هل ينتصر الإرهاب علی الحضارة والعلم؟
مقال للدکتور سامان سوراني:
الإنسان، هذا الكائن الزمني الذي يجر وراءه تواريخه وأطواره يعيش اليوم في قرية كونية وزمن عابر للحدود بين القارات والمجتمعات واللغات عبر وسائل الإعلام المتعددة و شبكات الاتصال الفوري. فمع نمو المعرفة والتقنية والسلطة تنمو وللأسف الحوادث العنيفة وتزداد مفاجئاتها، لا الثقافات تبقی منعزلة ولا العقائد محصنة ضد تدفق المعلومات و سيل الصور وحتی الأماكن لا تبقی آمنة من عنف الإرهاب ومآلاته البربرية. صحيح أن التنازع والتعاون متلازمتان في الإنسان لاينفك أحدهما عن الآخر وهما دعامتا الاجتماع البشري وأن الحياة البشرية، کما وصفه الكاتب البريطاني صموئيل بتلر (1835– 1902) عبارة عن خيط وسكين، فالخيط يربط الناس بعضهم ببعض والسكين تقطع الرباط بينهم. هذه هي الحياة البشرية، فالشيء لايعرف إلا بنقيضه وأنه لايوجد إلا إذا وجد نقيضه معه.
الإرهاب متراس عقائدي أو إيديولوجي لشن الحرب علی الغير، فهو ظلام يندفع للف العالم بعتمته. فلو أخذنا نظام البعث المقبور بمشروعيته الثورية وبطانته الفاسدة كمثال للإرهاب والترهيب نری بأن هذا النظام قام طوال حکمه بتحقير الدولة العصرية وبإغتيال الوطنية عند المواطن وبانتهاك حقوقه. المواطنين الذي لم يحوله الاستبداد البعثي إلى رعايا فحسب، بل إلى كائنات توتاليتارية مسلوبة الإرادة. النظام المقبور قام بنشر الوثنية في الفکر العراقي والإستبداد في السياسة العراقية، فقد صنع التماثيل للدكتاتور الطاغي و تم الصاق صوره الكبيرة علی الجدران الخارجية والحيطان الداخلية للمؤسسات الحکومية والمدنية والصغيرة منها علی صدور مريديه وجلاوزته بهدف التأليه والتقديس والعبادة. إن إستراتيجية الرفض والإقصاء وإرادة التأله والتفرد هي التي تثمر البربرية والهمجية الحديثة والمعاصرة، حيث يتم القتل وتمزيق الأجساد وتدمير الممتلكات بأعصاب باردة وضمير جامد و بعقلية أخروي أو عسكري إرهابي بصفة المناضل والمجاهد والمدافع عن الهوية والثوابت.
الإرهاب هو وليد الخطب الرنانة “للقائد التاريخي والبطل الملهم” والفتاوى النارية لبعض “الأئمة والمشايخ والمرشدين” لانبعاث القوى الظلامية من جوف التاريخ وتعبئة المد البشري لترهيب المجتمعات بتفجير الأجساد ليطغی المد السلفي الارتدادي علی البعد التنويري والمستقبلي وعقلية الاستبعاد والإقصاء علی لغة الاعتراف والشراكة والتبادل. إذ لا يمكن الحصول علی حرية أو استقلالية أو قيمة للفرد في مجتمع يستمد مشروعيته من النصوص المقدسة والکتب الخضراء والتقارير اللاسياسية السوداء، لأن الشعارات الزائفة والفتاوى النارية والنظام المستبد والحروب المدمرة والتضحيات الرخيصة والانتصارات المزورة تبقی أولی من الناس والمجتمع والحياة. الأفكار الأصولية والسلفية بتصديرها مارکة الحجاب والدم والتضحية عملت وتعمل ليل نهار ضد صناعة التنمية والمدنية والحضارة، بقمعها الحريات الفردية و إرجاع أسباب المصائب والکوارث والجهل والفقر في مجتمعاتها إلی الغزو الثقافي الغربي أو إلی العولمة والأمرکة. فبدل السعي والعمل بمفردات نسبية علی نظريات ثورة الاتصالات والمعلومات قام أصحاب الفکر السلفي الأصولي والقومي الشوفيني بتهافته في مواجهة کتاب “نهاية التاريخ” لفکوياما بتأليف مجلدات مبنية علی لغة الغلو والتهويم اللاهوتي والتشبيح النضالي والعقائدي لتحقيق إستراتيجيتهم التدميرية. والدليل علی ما نقوله الوضع الأمني الراهن في کل من العراق وأفغانستان، حیث الجهاد الديني ترجم حروبا أهلية في الداخل دفاعا عن هوية مأزومة أو عاجزة. إنهم بقصورهم فسروا مغزى عبارة “النهاية” والتي تعني مرحلة العبور والانتقال من عالم إلی آخر أو من مرحلة إلی مرحلة بنهاية تاريخهم بالرغم من أنهم يرفعون منذ قرون راية الثورة الکبری والتحول التاريخي والحل الأخير.
هل ان المجتمعات البشرية تبقی عاجزة عن مواجهة الکوارث و التدميرات التي تواجهها والتي تتحول الی آفات قاتلة تهدد المصائر والمصالح؟
مجتمعاتنا تحتاج الی الإنفتاح علی العلوم العصرية لإطلاق وتشغيل قواها الحية والخلاقة التي باتت مکبوحة من قبل العقائد المغلقة والنخب الفاشلة والإرادات الفاسدة والعقليات الکسولة والنماذج الإرهابية القاتلة لصنع الإبتکار والتغيير والمشارکة في بناء المجتمع والحضارة. النهوض والإصلاح والتحديث یتم بواسطة الفرد المستقل فکريا بوصفه منتجا وفاعلا ومشارکا ومسؤولا في التشخيص والمعالجة ببلوغ رشده الفکري ولو علی مستوی الحقل والقطاع الذي يعمل فيه. مانحتاج اليه هو مجتمع ديناميکي يشتغل بمفردات الإعتراف والتعدد والتوسط و بلغة الخلق والتحول وبعقلية الترکيب والتجاوز کورشة دائمة من التفکير الخصب والعمل المثمر في مختلف المجالات. فبالإعتراف المتبادل علی المستوی الوجودي بين الأنا والآخر نتجاوز مفهوم التسامح الخادع الذي يلغم الوحدات والهويات و نتحرر من المفهوم الطوباوي والفردوسي للحرية. فالحرية مسار أداته ابداع لايتوقف.
والعولمة ظاهرة کونية وصيرورة تاريخية وعلی المجتمع المبدع أن ينطلق من حقيقة واقعية وعلميَّة وهي عدم وجود امتيازات عقليَّة لمجتمع من دون أخر. ففي كل طور حضاري نری أن الظروف تُهيَّأ لمجتمع دون سواه. فعليه بذل الجهود في سبيل الحوار الحضاري والتَّفاعل من أجل الارتقاء بالواقع المتخلِّف والنُّهوض به. لو أخذنا اليابان كمثال للنهوض نری أن الإقرار بالواقع المتخلِّف والاعتراف للآخر بتفوِّقه، وعدمُ اليأسٍ أو الاستسلام وعدم التسليمٍ بكماليَّة مطلقة للمتفوق، والقبول بالتَّعلم من المتفوِّق والأخذ عنه أعمدة لايمکن التخلي عنها من أجل رصد العلوم وبناء الحضارة وليس المستقبل سوى ممكنات الواقع.
وختاما: المجتمع الذي يربي الفرد کي يزجه في قطيع متكاتف کالبنيان المرصوص، يتحول هو الی قطيع بشري يتخذ آلة لصنع حکومات عسكرية وإستبدادية أو لنشوء أنظمة شمولية وعنصرية.