“لا تُقدم على قول الباطل، ولا تصبر على كتمان الحقيقة”.
ماركوس تولويوس شيشرون
فيلسوف وسياسي وخطيب روماني (106-43 ق.م)
في عام 2014 وفي أعقاب مأساة احتلال الموصل، ومن ثم سنجار وزمار، ومناطق أخرى من سهل نينوى وغيرها، من قبل عصابات داعش الإجرامية، ومعاناة أبناء وبنات الإيزيديين والمسيحيين والشبك والتركمان الهائلة، بسبب هروب مخجل للقوات الحكومية العراقية وقوات الپيشمرگة في سنجار وزمار، وما اقترن بذلك من قتل، وتشريد لمئات الآلاف من البشر، وسبي للنساء والأطفال، واغتصاب، وبيع للنساء الإيزيديات في سوق النخاسة، ومن تحويل لجمهرة من الناس أتباع ديانات أخرى صوب الإسلام عنوة وقهراً، وجهت رسالة إلى السيد رئيس إقليم كردستان العراق، السيد مسعود البارزاني، برزت فيها، المخاطر الجدية المحيطة بالعراق والإقليم، والعواقب الوخيمة، في حالة استمرار توتر العلاقات بين القوى السياسية على مستوى العراق والإقليم، وفي ما بين الطرفين. ثم نشرت مقالاً بهذا المعنى بعد مرور شهر على تلك الرسالة. وفي تشرين الثاني من العام 2015، نشرت مقالاً تحت عنوان “المشكلات المتراكمة التي تواجه إقليم كُردستان العراق”، حاولت فيه معالجة مجموعة من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، المحلية ومع الحكومة الاتحادية ومع الخارج، واجتهدت فيها في طرح بعض الحلول العملية. ثم نشرت مقالاً حول التغيير الديموغرافي الجاري على مناطق المسيحيين بمحافظة نينوى وفي مناطق الإقليم على وفق الوثائق المتوفرة في هذا الصدد، والتي سلمت بعضها الكثير إلى السيد رئيس الإقليم أثناء عقد مؤتمر أصدقاء برطلة بأربيل وبرطلة. كما تطرقت في كل ذلك إلى الحريات العامة والحياة الديمقراطية الضرورية لبناء المجتمع، وبشكل خاص حرية الصحافة وعموم الإعلام وحرية الصحفيين. كما أشرت إلى أن المكاسب التي تحققت بالإقليم، يمكن أن تتعرض للنكسة في كل لحظة، وحذرت من دور قوى الإسلام السياسي المتطرفة وتعاونها مع تركيا والسعودية وقطر. وكنت قبل ذاك قد نشرت مقالاً نقدياً تحت عنوان “سماء إقليم كردستان العراق الملبدة بالغيوم”، والذي يصب بنفس وجهة الدعوة لتحسين الأوضاع قبل أن تتطور الأمور باتجاه سلبي معقد، كما هو عليه الوضع حاليا.
والمقال المذكور، الذي أرسلته للنشر في مجلة گولان، التي تصدر بأربيل، ترجم إلى اللغة الكردية من قبل مترجمي المجلة. وحين اطلعت على الترجمة، تبين لي، إن هيئة تحرير المجلة لم تكن أمينة على نشر المقال وترجمته، بل اقتطعت كل المقاطع النقدية للسياسة الكردستانية الرسمية، وللأحزاب الكردستانية، وللحياة السياسية عموماً. وهو أمر غير معهود إلا في الصحف والمجلات التي لا تحترم نفسها وقراءها وكتابها، مما الزمني إعادة الترجمة إلى اللغة الكردية ونشر المقال كاملاً باللغتين العربية والكردية ومقاطعة الكتابة للمجلة المذكورة، رغم اعتذار رئيس التحرير عبر الهاتف وبرسالة خطية. وقد اُقتطع من المقال حتى المقطع التالي المنشور في صدر المقال، الذي أشرت فيه إلى الآتي: “”من يعتقد بأنه صديق الشعب الكردي ويناضل معه في سبيل تحقيق طموحاته وتطلعاته المستقبلية وحياته الكريمة والمزدهرة، يفترض فيه أن يكون صريحاً، واضحاً وأميناً لمبادئه الأممية وصداقته مع الشعوب، مقتنعاً بالديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات ومدافعاً عنها دون تردد، ومنتقداً ما يراه خلاف ذلك، دون وجل أو مجاملة، وبغيره تفقد الأممية والصداقة والتضامن مضامينها الإنسانية النبيلة!!”
حين شكلنا التجمع العربي لنصرة القضية الكردية في العام 2004، كان همُنا ينصب على حقوق الشعب الكردي ومصالحه، وضمان ممارسته لإرادته الحرة والكريمة، لا بالعراق فحسب، بل وفي جميع أقاليم كردستان الأخرى، والموزعة على أربع دول، منذ الحرب العالمية الأولى، وعلى دولتين هما تركيا وإيران قبل ذاك. وحين نشير إلى نصرة الشعب الكردي، لا يعني بالضرورة تأييد الحكومات والقوى والأحزاب السياسية التي تتشكل في واحدة أو أكثر من هذه الدول، كردستان العراق مثلاً، بل إن ما كان، وما يزال، يهمُنا، هو مصلحة الشعب الكردي وقضيته العادلة وحقوقه القومية والوطنية المشروعة، وحين يتطلب الأمر توجيه تأييد لهذه السياسة أو الإجراء، أو ممارسة النقد للأحزاب السياسية الكردية أو رئاسة وحكومة الإقليم، فمن واجب التجمع أن يمارس ذلك النقد، من منطلق الحرص على الشعب الكردي ومصالحه. وهذا ما كنت أتوخاه وأعمل من أجله، حين كنت أميناً عاماً للتجمع، وهذا ما يفترض أن يكون عليه الحال في الوقت الحاضر، حيث أصبح الأستاذ الدكتور تيسير الآلوسي أميناً عاماً، بعد أن طلبت إعفائي من رئاسة الأمانة العامة وعضويتها، ولكني ما أزال عضواً في التجمع. لا يكفي أن نشجب الاعتداءات التي تمارسها الحكومات في الدول الأربعة ضد الشعب الكردي، بل يفترض أن ننتقد الحكومة الكردستانية بإقليم كردستان العراق، حين تمارس سياسات غير صحيحة على وفق قناعتنا ورؤيتنا للأمور، ومن منطلق النظام الداخلي للتجمع ومهماته، وإلا فلا حاجة لوجوده أصلاً. وأشعر الآن بأن خللاً يواجه عملنا في التجمع، أملي أن يصحح في جانب ممارسة النقد الضروري لصالح الشعب الكردي وفيدراليته ولصالح العراق عموماً.
إن ما كنت أعرفه وما نبهت إليه في رسائلي ومقالاتي ولقاءاتي، حصل فعلاً، حين أعلن ونشر “مركز ميترو للدفاع عن حقوق الصحفيين” تقريره السنوي لعام 2015، وتصدره العنوان التالي: “تعددت الأسباب والتجاوزات مستمرة”، و”الإفلات من العقاب لا يزال يخيم على بيئة العمل الصحفي في إقليم كردستان.” وعن هذا الموضوع كتب الزميل الكاتب ومدير تحرير جريدة المدى العراقية في عموده اليومي بهذا الصدد مقالاً تحت عنوان “مركز ميترو على حق”. وقد ختم مقاله بهذا النص الذي يبين شدة الحرص على الإقليم وسياسته عموماً وإزاء الإعلاميين خصوصاً “إلى ما قبل سنوات قليلة كنّا نعيّر حكامنا (في بغداد) بأنهم فشلوا في اقتفاء أثر القيادة الكردية وتحقيق منجزات سياسية وتنموية ملموسة جلبت قدراً معتبراً من الأمن والاستقرار والرخاء للكرد وشركائهم في الإقليم.. الآن لم يعد في وسعنا فعل ذلك، لأن الإقليم ينحدر تدريجياً إلى الهوّة التي استقرّ فيها حكام بغداد… وتقرير مركز ميترو يقدّم برهاناً آخر على ذلك”. (راجع: عدنان حسين، جريدة المدى، العدد [3551] 19/1/2016). وهذه أول مرة تمارس جريدة المدى نقداً مباشراً وواضحاً للمسؤولين بالإقليم، وهو أمر في مصلحة الإقليم ومسؤوليه.
فمنذ عدة شهور، بدأت الأزمة الثانية لتجديد ولاية السيد مسعود البارزاني لرئاسة إقليم كردستان العراق لعامين قادمين. رفض حزبان تمديد الرئاسة لسنتين، هما الاتحاد الوطني وحركة التغيير، وانقسمت الجماعات الإسلامية على نفسها بين مؤيد ومعارض. ثم تفاقمت هذه الأزمة، واقترنت بتعقيدات ومضاعفات كثيرة، في ظرف غاية في التعقيد يمر به العراق وإقليم كردستان العراق معاً. وأدى إلى منع دخول رئيس البرلمان من السليمانية إلى أربيل وتعطل عملً البرلمان الكردستاني. والأزمة ما تزال قائمة وفي تفاقم وتوتر على المستوى الشعبي وفي ما بين الأحزاب والقوى السياسية.
ومن يتابع الوضع عموماً يجد أن العراق يواجه أزمة حادة ومتنامية، بسبب الصراع المتفاقم على السلطة ببغداد، ومع القوى المناهضة للإصلاحات المطلوبة والتغيير، واستمرار احتلال الدواعش لمحافظة نينوى ومناطق أخرى حول الإقليم من هؤلاء الوحوش الكاسرة. ومع ذلك فالوضع يهدد الإقليم في كل لحظة، كما يمكن أن تستخدم هذه القوى المجرمة الغازات السامة ضد قوات الپيشمرگة ، أو القوات المسلحة العراقية، كما استخدمتها سابقاً. والإقليم يواجه أزمة مالية حادة، بسبب انخفاض سعر البرميل من البترول في السوق العالمية، والمشكلات غير المحلولة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، وخاصة في مجال استخراج وتصدير النفط الخام. وخلال أزمة الرئاسة الجارية، وتأخر حكومة الإقليم عن دفع رواتب الموظفين لشهور عدة، وتوقف المشاريع العمرانية، وتدهور السيولة النقدية والبطالة في محافظات الإقليم حصلت مظاهرات في مدن محافظتي السليمانية وأربيل، وبنتيجة ذلك خرجت في السليمانية عن المألوف وتميزت بالعنف والعنف المضاد غير المحمودين وغير المطلوبين، الذي قاد بدوره إلى تدهور العلاقات السياسية بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، ولكن وبشكل خاص مع حركة التغيير (گوران)، مما أدى إلى اتخاذ إجراءات شديدة من جانب رئاسة الإقليم إزاء رئيس البرلمان الكردستاني ومنعه من دخول أربيل وأخلاء مجلس الوزراء من وزراء التغيير وتعيين وكلاء عنهم. إن هذه غير طبيعية ويمكن أن تعرض الإقليم إلى نكسة حادة في جميع المجالات وإلى استثمارها من جانب أعداء العراق وإقليم كردستان العراق في غير صالح الجميع. والمعلومات المتوفرة حالياً تشير إلى أجواء توتر جديد وشديد بالسليمانية، ووجود كثيف لأجهزة الأمن والپيشمرگة الكردستانية، خشية وقوع أحداث غير حميدة،
ونقلت وكالات الأنباء ما صرح به السيد فاضل رؤوف، وهو قيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني ومسؤول فرع الحزب 21 عن آخر لقاء حصل بتاريخ 9/11/2015 بين السيد رئيس الإقليم وشخصيات سياسية ووجوه اجتماعية وشيوخ من محافظة السليمانية ومن الحزبين الاتحاد الوطني والتغيير بأن رئيس الإقليم قد أكد استعداده لترك منصب رئاسة الإقليم إذا كان ذلك سيحل الأزمة في الإقليم (موقع علامات أونلاين في 9/11/2015). كما نقلت شفق نيوز بتاريخ 11/11/2015 عن نفس الشخص قوله بأن “الرئيس بارزاني لديه مبادرة لحل الأزمة السياسية في الإقليم”. وحتى الآن لا يرى المتتبع أي أفق قريب لحل الأزمة المستعصية.
حين التقينا مع السيد رئيس الإقليم في أعقاب مؤتمر أصدقاء برطلة ضد التغيير الديموغرافي بالعراق، تحدثت عن ظاهرتين سلبيتين في حياة العراق السياسية، هي ظاهرة تشبث المسؤولين في المسؤولية وفي المواقع التي يحتلونها، بغض النظر عن الحجج والأسباب التي يطرحونها للبقاء في السلطة. وقد ذكرت في هذا اللقاء قول الدكتاتور صدام حسين، “جئنا لنبقى”، وما طرحه المستبد بأمره نوري المالكي حين قال لشيخ من شيوخ العشائر ” أخذناها بعد ما ننطيها”، وكلاهما خسرا المعركة. وفي حينها شعرت بتأييده الكامل لما ذكرته في هذا اللقاء. اعتقد بأن رئيس الإقليم لا يرغب أن يكون ثالث الأثافي في هذا المجال. واعتقد بأن لديه الثقة الكاملة بالشعب الكردي وبوعيه وقدرته على انتخاب شخصية كردستانية مناسبة ومقبولة لرئاسة الإقليم يمكنها بمساعدة الجميع، وبمساعدته شخصياً، قيادة الإقليم بشكل سليم، وأن رئيس الإقليم الحالي، سيساهم بالضرورة ومن موقعه في رئاسة الحزب الديمقراطي الكردستاني، في دعم الرئيس الجديد للإقليم، كما إن الحزب الديمقراطي الكردستاني، سيلعب دوره في البرلمان لصالح تقدم الإقليم مع بقية الأحزاب السياسية الديمقراطية. ولكن هذا الموقف سيكون مبادرة طيبة وذات طبيعة ديمقراطية تتطلبها المرحلة والتجربة الغنية لإقليم كردستان العراق لا لصالح الإقليم فحسب، بل ولصالح الكرد في بقية أقاليمهم وللعراق أيضاً.
إن التقرير الذي نشره مركز مترو للدفاع عن حرية الصحفيين عن أوضاع الصحفيين، يؤكد وجود انتهاك وتجاوز فظ من المسؤولين على الصحفيين والصحافة بالإقليم، ولا تتناغم أوضاعهم مع التجربة الجديدة لفيدرالية إقليم كردستان، كما لا تنسجم مع مبادئ حقوق الإنسان وحرية الصحافة والصحفيين، كما إنها تتعارض مع الدستور الكردستاني الذي يمنح الإعلام والصحفيين حريات واسعة. ومن منطلق الحرص على تجربة الإقليم ومصالح الشعب الكردي وتقدمه وتطوره اللاحق، نأمل أن تتخذ الإجراءات الكفيلة بالكف عن مضايقة الصحفيين وحرمانهم من حريتهم واتخاذ الإجراءات الكفيلة بمعالجة المعضلات القائمة لصالح الشعب الكردي وتقدمه نحو تحقيق أهدافه الطموحة في الحرية والديمقراطية والتمتع الكامل لحقوق الإنسان والكرامة.
من هنا أجيب عن السؤال السابق، بأن ليس كل شيء هادئ في الجبهة الكردستانية، بل الأعداء يقفون على الحدود، سواء أكان تنظيم داعش المجرم وعصاباته المتوحشة، أم الدول التي لا ترتضي لكردستان العيش بأمن وسلام وتقدم ، إضافة إلى التوترات الداخلية المتراكمة والأوضاع المالية المتعثرة جداً، خاصة بعد قطع الاتحاد الوطني المفاوضات وإلغاء الاتفاقات السابقة. إن كل ذلك يتطلب بالضرورة، اتخاذ المواقف الجريئة والحازمة باتجاه تحسين الأوضاع وحل المعضلات والابتعاد عن المزيد من التوترات الداخلية ومع الحكومة الاتحادية، والجلوس إلى طاولة المفاوضات وحل المعضلات بشكل سلمي وديمقراطي وعلى وفق الدستور الكردستاني.
كاظم حبيب 21/1/2016