غيب الموت الطبيبة والكاتبة والناشطة النسوية المدافعة عن حقوق الانسان وحقوق المرأة على وجه الخصوص نوال السعداوي عن عمر يناهز 90 عاماً.
وفي كثير من التهكم قالوا لها: «أنت امرأة متوحشة وخطيرة» فكتبت «أنا اقول الحقيقة والحقيقة متوحشة وخطيرة».
وحين سألتها مذيعة (BBC) في حوار أجرته معها عن امكانية تخفيفها حدة انتقاداها اجابت السعداوي قائلة: «كلا يجب أكون اكثر صراحة يجب ان اكون عدوانية لان العالم بات اكثر عدوانية ونحن بحاجة إلى ان يتحدث الناس بصوت عالٍ ضد الظلم».
هذه هي رسالة السعداوي التي تعتبر نموذجاً رائعاً صلباً في المعارك ضد التخلف والظلم.
قبل عام ونيف كتبت مجلة «روز اليوسف» مؤلفاتها مثيرة للجدل وحواراتها مليئة بالالغام ربما عن عمد منها او لان ذاتها لا تنفصل عن ما تكتب في أي من أعمالها، ما جعل وضع اسمها على غلاف كتاب يعني للبعض «الخروج عن النص» بهذه الطريقة تستهدف السعداوي شرائح محدودة من الجمهور وتنقل إليها أفكارها بكل وضوح كالقاء حجر في المياه الراكدة، من دون مداعبة المشاعر أو محاولة للوصول من يحالفها الرأي.. لذلك عليك ان تبادر بالدخول لعالمها.. لتجد ان لها منطقها الخاص في النظر للبشر والأشياء.. تحترمه حتى لو اختلفت معها.
في كتابها «الاسئلة الممنوعة.. وتجميد العقل» تطوف الدكتورة نوال السعداوي سريعاً على مقالات كتبتها في أوقات وازمنة مختلفة تصدت من خلالها للآراء المتطرفة مطالبة بوأدها بدلاً من وأد النساء.. وتعارض السلطة إذا ما جارت على حقوق الأفراد.. لتصبح هذه المقالات المتنوعة وكأنها المحطات الرئيسية لأفكارها وشخصيتها.. لتلقي اسألتها الممنوعة كالمياه الساخنة تذوب فيها ثلوج التطرف. تشبه أفكار «نوال» مكعبات «الليجو» التي تراصت فوق بعضها واحدة تلو الأخرى منذ الطفولة.. إذا كانت كل المشاهد اليومية في طفولتها اشبه ببذور لأفكارها وفلسفتها تجاه الحياة وكأن أثر فراشة لم ير وقتها ولم يمحِ من ذاكرتها لتواجه بعد ذلك بمفردها السلطة بجميع مستوياتها السياسية والطبقية والدينية اضافة للذكورية.
في البيت ذهبت نوال لتسأل والدها عن سبب حجاب النساء في الصلاة عكس الرجال.. لكن يبدو ان اجابة والدها بوجود فرق بين الرجال والمرأة لم تقنعها.. وظل السؤال يطاردها.
امتلأ رأسها بالكثير من علامات الاستفهام حول «المساواة» و«الرحمة» وحرق الكافرين هكذا تبلور في ذهنها مع الوقت توأم السلطة والجنس وفي طفولتها سمعت نوال والدها استاذ اصول الدين يعلق على منح اعضاء البرلمان لقب» «الملك الصالح» لفاروق قائلاً: التجارة بادين في حلبة السياسة دليل على الافلاس.. لتعرف نوال ذلك المصطلح للمرة الأولى.. لتجد نفسها بعد ذلك مشاركة في مظاهرات الطلاب للمرة الأولى ضد الملك فاروق لتسقط لقب خليفة المسلمين (الوهمي).. ومن ذلك الوقت أي من الخمسينيات لم يتغير الأمر كثيراً عندها في مواجهة سطوة رجال الدين.
لم تكن السلطة الدينية وحدها ما يثير اسئلة صاحبه كتاب «المرأة والجنس» اذا كان نقد والدها للسلطة السياسية هو السبب الأول للفجوة التي ظلت قائمة بينها وبين السلطة.. ترى السياسة طوال الوقت صراعاً على السلطة والأموال.. حتى عندما اقترح عليها عدد من الشباب لانتخابات الرئاسة في عام 2005.. وضعت برنامجاً انتخابياً من دون خوض سجال الانتخابات فهي لم تتعود تقديم القرابين حتى للجماهير.
برنامج نوال الانتخابي لم يكن سوى ملخص لافكارها التي دافعت عنها سنين طويلة.. من المطالبة بلا مركزية السلطة وتغيير فلسفة التعليم وكسر المحرمات الموروثة والقيود السياسية والدينية.. إضافة لتحرير الاقتصاد من قبضة المعونات الاجنبية وفرض الضرائب على الاثراء.. نقاط واضحة ومحددة تجسد حربها على جبهات متعددة في ذات الوقت.
لماذا يتجاهل قراء الغرب نوال السعداوي؟
تقول «روز اليوسف» مجموعات النسويات تطلق على نوال السعداوي «سيمون دو بوفوار الشرق» لكن يبدو ان هناك من يتحفظ على أفكارها الاشتراكية.. اذ ترجمت دار النشر البريطانية كتابها الوجه العالي للمرأة العربية«وغيرت عنوانه ليصبح»الوجه الخفي لحواء«اضافة لحذف اجزاء من الكتاب عن»المرأة والعمل«وأخرى عن»المرأة والاشتراكية«لكن ما سر حذف هذه الفصول بالتحديد؟
الدكتور جيمس هولستون استاذ الابداع الادبي واللغة في جامعة»صاني«كشف في رسالته للدكتورة نوال السعداوي عن سبب حذف تلك الأجزاء من الكتاب مشيراً بان ذلك يرجع لانتماء اغلب النسويات في الغرب إلى الليبرالية ولا يتحمسن للاشتراكية بينما ترى السعداوي ان مشكلة المجموعات النسوية في الغرب هي تجاهل البعد الطبقي في قضية المرأة، واعتبار ان السلطة الابوية البطريقية هي المشكلة لا النظام الابوي الكامل.. هكذا تجاهلت الليبراليات من النساء في الغرب منتج السعداوي الفكري بينما وجدت ان افكارهن تحمل كثيراً من التناقض والازدواجية.
كرهت نوال السعداوي دور النخبة الثقافية وكتاب البرج العاجي قائلة:»تفشل الثورات التي تقودها النخب.. وان نجحت الثورة وحصلت على كرسي الحكم سرعان ما تفقد مبادئها ومثلها العليا.. وتصبح اثكر تسلطاً وعنفاً من السلطة التي ثارت ضدها واسقطتها«.
وعن مدعي الثقافة من النخبة تقول:»يتصور الكاتب منهم انه يزداد قيمة حين يردد بعض الاسماء المرموقة.. أو تعمد التعقيد اللغوي والغموض املاً في بث الرهبة في النفوس.. ولا يعرف هؤلاء الكتاب انه لا يبقى في الذاكرة الا البسيط الواضح او السهل الممتنع«.
رحلت المناضلة الكبيرة نوال السعداوي التي تعرضت للسجن والتجهير والتكفير.. رحلت المبدعة التي افنت حياتها دفاعاً عن الحريات وحقوق الانسان والعقل وتعرضت لمعارك عنيفة بسبب أفكارها التنويرية ومن بين تلك المعارك رفعت القوى المتأسلمة قضايا الحسبة للتفرقة بينها وبين زوجها.. رحلت المدافعة عن المرأة والمكافحة ضد المحظورات الاجتماعية.
كانت اشهر عباراتها ان شرف الانسان رجلاً أو امرأة هو الصدق، صدق التفكير وصدق الاحساس وصدق الافعال، وان الانسان الشريف هو الذي لا يعيش حياة مزدوجة واحدة في العلانية وأخرى في الخفاء.
ووفقاً لموقع»العربية» بعد الاعلان عن وفاتها ضجت حسابات تابعة لعناصر من جماعة الاخوان وانصارهم ومتطرفين ومتشددين على مواقع التواصل بعبارات السب والقذف والرجم بل الشماتة في وفاة الراحلة، حيث وصفوها بالهالكة والمنحرفة والكافرة لكونها نادت بحرية المرأة ووقف جريمة ختان الإناث.