العالم و”نظرية المؤامرة”
بقلم: الدكتور زاحم محمد الشهيلي
تفهم “نظرية المؤامرة” على انها “مصطلح انتقاصي”، ظهر في الصحافة الامريكية عام ١٩٠٩، وأُعتمد لوصف احداث ومواقف على انها “مؤامرة” ذات ارتدادات سلبية تفتقر الى الحجة في كثير من الاحيان. ولا تعني “نظرية المؤامرة”، في اطارها الفكري العام، ضرورة الاصلاح والبناء، وإنما السعي السلبي من اجل تحقيق اهداف وغايات معينة على حساب مصالح وامن واستقرار الدولة والشعب والنظام السياسي “الوطني”، ونادرا ما يكون هدفها اصلاحيا. فإما ان تكون طمعا بالسلطة والمال والجاه، او التآمر لتنفيذ اجندات لمصلحة جهات خارجية، أو التآمر داخلياً على الشعب من قبل السلطة السياسية ذاتها لتحقيق غايات معينة من خلال ممارسة “النفاق السياسي” المؤطر بالأخلاق الزائفة للمتحكمين بمقود السلطة.
لكن الايمان بـ”نظرية المؤامرة”، التي يصنفها الباحثون على انها نتاج لفوبيا الخوف لدى الانسان وانعدام الثقة بالنفس وبالأخر بسبب تراكمات نفسية واجتماعية وسياسية، اصبح في الاونة الاخيرة متجذراً في تفكير الافراد على المستوى السياسي والعلاقات الاجتماعية في العالم أجمع، وفي اطار القناعة الراسخة التي مفادها: “حين يكون الظلم قانوناً، يصبح التمرد واجباً”. فكل تصرف أو ردة فعل معينة تبدر من جهة أو شخص ما في حيز تواجده السياسي والاجتماعي توضع في اطار “نظرية المؤامرة” وتسقيط الآخر، خاصة بعد ان سيطر على المشهد السياسي والاجتماعي ثلة من الانتهازيين الذين اضحوا في المحصلة النهائية نتاج لمواطن انتهازي ومجتمع انتهاري، يؤمن بـ”نظرية المؤامرة” للمحافظة بشتى الطرق والوسائل على كيانه الزائف والحقوق والامتيازات غير الشرعية التي يتمتع بها.
كانت “نظرية المؤامرة” وما تزال تتركز في الدول ذات الحكم المركزي الصارم، والتي تعد ارضاً خصبة للصراعات الداخلية بهدف الاستحواذ على السلطة، منذ انهيار الانظمة القديمة ونشوء الانظمة الديمقراطية الحديثة، مما يدفع السلطات المحلية في كثير من الاحيان باللجوء الى ممارسة العنف السياسي والاجتماعي ضد المعارضين لنظام الحكم، والذين غالباً ما يتم استغلالهم من قبل اطراف اجنبية خارجية لزعزعة الامن والاستقرار الداخلي للدولة، حتى وصل الامر الى ان تُتخذ الصراعات والخلافات الداخلية حجة من قبل الدول العظمى لتبرير تدخلاتها واحتلالها وتدميرها لبعض الدول النامية، تحت ذريعة نشر الديمقراطية وحماية حقوق الانسان.
كانت الدول التي ترتدي عباءة الديمقراطية وتعنى الى حد ما بحقوق الانسان، وتوفر لمجتمعاتها العيش الرغيد مثل الدول الاوروبية وأمريكا، بمنأى عن “نظرية المؤامرة”، لكن استمرار اقامتها للحروب في الشرق الأوسط، وممارستها للظلم وانتهاك حقوق الانسان والحريات وصناعة الارهاب ونشره في دول شرق البحر المتوسط، جعل مواطنيها يشككون نوعا ما بتلك الافعال على انها “مؤامرة” ضد هذه الدول تحت ذرائع شتى، خاصة بعد وصول ثلة من الانتهازيين الى سدة الحكم في الدول الاوروبية وامريكا، والذي زاد الشكوك لدى المواطن الغربي بان هناك مؤامرات دبرت بليل من قبل حكوماته ضد تلك البلدان، نظراً لما يشاهده من بشاعة في التدمير والتهجير، التي يتم نشرها من خلال وسائل الاعلام المرئي والمسموع والالكتروني المتاحة للجميع.
وحين انتشر وباء كورونا بقوة في العالم مطلع ٢٠٢٠ وبدأت الدول الغربية تقاتل على انفراد لحماية اسوارها من هذا الوباء، انكشفت نوعاً ما حقيقة التحالفات المزيفة بين الدول الغربية ضد ما يسمونهم بالأعداء التقليديين، والكوارث الطبيعية والصحية، بحيث اخذت كل دولة تهتم بوضعها الصحي لمواجهة انتشار الوباء غير مكترثة بما يحصل بالدول الأخرى، رغم المناشدات المتكررة التي اطلقتها بعض دول الاتحاد الاوروبي في بداية الازمة مثل ايطاليا واسبانيا، بحيث انسحب ذلك داخلياً على مستوى التمييز بين كبار السن والشباب، ومن منهم أولى بالعيش على حساب أن تموت الطبقة الطاعنة في السن. وهنا تم نقل “نظرية المؤامرة” من خارج القارة الى داخل تلك البلدان، بحيث اخذ الكثير من الناس يؤمن بها ويروج لها في المجتمعات الغربية، مما ولد نوعاً من الاحباط وانعدام الثقة بين النظام السياسي والشعب، اي بين الناخب والمنتخب، والذي يؤكد حقيقة؛ انه حين تسقط الثقة بين الاطراف تتهاوى الى القاع كل الاشياء الثمينة التي بنيت فوقها.
بمعنى ان جائحة كورونا عززت من انعدام الثقة بالإعلام، الذي غالبا ما تطلقه السلطات الغربية لمواجهة الوباء والتحديات السياسية والاجتماعية والكوارث الطبيعية والترويج لسياستها الداخلية والخارجية، وجعلت المواطن يشكك بمصداقية النظام السياسي والإعلامي على حد سواءً، والذي كان مقدساً في السابق، بحيث اصبح المواطن الغربي يؤمن بان هناك “مؤامرة” تحاك ضده من قبل السلطات التنفيذية، كما كانت وما تزال تحاك ضد البلدان والشعوب في الشرق الاوسط، الامر الذي دفعه للتشكيك بمسألة التطعيم والاهداف المستخلصة منها، واخذ يؤمن بان هناك قوة خفية “تتآمر” عليه بهدف السيطرة على حركته وتوجيهه الكترونيا وقتله في نهاية المطاف، لتقليل نسبة السكان على سطح الكرة الارضية التي في طريقها للوصول الى عتبة الـ(٨) مليار نسمة.
وفي تلك الحالة اصبح المواطن في العالم ينظر الى السلطات السياسة والمجتمع الدولي على انهم مؤسسات للتآمر، وأعداء يتربصون بمصيره في كل لحظة، خاصة بعد الاحداث التي وقعت في أمريكا في نهاية فترة حكم الرئيس دونالد ترمب (2019-2020)، وحملات التشكيك بجرعات التطعيم ضد وباء كورونا من قبل المختصين والباحثين والمنظرين الغربيين في الجانب السياسي والصحي، الذين يعتبرون قضية جائحة كورونا حمالة أوجه من الناحية الصحية ومن الناحية السياسية، وان المستهدف الاول والأخير بالأذية هو المواطن في كافة بقاع العالم، مرجحين بان تكون هناك “مؤامرة” تقودها أيادي سياسية خفية في نشر فايروس كورونا المطور جينيا في مختبرات الدول العظمى المسيطرة على المشهد السياسي في العالم، والتي أضحى مواطنيها الضحية الاولى لأعمالها القذرة.
وفي تلك الحالة انسحب موضوع انعدام الثقة بالمجتمع الدولي، والنظام السياسي المحلي والدولي، والإيمان بـ”نظرية المؤامرة” ليس فقط على المواطن العالمي، وإنما ايضاً على الدول النامية التي تعيش صراعات مدمرة محلية وإقليمية ودولية، والتي أمست على قناعة راسخة بان قضاياها المصيرية سوف لن تحل خارج اطار “نظرية المؤامرة”، اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار أن الدول العظمى تعيش مرحلة تزدهر فيها “نظرية المؤامرة” وانعدام الثقة بين الشعب والنظام السياسي من جهة، وبين القوى السياسية المحلية مع بعضها من جهة اخرى، والتي اخذت تنتهج “نظرية المؤامرة” وأساليب غير ديمقراطية ضد بعضها البعض بهدف تسقيط الاخر للوصول الى السلطة بطرق غير شرعية.
وبذلك تمت عولمة “نظرية المؤامرة” لتسكن في عقول مواطني جميع البلدان في العالم، الامر الذي سيقضي على الديمقراطية وحقوق الانسان المزعومة من قبل القوى العظمى، التي استخدمتها يوما ما كحجة لتبرير تدخلاتها في شؤون الدول النامية في الشرق والغرب. والنتيجة؛ ان العالم اضحى يتآمر على نفسه بدون وعي سياسي واجتماعي، وعليه اصبح من الضروري صياغة نظام سياسي عالمي جديد قادر على إعادة بناء جسور الثقة المحطمة على المستويين السياسي والاجتماعي المحلي والدولي بعيدا عن “نظرية المؤامرة” التي نحياها اليوم للمحافظة على “القرية الكونية” الصغيرة التي يعيش تحت خيمتها كل شعوب العالم مؤثرين ومتأثرين ببعضهم البعض سلباً كان أم ايجاباً.
7-5-2021