مرّة اخرى أخفق بنيامين نتنياهو بتأليف حكومة على مقاساته، رغم جميع مراوغاته السياسية واستعداده لتقديم حتى نصف مدة رئاسة الحكومة لنفتالي بينت، زعيم حزب “يميناه” ، الذي بات يطمع برئاسة الحكومة القادمة من دون واسطة نتنياهو، ويناور من أجل تعزيز مواقع حزبه الانتخابية استعدادًا منه لمواجهة المعركة الانتخابية القادمة في حالة عدم التوصل الى تشكيلة حكومية تحظى بدعم الاغلبية من بين أعضاء الكنيست الحاليين.
ومن الواضح أن المجتمع اليهودي يعيش في ظروف أزمة كبيرة، تعكس في الواقع، كما كتبت في الماضي، ملامح المتغيرات الاجتماعية والسياسية العميقة التي حدثت في السنوات الماضية وما زالت تتداعى فصولها متسارعةً داخل المجتمع اليهودي/الصهيوني/ المتدين في الدولة.
ليس من الصعب أن نراهن اليوم على أن هذه الأزمة لن تنتهي قريبًا، وذلك بمنأى عما ستفضي اليه مساعي تركيب الحكومة الحالية أو نتائج المعركة الانتخابية القادمة؛ فاسرائيل اليهودية ذاهبة بمعسكريها لتخوض حربها الفاصلة في “أم المعارك”، ولتحسم أمرها، إما بانتصار دولة الحركة الصهيونية “البنغوريونية” وإما بهزيمة هذه أمام مملكة ” الراب دروكمان” ومن معه من أمراء العرش وكهّان المذابح.
لم تتركنا هذه الأزمة سالمين؛ فكلما احتدمت معالمها وجدنا أنفسنا، نحن المواطنين العرب، أمام جدران موصدة ، أو تائهين لا نصحو من حلم إلا لنغطس في كابوس قديم؛ ثم نفيق مجددًا لندرك أن أرضنا مرايا من زجاج هش، وخيولنا تطارد، هناك في قمم المستحيل، أشباحهم الخرافية؛ وأمانينا، التي شربناها في حكايات المطر، أصبحت سطورًا معلقات على صدر تاريخ أصم.
كم سألنا ما العمل؟ وكم نادينا حي على الفلاح !
لقد حاولت أن أسهم، في مقالات سابقة، بطرح مجموعة من المقترحات/الأفكار التي وصفتها كاجتهادات شخصية خارجة عن المألوف، وذلك بعد أن يئست، مثل الكثيرين، من رغبة وقدرة الأحزاب والحركات والمؤسسات المدنية على تغيير واقعنا المؤلم وعلى مواجهة المخاطر التي تتربص وتعصف بمجتمعاتنا. وللأسف لم تلق جميع تلك المقترحات أي نوع من التفاعل، لا من قبل مؤسسات تلك الأحزاب ولا من قبل أي الجهات أو الأشخاص.
قد تكون اجتهاداتي، بعين جميع أولئك غير المعنيين أصلًا بالتغيير، فاشلة، أو غير ملائمة أو غير واقعية، لكنني توقعت أن تُناقَش، ولو من باب تحريك الساكن، من قبل بعض المعنيين من أكاديميين ومثقفين، أو نشطاء اجتماعيين، أو خبراء متخصصين، أو متابعين يشكون من كثرة التحليلات وانعدام الحلول والاقتراحات. توقعت ذلك لأنني مؤمن بضرورة الشروع في التفكير ببناء مؤسسات اجتماعية وأطر سياسية جديدة ووضع تصورات خلاقة لوسائل نضال مستحدثة وقادرة على حماية مجتمعنا وانقاذه؛ فعندما ناديت لبناء “مجلس طواريء أعلى” أو لاقامة “اللجنة ضد الفاشية” أو “منتدى الحقوقيين العرب” أو “رابطة العلمانيين العرب” أو “منتدى الحقوق المدنية”، توخيت اقامة مجموعة أجسام متخصصة في ميادين مختلفة، كي تبدأ بالعمل من داخل المجتمع وتحاول تنظيمه واعادة ثقته بالنشاط السياسي وبضروة النضال الجماعي؛ وكي تحاول، كذلك، اختراق المجتمعات اليهودية وتجنيد من يروا انفسهم من داخلها كضحايا محتملة للنظام السياسي الفاشي المتشكل أمامنا وأمامهم.
حاولت، من خلال بعض الأصدقاء، أن أفهم لماذا لم تتفاعل أية جهة أو مؤسسة أو حتى شخصية مع أي مقترح من جميع ما ذكرت، ولم نتوصل إلى نتائج قاطعة؛ بيد اننا حين استبعدنا الفكرة أن جميع تلك المؤسسات والأطر المقترحة لا تشكل، عند البعض على الاقل، تحديات جديرة بالمناقشة، توصلنا الى حقيقة مزعجة ومقلقة مفادها ان العناوين التي افترضنا انها يجب ان تكون معنية بتغيير واقع العمل السياسي والاجتماعي البائس، وتلك التي افترضنا انها قادرة على تناول هذه المسألة بمهنية وبدوافع وطنية وبمسؤولية اجتماعية عليا، لم تكن مثلما توقعنا أو افترضنا.
ويبقى السؤال لماذا؟
من راهن على ان اسرائيل ستترك مواطنيها العرب يبنون أعشاش أحلامهم في عرى مواطنة هادئة فقد أخطأ؛ ومن افترض انه اذا ابتعد طوعيًا عن احشائها ليعيش كمواطن عربي “سلبي” ويتكاثر بصمت كالنمل، أو كي يمارس حياته على دائرة رغيف الخبز ، فقد أخطأ أيضًا؛ ومن وقف على رصيف الزمن منتظرًا زحف جحافل الشرق لاستعادة بلاده المنكوبة، أو مَن دعا السماء، حبيبته وحليفته، لتزلزل كي يبصبص الحق، فقد راهن على غيب غافل وعلى قدر عاقر. فاسرائيل تعرف اننا، نحن المواطنين العرب، لحاء الزمن الساري في عروق هذه الأرض، وتعرف انها اليوم أقوى من أن تنام على جرح ينزف بين ساقيها، وهي، لكل ذلك، تدفعنا لنختار المستحيل! وكي نحدد وجهتنا بخيار واحد من بين انتمائينا الحقيقين: مواطنين، بحكم البقاء والاصرار، وفلسطينيين باقين كأنفاس من هُجّروا أو هجروا.
هنالك أسباب عديدة لاستفحال ازمتنا الحالية، وقد نضع في طليعتها حقيقة اننا كمجتمع، يعيش حالة مواجهة مع سياسات الدولة، لم نفرز ، رغم مرور السنين، رؤى كفاحية حقيقية واقعية توازي وتواكب ما طرأ على المجتمع الاسرائيلي وعلى مجتمعنا العربي من تطورات، وتحاول ايجاد السبل الصحيحة، إما للتوافق المتزن مع الدولة او للاشتباك الرابح معها.
أما، بالمقابل، اذا اقتفينا آثار السياسات الاسرائيلية، فسنجد حدوث بعض التغيّرات المفاهيمية الاستراتيجية التي اتبعتها مؤخرًا مؤسسات الدولة تجاه بعض فئات من مواطنيها العرب، وسنلحظ مثلًا انها افسحت، بمنهجية ذكية، هوامش لممارسة مواطنة مريحة، مدروسة ومحدودة، أدت، مع مرور الوقت، الى نمو شرائح اجتماعية جديدة ولافتة ومؤثرة في مجتمعاتنا، راحت تربط مصائرها، ولو بصورة خفية ومموهة، مع مصالحها، فصارت طريقها من هناك الى تحديد انتمائها الهوياتي محصورة، أولًا وأخيرًا، ببعدها المواطني الفردي أو الشرائحي.
لقد استهدفت سياسات اسرائيل الجديدة فئات عديدة من الاكاديميين العرب وقررت استيعابهم في مؤسساتها الحكومية والأكاديمية والتابعة للقطاعات الخاصة السمينة، وأرادت من وراء ذلك تحييد الكثيرين منهم وابعادهم عن امكانية الانخراط في نشاطات كفاحية مباشرة ، أو بمبادرات مثل تلك التي اقترحتها ، اذا كان تقييمهم بانها مبادرات قد تستفز مخططات الحكومة وسياساتها النافذة.
انها حالة تستدعي الدراسة والتمحيص بمسؤولية عالية وبعيدًا عن خطابات التهريج والتقريع والهجاء التي يمتهنها بعض مقاولي الأحزاب ونشطائها المؤذين وبعض المزايدين؛ ففي النهاية لا يمكننا تأجيل مواجهة اشكالية ثنائية الانتماء، المواطني والقومي، الذي كنا نعيشه بروتينية هشة، الى أن قررت اسرائيل التدخل بصورة فظة وقامعة، وليس فقط عن طريق سن التشريعات العنصرية.
لا تحتاج هذه المواجهة الى الجرأة فحسب، كما يطالب البعض، بل الى تذويتها كحاجة وطنية وجودية ضرورية وملحّة، وكمعضلة تستدعي تفكيكها بمفاهيم صحيحة ونقاط توازن سليم بين المركبين؛ فبدون أن تنجز القيادات الأمينة والنخب الحرة هذه المهمة سيبقى التصرف بمفاتيح هذه المعادلة متاحًا بعشوائية لكل المواطنين ولأحزابهم وتأطيراتهم وحسب أهوائهم وانتهازياتهم، ويكفينا ما نراه عند بعض رؤساء المجالس والبلديات أو لدى بعض مؤسسات المجتمع المدني ، وكذلك طبعًا فيما تمارسه الحركة الاسلامية ورئيسها منصور عباس، وبين الكثيرين من المواطنين.
لا استطيع التعميم، بطبيعة الحالة، ولا الجزم فيما قلت؛ لكن استمرار النأي عن مواجهة الأزمة سيفاقمها وسيبقينا ننزف على دائرة مغلقة ودامية؛ في حين سيقف خارجها الذين يؤمنون أن معارك اليهود مع بعضهم لا تعنينا، ذلك أن اسرائيل، بحسب هؤلاء، دولة كانت أم مملكة، مصيرها الى فناء؛ ومعهم سيقف، على الضفة الثانية، أولئك الذين يمضغون قات المواطنة الرخيص ويمارسون على وجوههم السمراء “عمليات التجميل الاسرائيلية” بدون حسابات ولا روادع.
ويبقى السؤال: ما العمل؟ الدعوة الى تشكيل حركة شعبية؟ أو ربما إقامة حزب جديد؟
الهوية بين اغواءات المصالح وتعدد الولاءات
اترك تعليقا