لفظان من أصل واحد. بقي “علم” علي أصله. وأضاف إليه “الإعلام” ألفين في أول اللفظ وفي وسطه لتؤكد علي أن العلم ليس علاقة العالم مع نفسه بل علاقته مع غيره وإعلامه به.
وبالرغم من وحدة الأصل اللغوي إلا أنهما أصبحا طريقين مختلفين لأنهما يقومان علي منطقين متضادين
. العلم غايته البحث عن القانون العلمي من أجل السيطرة علي الظواهر بعد اكتشاف قوانينها. في حين أن الإعلام منطقه الإثارة والسبق الصحفي. العلم يبني علي الأمد الطويل بإعداد فريق من الباحثين وتأهيلهم علميا من أجل بناء مجتمع علمي. في حين أن الإعلام يبغي التأثير علي الأمد القصير من أجل إحداث حراك اجتماعي وسياسي سريع. العلم يعمل في صمت وفي المختبر بعيدا عن أعين الناس وأحيانا في خفاء تام إذا كان يقوم ببعض البحوث التي تتعلق بالأمن القومي مثل البحوث النووية. في حين أن الإعلام يعمل في الفضاء الفسيح. مقياسه الانتشار، ومعدل توزيع الصحيفة، ودرجة مشاهدة البرنامج الفضائي، وساعات جلوس المشاهدين أمام الشاشة الفضية. العلم نشاط الخاصة وهم العلماء المؤهلون، والخبراء المتخصصون. في حين أن الإعلام نشاط عام بالرغم من وجود كليات ومعاهد للإعلام. يعتمد علي الذكاء الطبيعي والعلاقات العامة والقدرات الأسلوبية والبلاغية.
وفي المجتمعات النامية يطغي الإعلام علي العلم في الأهمية ودرجة الاهتمام. العلم يمكن نقله من مجتمع إلي آخر في تطبيقاته التكنولوجية في حين أن الإعلام محلي بالضرورة. يعتمد علي البراعة الفردية والفهلوة والشطارة الخاصة بكل شعب. صحيح أن هناك خبراء إعلاميين دوليين ولكنهم يصطدمون بالواقع المحلي، والثقافة الشعبية التي تحرك الجمهور. ويكون التحدي هو علاقة كل منهما بالسلطة أي الاستقلال أم التبعية. فالعلم عادة يتمتع بقدر كبير من الاستقلال، والعمل في هدوء وصمت من أجل اكتشاف قوانين الطبيعة والمجتمع من أجل خدمة الناس. أما الإعلام فإنه عادة ما يكون مرتبطا بسلطة، سلطة الدولة أو سلطة الأحزاب. ولكل سلطة رؤيتها ومصلحتها. تريد توظيف الإعلام لخدمتها حتي ولو اضطر الأمر إلي التزييف والخداع وطمس الحقائق. فالثورة الشعبية عصابات مسلحة ومؤامرة من الخارج. يقوم العلم بدور البحث العلمي وإعمال العقل بعيدا عن الخطابة والارتجال بل إن الخطاب العلمي خطاب صوري خالص، رياضي جبري، خال من البلاغة وأساليب الإنشاء. أما الإعلام فإنه يقوم بتوجيه الرأي العام نحو غاية معينة من أجل السيطرة علي الجموع. وهو الإعلام الرسمي، إعلام الدولة. يقوم الإعلام هنا بدور أجهزة الأمن والشرطة، المحافظة علي النظام. ويكون أهم شخصية في الدولة وزير الإعلام الذي يعرفه كل الناس وليس وزير البحث العلمي والذي قد لا يعرفه أحد. الإعلام هنا بديل عن الديموقراطية. يعبر عن مصلحة الحكم وليس عن مصلحة الشعب. فالحكم يسيطر علي الشعب من خلال الإعلام. وإذا كان العلم يقوم علي الموضوعية والحياد والبحث المتجرد النزيه عن الغرض المباشر فإن الإعلام يقوم علي خلق الأساطير. فهو أقرب إلي الدعاية. وإذا كان العلم يبحث عن الحقيقة التي لا يعرفها مسبقا فإن الإعلام يعرف الحقيقة مسبقا، ما تراه الدولة أو الحزب. يبشر بها، ويدافع عنها. وإذا كان دخل العلماء محدودا وكانوا أقرب إلي الفقر منهم إلي الغني فإن دخل الإعلاميين بلا حدود. يتجاوز مئات الألوف أو الملايين بلا سبب معقول إلا الإغراء لهم للعمل في كنف السلطة. فالسلطة هو الطريق إلي الثروة قبل أن تصبح الثروة فيما بعد طريقا إلي السلطة. فتجتمع السلطتان، وتتحدد الفئتان، رجال السياسة ورجال الأعمال بفضل رجال الإعلام. لذلك سميت السلطة الرابعة. وهي في المجتمعات النامية السلطة الأولي. لا يأخذ العلماء نسبا من إنجازاتهم العلمية لاكتشاف قوي الطبيعة في حين يأخذ الإعلاميون نسبا من الإعلانات في صحفهم وقنواتهم الفضائية. فكما تحول العلم إلي إعلام يتحول الإعلام إلي إعلان حتي أصبحت ثقافة العصر ثقافة الإعلانات. وتقطع البرامج السياسة أو الثقافية الجادة بفواصل إعلانية مادام المشاهد جاهزا للتصديق.
وهذا ما يدعو بعض العلماء إلي إغراء الإعلام فيصبحون وجوها إعلامية بعد أن كانوا وجوها علمية. فالإعلام يعطي شهرة أكثر. والعلم الكثير يأخذ منه الإعلام القليل وينشره بين الناس وكما يقال في المثل الشعبي “الاعور في وسط العمي مفتح”. وينال العالم ما كان ينقصه من شهرة ومال ومنصب عام. كما قد يتحول العالم إلي أستاذ داعية لدينه أو مذهبه السياسي. فيفقد العلم والإعلام معا. يفقد العلم لأنه لم يعد عالما. ويفقد الإعلام لأنه ليس في منبره. العلم يقوم علي قيم التضحية وإنكار الذات في حين أن الإعلام يقوم علي الكسب والشهرة. طموح العالم في التاريخ وطموح الإعلامي في الزمان والمكان أي في النظام السياسي الذي يعمل فيه.
ولا يعني هذا التقابل بين العلم والإعلام عدم وجود طريق ثالث بينهما. وهو الطريق الذي أخذه كبار الفلاسفة مثل سارتر ورسل وتشومسكي وجارودي بالتعرض للقضايا العامة بروح العلم واستقلاله عن السلطة. وهو أيضا طريق كبار الإعلاميين الذين يبحثون عن الحقيقة ويكشفون عنها ضد الزيف والبهتان والكذب في الإعلام الرسمي. والأمثلة في ذلك كثيرة لدي الإعلاميين الذين اكتشفوا “وترجيت” وفظائع حرب فيتنام والتعذيب في أبي غريب وجوانتانامو، ووثائق ويكيليكس الأخيرة. هو إعلام يهدف إلي يقظة الوعي الإنساني ضد التخدير الذي يقوم به الإعلام الرسمي. هو الطريق الذي تأخذه مراكز الأبحاث والدراسات الملحقة بالصحف الكبري والتي تهدف نتائجها إلي إعادة بناء الثقافة السياسية للمجتمعات. وهو العلم الذي يلتزم به العالم خاصة في العلوم الإنسانية، ويكشف الواقع الاجتماعي المدعم بالإحصائيات لتبديد أساطير الإعلام الرسمي.
ليس الطريق الثالث هو العلم الخاص والإعلام الخاص. فالعلم الخاص تقوده الشركات الصناعية الكبري من أجل الكسب والربح. وتقوم به جماعات المصالح من أجل المنافسة كما هو الحال في شركات الأدوية الكبري ومصانع السلاح. وليس الطريق هو الإعلام الخاص، إعلام القنوات الخاصة، القائم علي الإعلانات والفضائح الجنسية والمباريات الرياضية وتفريغ طاقات الشباب وهموم المواطنين. فهو إعلام يحيد بالوعي القومي عن قضاياه المركزية لتهميشها بعيدا عن قلب الوطن.
هذا نقد ذاتي للعلم والإعلام في آن واحد. هو نقد للعلم المنقول، المنعزل عن الواقع الذي يتم البحث فيه. ويجعل مهمته المعرفة وليس السلوك، النظر وليس العمل. وهو نقد للإعلام للتخفيف من سيطرته وإغرائه والتحرر من العمل في الإعلام الرسمي. والغريب أن يصدر هذا النقد في الإعلام، ولكنه يصدر أيضا في العلم، في الجامعات ومراكز الأبحاث التي تنقل العلم باعتباره معلومات من خلال الكتب المقررة والمذكرات الجامعية ومناهج الحفظ والتلقين. إن التفكير في علاقة صحية بين العلم والإعلام قد يكون من ضرورات الثورة العربية الحالية الواقعة بين شقي الرحي.