هل نريد التقدم فعلاً؟ سؤال طرحه الكاتب الأكاديمي السعودي تركي الحمد في كتابه «السياسة بين الحلال والحرام»، ولكن لماذا هذا السؤال؟ يجيب الحمد لقد خطر بالبال وهو في لحظة تأمل لأوضاعنا الراهنة واوضاعنا الماضية، خلال تاريخنا الحديث والمعاصر، أي في لحظة تأمل لحركة المجتمعات لدينا خلال هذا التاريخ وما أفرزه من خطاب ثقافي وسياسي.
وإذا ما نظرنا إلى الذهنية العربية أو قل العقل العربي، فسنجد كما يشرح انها ذهنية ربيت ونشأت على السكون والتوجس من الحركة والتغيير الذي قد يصل بعض الاحيان إلى مرحلة «الفوبيا» من أجل ذلك، هنالك في هذه الذهنية شيء دفين يجعلها في حالة خوف دائم من التغيير والحركة، وبالتالي التقدم مهما كان تعريفه طالما أنه يضمن الحركة والتغيير الدائمين.
بالاضافة إلى ذلك هذه الذهنية نشأت على اعتقاد راسخ مفاداه أن أصحابها هم خير أهل وأرضهم خير أرض، وأن تاريخهم ومجدهم خير تاريخ ومجد.
المحدد بمفاهيم ساكنة ترفض الحركة والتغيير لأن في مثل ذلك تهديدًا للهوية او الذاتية التي يحملها الذهن عن نفسه. هذه هي المعادلة التي تحكم الذهن العربي وتجعله في حالة من للذات الاصلية والهوية الثابتة، ولكن لابد من التغيير إذا كان بقاء الذات مطلبًا، إذا بغير ذلك لابقاء، وهو خائف من هيمنة الآخر بأي شكل من الاشكال، ولذلك فإنه يميل وجدانيًا إلى العزلة وعدم الاتصال ولكنه مجبر على التعامل مع هذا الآخر والانفتاح عليه بشكل أو بآخر، ومن هنا تنبثق الحيرة وتتسع دائرة الخوف، سواء في الميل إلى العزلة أو في الاعتراف بضرورة الانفتاح.
وعن هذه الاشكالية يعتقد الحمد، لقد حاول العقل العربي للكل هذه المسألة عن طريق إنتاج خطاب يحاول التوفيق بين النقائض، بين معتقدات الذات عن ذاتها، بكل ما يتضمنه ذلك من مفاهيم تتميز بالسكون المطلق، وبين ما يفرضه واقع الحال من ضرورة الحركة وما ينبثق عن ذلك منه، وعندما تنظر هذه الذهنية إلى ما حولها وإلى بقية أهل الأرض هؤلاء فإنها تصدم واقعيًا بأنهم أي أهل الأرض، أفضل حالاً وأكثر فاعلية ومشاركة في حضارة ومجد هذا الزمان، من كل ذلك، تقع الذهنية العربية في حالة من الصراع المشل والتناقض المحير: فمن ناحية هي ذهنية قائمة على السكون وحب الثبات في محيط لا يعترف إلا بالحركة، ومن ناحية أخرى هي ذهنية معتزة بذاتها في محيط من الواقع يقول ان الذوات الأخرى أفضل منها في هذا الزمان وفق معايير مختلفة للتقدم والتخلف عما تحمله هذه الذهنية عن ذاتها وموقعها، بالاضافة إلى ذلك كلنه، فان هذه الذهنية مقنعة بمسلمة منطقية تفرض نفسها، مفادها ضرورة المشاركة في حضارة هذا الزمان استيعابًا واكتسابًا وممارسة، إذا كان للذات أن تبقى وإذا كان للكيان أن يدوم، ومن هنا تتحدد معالم الصراع الذاتي في الذهنية العربية، فمن ناحية لابد التغيير والتقدم إذا كان البقاء مطلوبًا، وإذا كانت المنافسة الحضارية ضرورة، ولكن ذلك مقيد بقيود العقل مفاهيم مغايرة، خطاب يحاول التوفيق بين الاصالة والمعاصرة، الدين والدولة، الآنا والآخر، وغير ذلك من مفاهيم وأطروحات جعلت من الخطاب العربي المعاصر خطاب تناقض غير قادر على التأثير الفعلي في حركة المجتمع لانه، ببساطة لم يتطرق إلى الذهن الذي هو مصدر هذه التنائض، وبذلك فإنه وسع من دائرة الحيرة والقلق، ومن ثم الخوف بدون أن يكون حلاً لكل ذلك.
كل ذلك يقوده إلى القول: هنالك أشياء كثيرة تغيرت، فقد جاءت ثورات وظهرت ثروات، وتغير الإطار الخارجي للمجتمعات العربية، الذي اذا نظرنا إليه كميًا يوحي بأن هنالك حركة وتغيرًا وتقدمًا، اتساع المدينة، استخدم الاجهزة الحديثة، زيادة عدد مؤسسات التعليم وعدد المعلمين، وغير ذلك من مؤشرات كمية، إلا أن كل ذلك تغير خارجي دون اللب الذي هو ذات العقل وذات الذهن، والذي أصبح أكثر خوفًا وقلقًا عندما يرى كل هذه المتغيرات الخارجية ولا يستطيع استيعابها، فالحداثة والتقدم ونحوهما حالة ذهنية قبل أن تكون حالة مادية، وما التغير المادي إلا تجسد للتغير الذهني وبغير ذلك فإنه يبقى بلا روح ابداعية دافعة، وبالتالي فإنه سوف يبقى دائمًا معتمدًا على «الجلب» دون الابداع الذاتي الذي هو سر التقدم، بل إن مثل هذا التغير المادي البحت سوف يبقى مصدرًا للقلق المرضي والخوف الدائم من كل شيء وأي شيء مما يقتل روح الابداع ويجذر التخلف رغم القشرة الحضارية الظاهرة.
ومن أجل أن يعيد الذهن التوازن إلى الذات فإنه لا يعترف بالخوف والشلل بل يحاول أن يخفيها عن طريق إلقاء اللوم، في التخلف وعدم القدرة على الحركة الفعلية على شيء خارج الذات.
ومن هنا يستنتج الحمد: نستطيع أن نفسر ذهنية المؤامرة في العقل السياسي العربي وشجب عامل «خارجي» بصفته المسؤول عن هذا أو ذاك من مثالب وقيود الحركة، فتارة هو الاستعمار والصليبية، وتارة أخرى هي أمريكا، وتارة أخرى هي «الاستهداف» العالمي لكل شيء لدينا وأي شيء نفعله، رغم اننا حقيقة لا نفعل شيئًا بمثل هذه الآلية، أي إلقاء اللوم على الآخر وتبرئة الذات والذهن، تحقق هذه الذات وذلك الذهن توازنهما بانتظار «شيء ما» بذلك يحصل الذهن على سكينته، متخلصًا من مسؤوليته، حيث ألقاها، في الإعاقة والانقاذ، على شيء خارجي مجهول، وترتاح الذات من مسؤولية الحركة والتغيير.
في ملخص حديثه إن هذه الذهنية ليست متعلقة بهذا الخطاب أو تلك الايديولوجيا بقدر أنها مسألة تاريخية اجتماعية يشترك فيها الجميع، البعض بشكل جلي واضح، والبعض الآخر بشكل كامن غير واضح من النظرة الأولى، وهذه الصفة التاريخية الاجتماعية للذهنية المتحدث عنها هي التي تجعل من السياسة العربية شيئاً متشابهًا، بغض النظر عن اختلاف الانظمة والنظم وهي التي تجعل الخطاب العربي المعاصر خطابًا واحدًا وإن اختلفت ايديولوجياته.
ولذلك اذا أردنا التقدم فعلاً والمنافسة فعلاً، فإن أول عمل يجب القيام به هو نقد الذات الذهنية المهينة، تلك الذهنية المنتجة، والمرسخة للسكون في عالم لا يعرف السكون، ومن ثم الخوف والقلق وبالتالي الشلل، رغم ايحائها بالهدوء والاطمئنان!