رَحـمـَة بالـقـُـرَّاء..!!
الدكتور عـبد القادر حسين ياسين
دُعـيتُ بإلحاح إلى سهرة ثقافية في منزل صديق…
في الواقع حاولت أن أتملص من الدعـوة لسبب خجلت أن أبوح به،
وهو إنشدادي المذهل لكتاب صدر مؤخراً عن حياة شاعـر البنغـال الأكبر،
الحائز على جائزة نوبل ، رابندرانات طاغـور.
كنتُ أعـرف أن صديقي سيُوبّخني على هذا العـُذر،
وسيقول : “يمكنك قـراءة الكتاب فيما بعـد. “
شربتُ القهوة كي أنشّط خلايا دماغي لتستوعـب كلام”المثـقـفـيـن”…
وحين وَلجتُ باب الشـقـة أدهـشني تعـبير الذبول والقـنوط ،
المرتسمين على وجهي وأنا ألمحُ صورتي في مرآة الحائط.
عـنّـفـت نفسي: عـيب يا زلـمـة…،
الناس يتمنون حضور سهرات ثقافية فما بك هكذا ذابل؟!
كان الحديث محتدماً بين “طاووسين” من “نُخبـة النـُخبـة” ….
لاحظتُ بوضوح أن كلاً منهما يحتقر بشدة آراء الآخر،لأنها تختلف عن آرائهِ؛
ولم يتركا مجالاً لأحد من الحاضرين بالتدخل في الحوار!!..
ضباب السجائر ورائحة الكحول أدخلاني في حالة خدر،
وأخذتُ أذناي تطـنان من ارتفاع صوت المـثـقـفـَين المتناحرَين ،
حتى أحسستُ أن كلاً منهما يتأهب للانقـضاض على عـنق الآخر.
نجح أحد الحاضرين في تحويل مسـار الحـديث،
واقـتـرح على المثقفـَين أن يُسمعا الحضور آخر ما كتباه من “شعـر”.
أسرع الطاووس الأول يلقي “مَـلـحـمـتـه” ،
مُستغلاً انشغال خصمه في إشعال سيجارة.
كانت الكلمات الفـارغـة تـتـدـفـق من فـمه ،
وكأنـه مـحـمـود درويش أو محمـد مـهـدي الجـواهـري أو نـزار قـبـاني!
ولا أغـالي إذا قـلـت أنني لم أفهم شيئاً، طلاسم في طلاسم.
كانت أنظار الحضور مطفأة، ميتة، متعـلقة به،
كنتُ واثقا بأنّه هو نفسه لا يفهم هـذيانه…
تـقـلصت معـدتي بشدة،
شعـرتُ بغـثيان مفاجئ، وانـتـفـضتُ واقـفاً …
لم يعد بإمكاني البقاء لحظة واحدة،
لكن نظرات الحضور المؤنبة سـمّرتني في مكاني ،
وأمرتني أن أجلس، فأذعـنتُ.
إنتفخ “الشاعـر” غـروراً وهو يسمع المجاملات المُنافـقـة…
كانت أفكاري تـنـفـلـتُ مني وتحوم حول رابندرانات طاغـور.
وبصعـوبة لجمتُ عاصفة غضب هبّت في نفسي،
وكادت تورطني بتحدي “المـسأف” ،
والطلب إليه أن يشرح للبُسـطـاء من أمثالي ،
هـذا الهُـراء البشع الخالي من القـافـيـة والمعـنى.
والأدهى من ذلك أن يُسمي هذا الهـراء “شعـراً…!!”
دبّت الحماسة في “المـسأف” الثاني،
فانبرى يقرأ أحدث “قـصيدة” له؛
ومرة أخـرى لم أفهم شيئاً من رذاذ كلماته المتناثرة في كل اتجاه ،
والتي شعـرت بـها تصطدم بي ،
وكأنـهـا سرب من الذباب يهاجمني ولا أعـرف كيف أبعـده عـني.
ولدهشتي سمعـتُ صوتي يشق حبال حنجرتي المُسالمة ويهـزّها بعـنـف…
قـلـتُ لـمـتـنبي عـصـره :
في الواقع أنا لم أفهم شيئاً من شعـرك، فهل تفـضـلـت بـشرحه؟
تعلّقت بي الأنظار.
ردَّ “الشاعـر” الأول ساخـراً:
“إذا فـهـمـتَ نصاً قـتـلـته..!”.
وتـذكرتُ أنني قـرأت هـذه الـعـبارة لـعـمـيـد الأدب الـعـربي ،
الدكتـور طه حسين في إحدى مقالاته،
وكان يعالج موضوعاً مختلفاً تماماً عن هذا الهـذيان الشعـري.
وانبرى “الشاعـر” الآخر يقول:
” يبدو أنك قـلـيـل الإطلاع على الشعـر الحديث …”
غرقتُ في موجة حزن عـميقة..
وفهمتُ لماذا يهرب الناس من قراءة الشعـر…
تابعـتُ حلقات الدخان التي تتلاشى في العـدم ،
دون أن تترك أثراً ككلمات مثقفي السهرة…
ويبدو أنني “سـَرحتُ” بـعـيـداً مع أفـكاري ،
وسهوتُ لفترة، لأن النقاش إحـتـدَّ مجدداً بين “المـسأفين” ،
وأقسم أحدهما أنه “يـتـقـن عـشر لغات..”
كنت أود أن أقـول لـهـذا “المـسأف” :
ما معـنى الشعـر إن لم يدخلنا في حالة من النشوة الروحية،
ويُطلق مشاعـرنا من عـقـالها ويحوّلها إلى فـراشات ملونة..؟!
وجـدتني أتعـلـل بصداع مفاجئ،
وأنسحب من سهرة “المثـقـفـيـن”.
أسرعـتُ إلى بهاء عـزلتي…
لم أكن يوما من المؤمنين بالتوجـه الى ما يـُسـمى بـ “النخبـة” Crème de la Crème …
إن الكاتب الحقيقي ، في رأيي المتواضع ،
هـو الذي يقدم إبداعـاً صادقاً ينبغي أن يكون متصلاً بحياة شعـبه،
وبطبيعة بلده اتصالاً عميقاً ووثيقاً ،
وينبغي أن يعـبر عن علاقـته هـذه بأشكال يـُبدعها هو من خلال معاناته،
ودراسته لتفاصيل تراث بلاده ، وأساليب معـيشة شعـبه،
وطرائق حواره مع أشياء الكون…
دون إسقاط لحياة أي شعب آخر على حياة شـعبـه ،
أو انبهار بعادات وتقاليد شعوب أخرى…
مشكلة بعض الكتاب العرب أنهم “مبهورون” بالموضوعات الكبيرة،
ويعـتقـدون أن الموضوع الكبير كفيل بـ “خلق تجربة كبيرة” في الأدب…
ولهؤلاء أقول أن الشاعـر أو الروائي الحقيقي ،
ينبغي أن يتفاعل مع محيطه الصغير الذي يعرفه حق المعرفة ،
من خلال علاقة حب صادقة تستهدف تطويره وإغـناءه،
وبقدر اتساع هذه العلاقة وصدقها يكون المبدع قادراً على مخاطبة الإنسانية عامة،
وقادراً على أن يلمس بأجـنـحـتـه القارات الأخرى،
فإذا لم تثبت أقدامك في تربتك فإن أي ريح تهب ستـقـلعـك لا محالة.
فعـنـدما يعـشق المبـدع وطنه ، ويفهمـه ،
ويعمل على تطويره في كل لحظة من لحظات العمر ،
يسـتطيع أن يسهم في تشكيل عالم أجمل وأغـنى وأرحب،
عالم تسوده الحرية والعدالة والمساواة.
بعض الأدبـاء العرب “مبهورون” بـ “مـا وراء الحـداثـة” Post-Modernism …
وهـذا “الانـبـهـار” يـدفعـه ، مثلا، لأن يُدوِّن ملاحظات فكرية مُـشوَّشة لديه ….
فـيجمعها ويركبها كيـفـما إتـفـق، وتكون النتيجة :
مقالة في “المنهج” يعـوزهـا المنهـج ،
أو بحثاً في “التاريخ”هو أقرب ما نـُفـسر مبتغى صاحبه السياسي،
من أن يكون استقراء للماضي بأدوات عـلمية محايدة،
أو مقالة في “الشعر” ليست أكثر من ترجيع باهـت لأفكار ونظريات،
مَجَّها الغرب في الثلاثينات والأربعـينات من القرن الماضي …
وبعضهم يـتـقـيـأ ويـُتـحـفـنـا بـ “إبـداعـات” يكتبهـا من باريس،
” بلد النور والعـطور!! “، معتـقـداً بأنه فـكتور هـوغـو أو أنـدريه مـالرو…
مع أنـه عـاجز عن أن يقـرأ لهـذين العملاقين سـطراً واحـداً بلغـتـهمـا الأصليـة!!
وهكذا قُـلْ في الكثير من “المعالجات” ذات الطابع “لفكري” أو “الثقافي”،
لا سيما ما يتعلق منها بشؤون التراث، والحداثة، والبنيوية…
وغيرها من مناهج التفكير التي استهلكـتها أوروبا لعـقود خـلت،
تـُنقـل إلينا على أساس أنها آخر “موضة” فكرية ونظرية ،
وشاركت في إبداعها مخيلة هؤلاء الأساتذة العباقرة ،
الذين لا يجود الزمان العـربي بمثلهم .
لماذا لا يفرح بعض الكتاب العرب إلا إذا كان على متن طائرة،
تحلق به باتجاه جبال الألب السويسرية؟
ولماذا لا يكون البعض سعيداً إلا إذا استحضر مـُدن التخيل والوهم؟
إن محنة الكاتب العربي تتحـدد في إنفصاله عن جذوره ، والأرض التي أنـبـتـتـه،
وعـظمته تترسخ عندما يغـرس أقدامه في تراب وطنه للالتحام به،
والذوبان في حياة شعـبه…
بعض الشعراء العرب “المحدثين” لا ينـفـك يتوغـل في تعـقـيـد ،
يلغي أي تواصل بين القـراءة والقـدرة على التصور.
وعندما يتصفـح القارئ ديوان أحد هؤلاء “الشعراء” يجـد نفسـه أمـام نص “هـيروغـلـيـفي”.
الأمثلة كثيرة ، ولا يتسع المجال في هذه العجالة لذكر المزيد من هذه “المُعـَلقات” الخالدة…
وأعـتـقـد أن أفضـل عـبارة يمكن أن نصـف بهـا هـذا النوع من الصور الشعرية هي “الهـذيان الذهـني” .
إنها مجرد فاعـلية ذهـنية تـنـتـهـك المتجذر من الرموز الحياتية،
والوعي الفـردي والجماعي ، ولا هـدف لها لا من حيث الشكل ولا المضمون .
كان رابـنـدرانات طـاغـور (1861 ـ 1941) ، شـاعـر البنغـال الأعـظـم،
والفائز بجائزة نوبل للآداب عـام 1913 ، يـتـقـن عـشـر لغـات منهـا السـنسـكريتية ،
لغـة الهـنـدوس المقـدسـة ، ولكنه كان يكتب بلغـة بسـيطة جـدا،
يفهمها ويستوعـب معانيها عشرات الملايين من الأمـيـيـن الهـنـود .
وعلى الرغم من مرور 79 عاما على وفاته ،
فما زال الفلاحون الأميون في الهـنـد يحفظون أشعاره عن ظهر قـلب .
هذا هو التواصل أيها السادة …
إن الشاعر أو الأديب الذي لا يرحم قدرة القارئ على الادراك ،
وهي قدرة محدودة حتماً ، فانه سيضيع في نسيج هـذيانه ويخـتـنـق …
إرحـمـوا القـرّاء ، يرحـمنا – وإياكم – الله !