ليث العبدويس
وقفتُ، وَسطَ حَشدٍ من تَنافُسٍ انتخابيٍ صامِت، ذخيرَتُهُ المِئاتُ من صورٍ انتصبتْ، فُجأة، بوقاحةِ من اعتادَ إهمالَ الاستئذان، وانبثّتْ تُغازِلُ في مُخيلاتِنا، وبتفاؤلٍ يكادُ لا يجدُ لهُ من حِزمةٍ لونيّة غير التورّد لإقناعِنا ببرنامَجهِ المُختال، دوافِعنا الفِطريّة، الموزّعة، بيأس، بين أمانٍ هارِب، ولُقمةٍ مُتشرّدة، ومُستقبلٍ غائِم.
فهو، هذا التفاؤلُ الحالِم، مُغالٍ في اغراءاتهِ، فادِحٍ في إسرافه، يعزِفُ على ذاكَ الوتر الذي ديسَ، معَ عودِه، تحت جنازيرِ مُحتلّينَ رَحلوا، وحربٍ سِرّيّةٍ تتجدّدُ، في كُل ذات أزمَةٍ، احتمالاتُ اندلاعها، وتُطِلّ، بذات رأسِها، مُعبّرةٍ، بديمومة من يرفض النسيانَ، عن فشلنا في العثورِ على قاسمٍ مُشترك، فقدناهُ وَسطَ ضجيج التعبئة الطائفيّة الصاخِب.
أقولُ، وَقفتُ، مُنبهراً لِكثافةِ المُرشحينَ، ومثاليّة الشِعارات التي أراها، بِشكلٍ ما، تَنطوي على بذاءةٍ تُهينُ ذكاءنا السياسي الحاد المُتبلورِ عَن مُعايَشَةٍ طويلَةٍ للحِزبيّة الطارئة على البلد، ولذاكَ النمط من تداول السلطة الذي لَم يَعُد يَحمِلُ من “السِلميّة” شيئاً، بعدَ أن تبدّدتْ “سلميَتُهُ” المُفترضة بِفعل كواتِم الصوت وشحنات الاغتيال الناسِفة، والفضائِح الأخلاقيّة والسياسية الموقوتة على عقارِبِ اشتداد الحَملة الانتخابية، والفضائيات المؤجرة لأهداف المَسخ والتسقيط المُتبادل، ورُعب “الفِرقة الذهبية” وهي تَستَعِدُّ لعمليّة
دَهمٍ وتفتيش، لا يلبَثُ أن يُمحى، على إثرِها، كَيانٌ سياسي بِرُمَتِه.
رأيتُهُم، وفيهم القليلُ الذي أعرف، والكثيرُ الذي أُنكِر، وحتى ذاك الذي كُنتُ مُتيقناً من معرفتي به، بدا لي ذي ملامِح جَدُّ غَريبة، تَكادُ لا تتطابَقُ مع صورتِهِ القَديمة المُنطَبعةِ في ذاكرتي، هل هي هالة العرض العلني في قارعة العُموم وأمام ملايين الأحداقِ والمُقل سببتْ ذاك الارتباك في التقاطِ تقاسيمَ كانت، حتى أمدٍ قريبٍ، واضِحةٍ جَليّة؟ هل تذبلُ أُلفتُنا بالأشخاص خلال عروجِهِم من مستوانا الحميم الدافئ إلى سَدّة السياسة الباردة وبلاطِها الموحِش؟
بعضُهم، وبتأكيدٍ مُبالغٍ فيه، كان يُصِرُّ على رَفع سَبابَتِهِ، مومِئاً بها نحو مكانٍ غامض، نحو زاويةٍ مَجهولة، وكأنه، في تلك اللحظة، يُشيرُ، رُبما، إلى المجهول الذي أتى منه، أو رُبما لتعاسَتِنا، إلى المجهول الذي سيصير وينتهي ويرحل إليه، بعدَ فوزهِ المُحتَمَل، مُحاطاً بغابات الأشقياء والبنادق الرشاشة والحواجِز، مُلتَفّاً بِهالة قُدسية، يصنَعُها بروتوكول السياسيين الزائِف، وَلمسَةُ العَظَمة التي يَجهَدُ طاقَمُهُ السِكرتاري في إضفائِها وَصُنعِها لِتدارُك أي نَقصٍ في كاريزما “مُمثّل الشَعب وابنه البارّ”.
والآخر، اكتفى بابتسامة شاحِبة، شُحوبَ من أرهَقَهُ مُصوّرٌ لَجوجٌ مُتطلّب، مَنّى نفسَهُ، رُبما، بِقضمَةٍ من تُفاحَةِ الفوز المُحرّمة، حتى لقد بَدتْ الإبتسامة، وذاكَ حالُها، في آخر مراحل الاصطناع والتكلّف.
وآخر، شابٌ غَر، تخطّى العشرينات بالكاد، ثَمّة، بالتأكيد، من أقنعهُ أنَّ السياسة اقصرُ الطُرُق للمجد، المجد الذي قد يَحصده، وهو في سنيه المُبكّرة تِلك، بِبِضعِ مُلصَقاتٍ و”بوستراتٍ” وبحفنةٍ من بطاقات التعريف، وبِتمسيدةٍ حانيةٍ على رأس يَتيمٍ أو مُعاقٍ أو ارمَلة، وبِشكل يُحسَنُ خلالهُ توثيقُها، تِلكَ التمسيدةُ الموجّهة، لِتُثبِتَ ما سيؤولُ إليه حالُ هذه الفئات، التي لا تُخفي طبعاً عميق استغرابِها من مواسم الاهتمام المُفاجئ، إذا ما فازَ صاحِبُنا، راعي الطُفولة الجريحة وحامي المساكينِ والفارِسِ الذي يَضَعُ نَحره، دون نَحر المُستضعَفين،
كأحدِ الفُرسان النُبلاء.
وآخرُ، وما أكثرُ أصنافَهُم، يبدو قَريبَ الشَبَه لأهل الآخِرةَ أكثرَ منهُ لأهل الدُنيا، قد تَدلّت إحدى قدماه، او كلاهُما، أو تأرجحتا، فوق قبره، اعتمر زياً تقليدياً، أو حَشَرَ نَفسه، أو حَشروهُ، في بَدلةٍ رَسميّة بَرّاقة، فَبدا، في سِنّه تلك، كعجوزٍ أشمطٍ مُتصابيٍ يَتوقُ لِخِطبةِ حسناءَ مُراهِقة، ناشِزاً شاذّاً وهو يتموضَعُ، كغيرِه، بِوجهٍ مُتغضنِ الجِلد وتجاعيد عَميقة، وَسَطَ الشارِع القفر، يلهو ببقايا هيبتهِ الغُبار وَعيونُ المارّة الساخِرة والذُباب ومُحتَرفو التنكيت السياسي اللاذِع ومُخربو الحَملات المدفوعين، مُهرولاً في ماراثونٍ
يُقطّع الأنفاسَ، بحيثُ تراءى لي، انه في عوزٍ لِجُرعةِ أُوكسجينٍ أكثر من حاجَتِهِ لِفُرصةٍ في ايجادٍ مكانةٍ قد لا يكفي لانتهازِها، مُجرّدُ وَقارٍ تبعثَرَ على لوحَةٍ دعائيّة مُكلِفة.
لو كانَ لوطني قدرٌ مُغايرٌ في التاريخ الجغرافيا، لو لَم تنبجس تحتَ أقدام بنيه بُحيراتُ النِفطِ وأورام الحُقول البتروليّة السوداء، لو لَم يُنكَبْ بِتلك الصُدفة الطبيعيّة التي تحولت إلى لعنة مُقيمة، لو تَجرّدَ من قضاءه المُبرم ووعده بالانهيال الأعمى للثروة، لو أخطأ ذلك التقاطع الذي يرتطم فيه، بِشدّة، جوهرُ طمعنا الانساني الفطري وَعُقَدُ السُلطة ونوازع الجريمة وعقليّة الاستحواذ والأنانية العمياء، لو أنّ كُلَّ ذلك لم يَكُن، هل كُنتُ ساقفُ يوماً، على حافّة رصيفِ الوطن الثَري المذبوح بكاملِ زينتهِ وقلائِده وعُقودِه، بِكامِل خلاخيلِهِ
وحُجولِه، اقرأ في عيونِ هؤلاء اللُصوص أدعياء الشَرَف، أو الشُرفاء الآخذين بالتحول إلى لصوص، كُلَّ ذلك البوح السرّي؟