماعرف ويعرف ب “علم الاجتماع”، ولأول مرة، الباب نحو سد القصور العقلي التاريخي المميز للتاريخ التصيري العقلي المجتمعي.
ـ يتبع ـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت
(1) يراجع/ ارضوتوبيا العراق وانقلاب التاريخ: كيف يرد التاريخ العراقي على التحدي الامريكي/ عبدالامير الركابي/ دار الانتشار العربي/ بيروت.
-الوطنيه- الايديلوجية الثلاثينيه الزائفه؟/3
اترك تعليقا