صورة مقلوبة
قراءة في رواية “يس” للروائي أحمد أبو سليم
صفاء أبو خضرة/ الأردنّ
إن كلمة الصورة تعنـي خيـال الموتـى وَطيفهُـم وَصارت تسمى لاحقًا بـ الصورة، فجـذر الكلمة من أصل ينتمـي لعالَم ما وراء الوجود المـادي لعالم الأرواح، وقد أخذ ابن عربي معنى الصور وَربطها بعالم الخيال والمُثل المرتبط بحيـاة ما بعد الموت أو البـرزخ، كما ترتبط كلمة صورة بالصُـور وَالتخيّل من اليونانيـة أي القناع الشمعي الذي يوضـع على وجوه الموتى لتطبـع ملامحُهم وَتقدسهم. من هنا، حضر ياسين بورم دماغي جعلهُ يرى كل شيء مقلوباً، ومن هنا أيضاً، ربط الكاتب صورة ذهنية عميقة توزعت على الرؤية الرافضة للمجزرة من جهة، ومن جهة أخرى رؤية من يتعطشون للدماء ليقيموا فوق عظام السكان الأصليين مدينتهم الفاضلة.
من هناك، من تلك المدينة التي سعى إليها القتلة، أقاموا مشفى للمجانين، وجعلوا من قبر ياسمين قبر القديسة (ايدين) ابنة يهودا لتكون محجاً لهم من جهة، ويزروا حقيقة جريمتهم من جهة أخرى.
من هنا يعكس الكاتب الصورة المقلوبة التي أراد الكاتب أن يصور حقيقتها للقارىء، صورة الحق التي شوهها الكيان الغاصب على طريقته وشاهدها العالم على أنها الحقيقة.
من لغته المدهشة، إلى سرده الممعن في التفاصيل، من المد والجزر في الأحداث، إلى الصور التي طبعها بأبعادها الحقيقية وانعكساتها، من البنية المتراصة والسطور المشبعة بالحكايات والصور أدخلنا الروائي إلى دير ياسين بحلتها الأولى، وقبل أن تنهش الكلاب ثوبها الأبيض النقي وتغمسه في الدماء، فنراها تضعُ قناعها الشمعي لتخلد فينا ملامحها التي حاول قتلتُها دمل ملامحها.
كثيرةٌ هي المجازر التي حدثت بحق الشعب الفلسطيني، وكانت من البشاعة بما لا يصدقه عقل، و أبرزها مجزرة دير ياسين التي تحدثت عنها رواية “يس” للروائي أحمد أبو سليم.
لفت انتباهي عنوان الرواية “يس” برسمها القرآني، مما استدعى عندي فكرة أن الكاتب تقصد ذلك ليعطيها نفحة من القدسية والخصوصية والتمييز عن غيرها من العناوين والأسماء، كما أنه بين ارتباط البطل “ياسين” بسورة يس في الفصل الثالث من الرواية التي كانت والدته أيضا تردد بعض آياتها على الجنود لتمنع شرهم.
في فصلها الأول والمعنون بـ”المجزرة” ندرك أن الروائي اتخذ أو انتهج أسلوباً مختلفاً عن أسلوبه في أعماله السابقة، ومن سبق له قراءة أعماله سيدرك ذلك بسهولة، فهل كان هذا النهج من متطلبات موضوع الرواية وفكرتها المباشرة؟ أم أن الكاتب أراد بذلك أن يطلق رصاصة أولى يسمعنا عبرها صوت الأرواح الذين دكتهم قنابل ومتفجرات وآليات العدو؟
وأستطيع القول إن الكاتب قد نجح بذلك فعلاً عندما أدخلنا من بوابة دير ياسين مباشرة، وبدأنا بسماع الأصوات ورؤية الحقائق كما هي وبأسمائها.
وأكثر ما يمكننا تصورهُ قبل قراءة الرواية، هو سؤال يطرح نفسه في مخيلتنا، ما الذي يمكن أن يضيفه الكاتب إلى مجزرة حدثت ونعرف تفاصيلها؟ أم هي رواية تاريخية تتحدث عن تفاصيل وأسماء حقيقية لتسجيل الحدث برمته، وكما حدث فعلاً بالإضافة إلى أحداث وشخصيات متخيلة هي من متطلبات إتمام العمل؟
لكن المفاجأة تكمن منذ البداية عندما يقول أبو سليم “هل يمكن للذَّاكرة أَن تصاب بالصَّدأ، وتهترئ؟”. وكأنه بذّلك يفتق الجرح القديم ليرينا الصورة الحقيقية التي لا زالت حتى اليوم تتكرر بعبثيتها وهمجيتها وإجرامها، صورة الاحتلال الصهيوني، وإنني لأرى أن ما يحدث اليوم من انتهاكات في المسجد الأقصى والشيخ جراح وسلوان، وما حدث أيضاً في غزة من قتل وتدمير ما هو إلا انعكاس لتلك الذاكرة التي لم ولن تصدأ. وهذا يحسب للرواية أنها رواية المعيش واليومي، وهي مع ذلك خالدة طالما أن هناك احتلال ويكرر ما فعله هناك، في دير ياسين. وما يفعله غيره أيضاً من المحتلين في كل زمان ومكان.
كثيرةٌ هي الأسئلة التي طرحها الكاتب على لسان البطل ياسين، وهي أسئلة مبطنة بالفلسفة مشتبكة بألم اللحظة المعيشة والصورة المطبوعة بل والمحفورة في الذّاكرة، حيث زاوج بين الموت والحياة، فالبئر التي كانت تغذي القرية بالماء، هي ذاتها التي تحولت إلى قبر أثناء حدوث المجزرة، والمسجد الذي كان ملاذ المصلين إلى الله وأمانهم تناثرت دماء جده هناك عندما اقتحمته مجموعة “يهودا سيفل” وأطلقوا النار عليه.
كذلك التفاصيل التي جعلتني أتجول مع أبطالها من مكان إلى مكان ومن جرح إلى جرح حتى خلت أنني عشت المجزرة و كوابيس من كان لهم نصيب النجاة، فكانت الصورة التي تسبح في التفاصيل متقنة حد الدهشة، وفضح آلية ومنهجية العملية العسكرية أو الإرهابية على أدق تعبير التي قاموا بها، وتتضمن القتل وبث الرعب والتخويف في النفوس وتمثل في قوله:
“كانت الخطَّة تقضي بمحاصرة القرية تماماً من كلِّ الجهات، وإبادتها بكلِّ من فيها، ببشرها، ودوابِّها، وطيورها، وحشراتها، وكلِّ ما يتنفَّس فيها، كانت جزءاً من عمليَّة “نحشون”* الَّتي خطَّطت لها الهاغاناة…”.
“سدَّد مجنَّد نحو ظهرها…. إلى القلب تماماً، وهي تركض مبتعدة، ثمَّ عاد وخفض فوَّهة البندقيَّة، سدَّد إلى الرُّكبة تماماً، أَصابها هناك، كان يمتحن قدرته على التَّصويب، وهو يتذكَّر تعليمات يوشع: نريدُ بعض الشُّهود مشوَّهين كي يروهم النَّاس في القرى الأُخرى، والمدن، ويشعروا بالرُّعب ممَّا قد يصيبهم، ويتركوا بيوتهم، تلك تعليمات الهاغاناه، ولو ترك الأَمر لي لما تركتُ منهم حيَّاً يتنفَّس… قال له يوشع”.
كان الفصل الأول زخم جدا بتفاصيل المجزرة بكل أهوالها وفجائعها وما حملته من صدمات وقصص تقشعر لها الأبدان، كما أنه لم يغفل عن تفاصيل المقاومة والأسماء الحقيقية لمقاومين معروفين مثل عبد القادر الحسيني وبهجت أبو غربية وغيرهم، كذلك فتح لنا نافذة للأمل في قصة حب ياسمين والخال التي كان مهرها قتل قاتل أبيها “وليام جاك”، وقد تمكن بالفعل من قتله ليحوز بذلك على رضاها والزواج منها.
ولم تنته المجزرة هناك في دير ياسين إلا بفجيعة أخرى لم يغفل عنها الكاتب في نهاية الفصل الأول، وهي فجيعة اللجوء، وسأذكر ذلك على لسانه في صفحة 51:
“الجيوش العربيَّة ستدخل فلسطين بعد انسحاب بريطانيا، وستحرِّرها من اليهود، قالوا، وهو صدَّق الكذبة.
لم يكن يعرف أَنَّنا سنكون طلائع اللَّاجئين، هو، وأُمِّي، وأَنا، لم يعرف.
اللَّاجئون هم من لحقوا بنا، هم من استقرَّ بهم المقام في الزَّرقاء، وبنوا المخيَّمَ حول المسجدِ والمقبرةِ الملاصقةِ له”.
في الفصل الثاني يبدأ الكاتب بسرد تفاصيل حياة المخيم من معاناة بدءاً من الخيم التي عاشوا فيها مؤقتا، وقد تحولت فيما بعد إلى بيوت من الطوب الأحمر المخلوط بالقش، ومدارس وكالة الغوث التي كانت تفيض بالطلاب، ولا تستوعب الأعداد، كذلك تحول الناجون من أصحاب أراضٍ وبيوت إلى أرقام في بطاقات المؤن من أجل استقطاب المساعدات الدولية، وتعلق أهالي المخيم بأوهام الحرب والعودة يسمعونها عبر أثير راديو احتفظ فيه الجد، وكانت المجزرة حاضرة دائما في حكايات الأم وكوابيسها وقدمها الخشبية التي تدك الأرض جيئة وذهابا والمفتاح المعلق على الجدار، والخال العائد بعد غياب بلسان مقطوع، وحال هزيلة حتى ياسين البطل الذي تبين فيما بعد أنه يعاني من ورم دماغي جعله يرى كل شيء بالمقلوب وجاء على لسان الكاتب:
“أَفقد قدرتي على النُّطق، إلى أَين تمضي والمجزرة فيك، والقتلى ينهضون كلَّ ليلة من جديد…”
“كان عليَّ إذن حسب نظريَّة الطَّبيبة أَن أَشعر بالسَّاخن بارداً، والعكس، وأَن أَشمَّ الرَّوائح بالمقلوب، وأَن أَتذوَّق الأَطعمة بالمقلوب، كان يمكن أَن يكون ذلك الأَمر حقيقيَّاً، ما الَّذي يمنع تلك النَّظريَّة ما دمتُ أَرى الأَشياء بالمقلوب؟”. كأن الكاتب أراد أن أبناء المجرزة لا شفاء لهم منها فهي تلاحقهم حتى بعد انتهائها، بل أراد تذكيرنا بأن الإنسان بوضعه الطبيعي قد تدهشه صورة ما وقد يفتنه منظر ما وقد تجذبه رائحة، أما بعد المجزرة، كيف سيحدث ذلك.. سيكون كل شيء مقلوباً لا طعم ولا رائحة له سوى رائحة الدماء وصورة الجثث.
وتحضر المجزرة في فصلها الثالث أيضا، عندما يكون البطل ياسين بعمر العشرين، وينتمي إلى حركة فتح باسم حركي “أمين”، على اسم توأمه الذي استشهد في طريق الهروب من دير ياسين: “رغبة الأَحياء في إيقاظ الموتى من موتهم لا تتوقَّف نعيدهم حين نسمِّي أَطفالنا بأَسمائهم، أَو حين نطلق أَسماءهم على الشَّوارع، والمعالم البارزة، أَو حتَّى نبني للمشاهير منهم المتاحف، ونحتفظ ببعض مقتنياتهم فيها”.
كما أن مفهوم العودة وعدم التنازل عنها، والرغبة الملحة سواء أكانوا أحياء أم أمواتاً تجلى أيضا في هذا الفصل على لسان والدة ياسين حيث قالت: “إن متُّ قبل أَن تنتهي الحرب ونعود، إيَّاك أَن تدفنني في المخيَّم، احمل جثَّتي مع الأَمتعة، ادفع دينارين أَو ثلاثة دنانير أُخرى لسائق الشَّاحنة، وادفنِّي في فلسطين”.
وفي الفصل الرابع أيضا حضرت المجزرة وبقوة في رسائل الخال التي عثر عليها ياسين بعد وفاته وبشكلها الجديد الذي تحولت إليه فيما بعد، حيث تم إقامة مستشفى للمجانين هناك، وقد جاء فيها “أَليس من العبث أَن يُقام مشفى للمجانين فوق أَشلاء القرية الممزَّقة؟ تعود حنَّا نوسين لتسأَل”. الخال ياسين وحنا نوسين اللذان أصبحا من النزلاء في ذلك المشفى، ليتم إبعاد ياسين لاحقاً إلى الاردن لتبقى حنا الصحفية الإسرائيلية الشاهدة على المجزرة نزيلة هناك.
الفصل الخامس، سأكتفي هنا بمقطع من الرواية: “ثمَّة بائع صحف ظهر فجأَة داخل المشهد وهو يصرخ:مذبحة في صبرا، وشاتيلا، اقرأْ أَخبار المذبحة، رأي، دستور، دستور، دستور”، وكما قلت في بداية هذا المقال أن رواية “يس” هي رواية معيشة وخالدة طالما أن هناك عدواناً، لا زال ينام في فراشنا.
أما النهاية التي تخلى فيها سكان المخيم عن أثاثهم، وبدأوا بهدم البيوت، وقالوا إنهم سيعودون من حيث أتوا مشياً، وياسين الذي قذف بكل شيء في منزله خارجا وتعرى، ثم عاد وارتدى ملابسه بالمقلوب وعقد العزم على العودة إلى فلسطين، ترك المجزرة وأهوالها في أعمق أعماق القلب ليعود من حيث أتى.
وفي الختام أقول لولا أنني أعرف الكاتب لخلتُ أنهُ أحد الناجين، ولا زلت حتى اللحظة أسمع قدم والدة ياسين الخشبية تدكّ الأرض، وأرى كف الجد تودع كف توأمه من التابوت، والخال مربوطاً إلى شجرة الكينا ينظر إلى ياسمين، وهي تخطف مسدس أحدث الجنود لتفرغ رصاصة كاملة في رأسها. أرى الأطفال يتطايرون خلف السور وجبريل منهك وهو يحملهم إلى السماء.