لم يترك عبد الرحمن الكواكبي وفرانز فانون الكثير ليقال عن اغتراب الإنسان الخارج من حقبة الاستعمار وما تلاها من نكبات. و يكاد هذا الإنسان يكون كينونة مستعصية على الفهم لأنه لازال يقبع في ذيل العالم يجرُّ ويلاته . يورد عبد الرحمن الكواكبي سببا مباشرا، إذ يقول أن “من أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العِلم ، و استبداد النفس على العقل، ويسمى استبداد المرء على نفسه، وذالك أن الله جلت نعمه خلق الإنسان حرا قائده العقل، ففكر و أبى إلا أن يكون عبدا قائده الجهل.” (راجع الصفحة 273 من كتابه طبائع الإستبداد).
إن التنظير لما يجب أن تكون عليه الأمور في بلاد ما بعد الاستعمار يكاد يكون غير مجدي لاعتبارات كثيرة. أولها أن كلمة المثقف ناذرا ما تصل إلى أولئك الذين تهمُّهم فتبقى رهينة الرفوف و الصالونات. وفي أحيان كثيرة يعتبرها من دنت بهم المدارك طوباوية أو مستحيلة لجهل فيهم أو فتور . هذا النمو المطرد مردُّه كذالك إلى أن إنسان ما بعد الاستعمار يعيد أخطاء كل تجربة ولا يستفيد من تراكمها . و الأمم لا تنمو بتكرار الأخطاء و إنما باتقاء شرها.
و حتى إن تقمَّصت دولة ما بعد الاستعمار ليبرالية لفضية في المذكرات و المراسلات و نشرات الأخبار فهي على الأرض تحصد أرقاما مخيفة يزيد معها ضنك الفرد و حَنقه. و الظاهر أن السلسلة التي تنقل التعليمات تتكسَّر في مكان ما، حيت تستبد النفس على العقل ربما، و حتى و إن كانت السلسلة من ذهب فحلقة واحدة مكسورة كهذه ستؤدي إلى عكس المطلوب . بنية مجتمع ما بعد الاستعمار هذه المبنية على نوبات التعليمات لا الإشراك، قد تؤدي إلى عكس المطلوب حين لا يملك معها الموظف أو العامل أو رئيس المصلحة أن يضيف لها و يزيل انطلاقا من تراكم تجربتِه ودرايته .
أما تكهُّنات الماركسية التي كانت أمل جموع المغتربين فهي على ما يبدوا وبال على العامل في بلاد ما بعد الإستعمار و “نعمة” على رب العمل، لأنه بقدر ما تخبر العامل عن وعيه المزيف، تمنح لرب العمل سُبلاً للبطش. وتبقى النظرية رابحة على كل الحال لأن طرحها يكاد يكون مطلقا : إذا انتفض العمال فهذا هو المراد و إن لم يفعلوا فهم يعيشون وعياً مزيفاً—فتصبح النظرية هي الأخرى شرطية ووسيلة اغتراب لا انعتاق.
الإنسان المغترب يعرف بِعلامات نفسية غريبة. إنه متنمر لكن على أولئك الذين يقبعون تحته ، أما من فوقه فيتدلَّل لهم و يخفض لهم جناح الذل . هذه سِمة كبرى لنفسية المغترب في بلاد ما بعد الاستعمار، و تكاد تكون بنية شبه راسخة في المجتمعات المغتربة الخارجة من هذه المحنة وما تلاها. إن الإنسان الخارج من هذه الحقبة أمره صعب غاية الصعوبة اذ ليس له إلا أن ترتعد فرائصه من أجل لقمة العيش كما في قصة سيزيف .أما حين يُفرض عليه زيارة مؤسسة لِحق فيستعيد بالله من الشيطان الرجيم؛ تتسارع دقات قلبه و يصفر وجهه و يبلع لسانه خوفا من ساعات الانتظار ومن جرات القلم .
أمام انسان ما بعد الإستعمار ثلاث عوالم لو ربطت تمام الربط لقللت من تبعات هذا الاغتراب.1) أولها عالم الأفكار الخاصة بالفرد وقد أسميتها في مقال سابق بالأفكار القبلية: صحيح أن الرغبة في الأكل فكرة قبلية فطرية لكن الطفل الصغير لا يأكل إلا حين يتحرك الشيء المأكول أمامه عينيه فيرنوا إليه. ومنه وجب الاستكشاف على الاستكانة إلى كل ما هو قبلي 2) على حساب العالم الخارجي بكل قوانينه و تفاصيله 3) ثالث هذه العوالم هو عالم النظريات الفلسفية و العلمية (و كل فِكر مفيد) الموجهة لبوصلة الفرد أو النفس في رحلتها في هذا العالم. تضيع بوصلة الفرد ويغترب حين يستكين لأفكاره الخاصة دائما فيعيش بالظن أو الهوى أو تأثيرات ثقافة المحيط المحدودة وحين يبني معرفته للعالم على الملاحظة الساذجة.عالم النظريات هذا يعتبر بمثابة الموجه، وهذا منطق التنوير. من ارتقوا في مداركهم و تفوقوا غالبا ما خرجوا من عالم الاستيهامات الذاتية المحدودة إلى عالم التجريب و التخطيء و النظريات العلمية و الأفكار المستنيرة .
وقعت الكارثة في إنسان ما بعد الاستعمار حين استكان إلى نظريات محدودة بكلمات محدودة تحد النظر و الفهم, لأنه و كما يقول الدكتور كارل بوبر، “عن طريق النظريات نتعلم الملاحظة، و نتعلم طرق طرح السؤال الذي يقود إلى ملاحظات جديدة و تأويلات جديدة (ترجمتي). (ص. 365 من كتابه التفنيدات و التخمينات) فرجل الدين المتشدد لا يرى هذا الأفق، فهو يتكلم ليحرِّم، و يخيف الناس بالمهلَكة والموت، ولا يرى غير هذا الأفق في أحيان كثيرة . فيكون الفرد مغتربا مكلوما يحتاج إلى من يأخذ بيده فيأتي الواعظ يلومه فيزيد عليه من همِّه. يكاد هذا الإكثار من النصح يكون ضنكا على المتلقي الذي تهمه سبل العيش و التقدم و الرفاه . الشرف عند الواعظ، لقبه عبد الله العروي كذالك بالمثقف الشيخ، يَكون في عورة المرأة فقط و في طقوس تَزيغ عن القيم الحقيقة كالتفكر و السير في الأرض و النظر و الإبداع . هذا يذكرنا بمفارقة محمد عبدو الذي وجد في نفسه أفضل ممثل لقيم الدين لكن في مجتمع مصري متعثر، لكنه بالمقابل صُدم بمُجتمع غربي متقدم مُبتعد عن الدين نسبيا. يصبح المفكر مع هذه المفارقة بين أمرين أحلاهما مر، يُصبح تقدميا عقلانيا حين يخاطب الغرب و سِلبيا إعتذاريا حين يخاطب بني جلدته .
الفرد مثقل بثقافة شفهية تكاد تضيع، مثقلة بِحكمٍ مستكينة تفسر كل شيء تقريبا، يجد فيها الضعيف تبريرا لضعفه و يجد فيها المستبد تبريرا لبطشه وزد على ذالك هذا التمسك المرضي بالعرق أو اللغة أو بنظريات تأخذ من الدين قشوره ، و من العرق والقبيلة انغلاقهما و من اللغة محدودية مصطلحاتها ، و زد عليها هذا الفراغ الذي خلَّفه ماضي الإنسان المستعمَر مع صدمة الحداثة .
هنا يأتي دور النظريات في التصحيح و التخطيء والتوجيه، وهي العالم الثالث الذي أشرنا إليه آنفا. مع القراءة يَكتشف الفرد المغترب طرقا أفضل لفهم العالم ولرصد سبل الإنعتاق و أفضل العوالم الممكنة . القراءة المزدوجة و البحث في آثار أفضل المفكرين من كل حدب وصوب وحدها تنير الطريق . آن الأوان ربما إلى أن يفطن إنسان ما بعد الاستعمار إلى أن الانغلاق و الاحتماء و الخوف من الجديد بنيات ذهنية خطيرة . و على حد القول القدماء : قد يكون “عدو عاقل خيرا من صديق جاهل” . فلتنطلق الذات تنشد كل جديد، ليس ترفعا ولا هروبا ولا تفسخا كما يدَّعي المدَّعون، وإنما لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لأنه من خلال اكتشاف ما عند الآخر نقدر ذواتنا و نزيد من استنارتها و توهجها.
أليس من دواعي الاغتراب أن يفرح الفرد بتأويل واحد للنصوص و الوجود ؟ العِلم يقتضي تأويلات جديدة وهو لا يبحث ليقول نفس الشيء أو ليعيد نفسه، بل يتطوَّر بالزيادة و النقصان . و على هذا النهج يجب أن نسير جميعا بشرط أن لا نكون كالذي رأى العشب و لم يرى الهاوية. إن ما يزيد من المعرفة و يجعلها ممكنة هو قدرتنا على الاختيار من بين أفضل النظريات الموجودة. وهذا لن يتأتى إلا بأن نفكر في حدود ما هو متاح و جيد في ثقافتنا و ثقافة العالم أجمع، فننشد بذالك ما نطور به من أنفسنا و ننقص به من اغترابنا.