هل تتحول القارة السمراء إلى مستوطنة إسرائيلية ؟
منذ الإعلان عن قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي عام 1948على أنقاض الشعب الفلسطيني ، لم تكتفي هذه الدولة بما اقترفته أياديها الملوثه بالدماء من قتل وتشريد لشعب فلسطين ، وتزييف الحقائق ، وطمس للمعالم ، وأعمال القتل والعربدة والتهجير ضد المواطنين الفلسطينيين ، والاستيلاء على الأرض وما بها من خيرات طبيعية ، بل تعدت تطلعاتها إلى محاولة الهيمنة والسيطرة على خيرات الوطن العربي، بل والتمدد نحو القارة الافريقية التي شغلت حيزا هاما في اهتمامات الكيان الصهيوني منذ السنوات المبكرة لعقد الخمسينات ، وقد انعكس هذا الاهتمام على الدبلوماسية الاسرائيلية التي اخذت تضع القارة في اطار نشاطها وتحركها حيث احتلت افريقيا مكانة الصدارة بعد الولايات المتحدة واوروبا .
فبعد إعلان قيام الدولة الصهيونبة أوْلى صانع القرار الإسرائيلي اهتماماً كبيراً بتأسيس علاقات قوية وراسخة مع القوى الكبرى الأساسية في العالم بداية مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفييتي. يعني ذلك أن إسرائيل في بحثها عن مدىغوريون صاحب نظرية تطويق الشرق الأوسط بإقامة تحالفات مع الدول الغير عربية، وتبدو إفريقيا هي السوق البديلة ليس فقط لاستهلاك السلع الإسرائيلية مادامت الأسواق العربية مقفلة في وجهها، وإنما أيضا لامتصاص العبقرية اليهودية والتمثل بها.
ورغم أن الاستعمار قد بدد الثروة الإفريقية واحدث إيقاعا فوضويا في اقتصادياتها ، لكن القارة السوداء كانت ومازالت تمتلك الكثير من الإمكانات الهائلة وهو ما أوحى لبن غوريهن بصورة اليهودي الأسود .
شرعية الوجود على الساحة الدولية وتأمين وجودها العضوي انصب جل اهتمامها على القوى الاستعمارية الأوروبية، بدليل أن إسرائيل لم يكن لديها بنهاية عام 1957 سوى سبع سفارات فقط في العالم بأسره ستة منها في القارة الأوروبية وأمريكا الشمالية .
كان بن ترجم هذا الاهتمام بالقارة الإفريقية في إطار السياسة الخارجية الإسرائيلية على نحو ملموس من خلال إنشاء شبكة من العلاقات الديبلوماسية والسياسية ومن خلال التعاون الاقتصادي والعسكري منذ أواخر الخمسينات ، واستطاع الكيان الصهيوني على
يمكن القول أن بداية الاختراق الإسرائيلي لإفريقيا قد بدأ في العام 1957 حيث كانت إسرائيل أول دولة أجنبية تفتح سفارة لها في أكرا بعد أقل من شهر من حصول غانا على استقلالها . وقد لعبت السفارة الإسرائيلية في أكرا دوراً كبيراً في تدعيم العلاقات بين البلدين، وهو ما دفع إلى افتتاح سفارتين أخريين في كل من منروفيا وكوناكري، وذلك تحت تأثير إمكانية الحصول على مساعدات تنموية وتقنية من إسرائيل. ومن جهة أخرى فقد عكست زيارة جولدا مائير ـ وزيرة الخارجية الإسرائيلية آنذاك ـ عام 1958 إلى بعض الدول الافريقية لأول مرة ،إصرار اسرائيل في قيام علاقات قوية مع القارة السمراء حيث اجتمعت بقادة كل من ليبيريا وغانا والسنغال ونيجيريا وكوت ديفوار.
وكذلك إنشاء منظمة الوحدة الإفريقية عام 1963م وضع تحدياً أمام إسرائيل؛ حيث إنها لا تتمتع بالعضوية في هذا التجمع الأفروعربي.
ثم عضوية مصر المزدوجة في كل من جامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة الإفريقية أعطاها فرصة إقامة تحالفات مع بعض القادة الأفارقة الراديكاليين من أمثال نكروما وسيكوتوري.
وبحلول عام 1966م كانت إسرائيل تحظى بتمثيل دبلوماسي في كافة الدول الإفريقية جنوب الصحراء باستثناء كل من الصومال وموريتانيا. ومع ذلك فإن إفريقيا كانت بمثابة ساحة للتنافس العربي الإسرائيلي .
فقبل حرب 1973 كان لإسرائيل علاقات دبلوماسية مع خمس وعشرين دولة إفريقية. بيد أنه في بدابة العام 1974 تقلص هذا العدد ليصل إلى خمس دول فقط هي: جنوب إفريقيا، وليسوتو، ومالاوي، وسوازيلاند، وموريشيوس.
وقد أقدمت الدول الإفريقية التي قامت بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل على هذه الخطوة بظني تأييداً للموقف المصري باعتبار مصر دولة إفريقية تسعى إلى استعادة أراضيها من الاحتلال الإسرائيلي، لكن لايخفى أن هناك أسباب أخرى في مقدمتها مساعي الدول الافريقية في الحصول على المساعدات العربية ولا سيما من الدول النفطية .
الصفعة الأولى لإسرائيل جاءت من غينيا التي قطعت علاقاتها مع إسرائيل في أول أيام العدوان عام 1967 مما شجع العديد من البلدان الإفريقية الأخرى على حسم أمرها ، إذ أقدمت كل من اوغندا وتشاد والكونغو بقطع العلاقات عام 1972 . وفي العام 1973 قبل الحرب قامت النيجر ومالي وبوروندي وتوجو وزائير بنفس الخطوة ، وبعد حرب تشرين من نفس العام قامت بقية الدول الإفريقية بقطع علاقاتها مع إسرائيل وهي داهمي ، رواندا ، فولتا العليا ، الكاميرون ، تنزانيا ،مدغشقر ، افريقيا الوسطى ، اثيوبيا ، نيجيريا ، جامبيا ، زامبيا ، غانا ، السنغال ،سيراليون ، ليبيريا ، ساحل العاج ، بتسوانا .
والدول التي لم تقطع علاقاتها مع إسرائيل هي جنوب إفريقيا والدول القريبة منها وهي ملاوي ، موريشسيوس ، ليسوتو ، سوازيلاند ، وهي دول غير متفاعلة مع النظام الإقليمي العربي .
ولكن هل سلمت الدوائر الإسرائيلية بهزيمتها وارتضت بإيصاد الأبواب في وجهها ؟ الجواب قطعا لا ، لذلك عكفت مختلف الدوائر السياسية والاقتصادية والعسكرية الإسرائيلية على إعداد الدراسات التي اكدت وجوب العودة الى القارة السوداء من خلال قنوات عديدة .
إن الموقف الإفريقي وإن كانت له دلالات سياسية ودبلوماسية واضحة من زاوية الصراع العربي الإسرائيلي إلا أن إسرائيل ظلت على علاقة وثيقة – ولو بشكل غير رسمي- مع معظم الدول الإفريقية التي قامت بقطع العلاقات معها. وليس أدل على ذلك من أن التجارة الإسرائيلية مع أفريقيا خلال الفترة من عام 1973 وحتى عام 1978 قد تضاعفت من 54.8 مليون دولار إلى 104.3 مليون دولار. وتركزت هذه التجارة بالأساس في الزراعة والتكنولوجيا.
وحتى العام 1975 لم يحقق التحرك الاسرائيلي نتائج كبيرة خاصة على صعيد العلاقات الديبلوماسية ولعل السبب في ذلك يعود أساسا إلى موقف الكثير من الدول الإفريقية لم تكن راغبة في إحداث أزمة في العلاقات العربية-الإفريقية خوفا من إن تحجب عنها المساعدات المالية العربية التي بلغ مجموعها في الفترة ما بين(1973-1982) ما مجموعه 7,5 مليار دولار ، لكن الصحيح أيضا إن تلك المواقف لم تكن مبدئية وثابتة بدليل أن عددا من الدول الإفريقية أبقت على النشاط الاقتصادي الاسرائيلي فيها ولم تمسه .
بعد تولي حزب الليكود مقاليد السلطة في إسرائيل عام 1977 رفعت الحكومة شعار ” عائدون إليك يا إفريقيا ” فقد عهد إلى دايفد كمحي الذي يحمل شهادة دكتوراه عن حركات التحرر في آسيا وإفريقيا والذي يرتبط بالكثير من الزعماء الأفارقة بصلة وثيقة ومباشرة ، عهد إليه مهمة إجراء اتصالات مع الدول الإفريقية بهدف إفساح الفرصة أمام استئناف العلاقات لإعادة إسرائيل إلى القارة السوداء من الأبواب الرئيسية وليس من الأبواب الخلفية ، وتصاعدت وتيرة الجهود الإسرائيلية وبلغت ذروتها خلال عام 1985-1986 بعد زيارة شمعون بيريز إلى بعض الدول الإفريقية لتبدأ مسيرة الخطوات العكسية في إعادة العلاقات بين إسرائيل ودول القارة .
الثغرة الأولى في جدار المقاطعة كانت زائير التي أعادت علاقاتها مع إسرائيل في أيار 1982 ونجحت إسرائيل فضلا عن ذلك في ربط زائير بمعاهدة عسكرية تنص على قيام إسرائيل بإعادة بناء الجيش الزائيري وايفاد مستشارين عسكريين الى زائير لتدريب سلاح البحرية . الثغرة الثانية في ليبيريا عام 1983 عندما أعلنت عن إعادة علاقاتها مع إسرائيل وبرر وزير خارجيتها هذه الخطوة بان ليبيريا مقتنعة أن استمرار عزل إسرائيل يشكل عقبة أمام السلام في الشرق الاوسط ، وأن أسباب قطع هذه العلاقات خلال حرب 1973 لم تعد قائمة ، لحقت بهما ساحل العاج والكاميرون وتغو ثم كينيا بنهاية عام 1988 بعد اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بالقرارين 242- 338 , لينفرط عقد السبحة وتثبت إسرائيل أقدامها في القارة خاصة بعد التطورات السياسية التي عصفت بالمنطقة والعالم فيما بعد أهمها حرب الخليج ومؤتمر مدريد واتفاقيات السلام الإسرائيلية العربية ، إضافة إلى تدهور وانهيار المعسكر الاشتراكي سابقا .
وقد تسارعت عودة العلاقات الإسرائيلية الإفريقية؛ حتى إنه في عام 1992م وحده قامت ثماني دول إفريقية بإعادة تطبيع علاقاتها مع إسرائيل. وسعت إسرائيل إلى تعزيز سياساتها الإفريقية بدرجة تفوق طموحاتها خلال عقد الستينيات وأوائل السبعينيات. وطبقاً للبيانات الإسرائيلية فإن عدد الدول الإفريقية التي أعادت علاقاتها الدبلوماسية أو أسستها مع إسرائيل بعد مؤتمر مدريد للسلام في أكتوبر 1991 قد بلغ ثلاثين دولة. وفي عام 1997 بلغ عدد الدول الإفريقية التي تحتفظ بعلاقات دبلوماسية مع إسرائيل 48 دولة. وحاولت إسرائيل جاهدة الاستفادة من دروس الماضي بما يرسخ أقدامها في القارة الإفريقية؛ وذلك من خلال أشكال وطرق متعددة أهمها
أولاً: المساعـدات الاستخبارية والتدريبات العسكرية فقد ركزت إسرائيل في تفاعلاتها الإفريقية منذ البداية، وحتى في ظل سنوات القطيعة الدبلوماسية بينها وبين إفريقيا، خلال الفترة من 1973 ـ 1983، على المساعدات العسكرية في مجال تدريب قوات الشرطة وقوات الحرس الرئاسي لعدد من الدول الإفريقية مثل زائير (جمهورية الكونغو الديمقراطية حالياً) والكاميرون.
وبدهي أن الدول الإفريقية التي تعاني من الصراعات والانقسامات الاجتماعية والانشقاقات داخل صفوف النخب السياسية الحاكمة تهتم اهتماماً بالغاً بقضايا المساعدات الأمنية والاستخبارية، وهو ما دأبت السياسة الإسرائيلية في إفريقيا على التركيز عليه في جميع مراحل علاقاتها الإفريقية منذ أعوام الستينيات.
ومع دخول القرن الإفريقي أتون الصراعات الإثنية والسياسية أصبح المجال مفتوحاً أمام التركيز مرة أخرى على أداة المساعدة العسكرية والاستخبارية التي تمارسها إسرائيل في هذه المنطقة المهمة لها استراتيجياً بسبب ارتباطها بأمن البحر الأحمر، وكذلك ارتباطها بأمن بعض الدول العربية المؤثرة مثل السودان ومصر.
ثانياً : المساعدات الفنية التي اشتملت منذ البداية على ثلاث مجالات أساسية وهي: نقل المهارات التقنية وغيرها من خلال برامج تدريبية معينة، وتزويد الدول الإفريقية بخبراء إسرائيليين وإنشاء شركات مشتركة أو على الأقل نقل الخبرات والمهارات الإدارية للشركات الإفريقية. وتشير الإحصاءات التي نشرها مركز التعاون الدولي التابع لوزارة الخارجية الإسرائيلية أن عدد الأفارقة الذين تلقوا تدريبهم في إسرائيل عام 1997 وصل إلى نحو 7420 متدرباً إضافة إلى نحو 42636 إفريقياً تلقوا تدريبهم من قبل في مراكز التدريب الإسرائيلية خلال عقدين من الزمن .
ثالثاً : من خلال تجارة السلاح والألماس ، فمن المعلوم أن إسرائيل توفر السلاح للدول الإفريقية بالإضافة إلى التدريب العسكري، وتفيد الخبرة التاريخية أن إسرائيل تتعامل مع الأشخاص الأفارقة وذوي النفوذ أو الذين لهم مستقبل سياسي فاعل في بلدانهم. وطبقاً لتقارير الأمم المتحدة وبعض التقارير الأخرى فإن هناك تورطاً لشركات إسرائيلية ولتجار إسرائيليين في التجارة غير المشروعة للألماس. فمن المعروف أن مافيا هذا الحجر الثمين تقوم بتهريبه من دول مثل الكونغو وسيراليون وأنجولا عبر دول الجوار ليصل إلى هولندا، ثم بعد ذلك إلى مراكز تصنيع الألماس في عدد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة بالإضافة إلى إسرائيل والهند. على أن هذه التجارة غير المشروعة يوازيها تجارة أخرى غير مشروعة في السلاح؛ حيث يتم عقد صفقات لشراء الأسلحة وهو ما يسهم في استمرار واقع الصراعات والحروب الأهلية في الدول الإفريقية الغنية بالألماس
إن الجهود المتواصلة التي بذلتها الدوائر الاسرائيلية خلال ربع قرن لابد ان تثير تساؤلات حول النتائج التي احرزها التحرك الاسرائيلي على كافة الاصعدة ، والرد عليها يقتضي الاقرار بان هذا التحرك تم في ظروف دولية ومناخ اقليمي مناسبين وعوامل مساعدة اهمها :
أولا- لم تبدأ التحركات الإسرائيلية نحو القارة الإفريقية من العدم وإنما استثمرت ركائزها في القارة سواء كانت على شكل نشاط اقتصادي في بعض الأقطار أو الاستعانة بالدول الحليفة كالولايات المتحدة أو ببعض الحكام الأفارقة الذين لم يقطعوا الاتصال نهائيا مع الكيان الصهيوني ، ولعل في مقدمة هذه الركائز وجود شبكة متشعبة من الأنصار نجحت الدوائر الإسرائيلية في ربطهم معها ، إذ جاء على لسان الدكتور –يهودا باز- مدير المعهد الآسيوي الإفريقي التابع للهستدروت أن هناك 3 رؤساء حكومة و 40 وزيرا و150 من أعضاء البرلمانات و100 محاضر في الجامعات و400 من مد راء التعاونيات و350 من رؤساء النقابات العمالية و37 من أمناء الاتحادات النقابية في القارة السوداء ممن درسوا في إسرائيل واصبحوا من اكثر المؤيدين لها .
ثانيا- نجاح إسرائيل في اختراق القارة السوداء اقترن بتوقف التحرك والنشاط العربي فيها والذي بدا عام 1973 اثر قمة الجزائر التي أقرت برنامج عمل للتعاون العربي –الإفريقي وقيام الدول العربية البترولية بدعم اقتصاديات الدول الافريقية التي تاثرت بارتفاع اسعار النفط ، اضافة الى إنشاء صناديق ومصارف اقتصادية وفنية لدعم التعاون بين الجانبين و لكن الخلافات ظهرت بين الطرفين حول رؤية كل منهما لأبعاد هذا التعاون أدت إلى توقف هذا الحوار عام 1977 منذ أن شعر العرب بأن بعض الدول الإفريقية تنظر إلى الحوار كوسيلة للحصول على مقابل مالي للدعم الذي تقدمه للعرب في صراعهم مع إسرائيل التي سارعت لاستغلال هذه التطورات لمصلحتها معتمدة على وسائلها التقليدية للتغلغل في إفريقيا أهمها التلويح بالمساعدات الفنية والعسكرية .
ثالثاً- المتغيرات الهيكلية التي شهدها النظام الدولي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وبروز عصر العولمة الأمريكية وما صاحب ذلك من تغيرات في النظم الإقليمية ومن بينها منطقة الشرق الأوسط قد جاء بتأثيرات ملموسة على تطور العلاقات الإسرائيلية الإفريقية. فدخول أطراف الصراع العربي الإسرائيلي مسار العملية التفاوضية قد أدى إلى إضفاء المشروعية المطلوبة على الكيان الصهيوني وتأمين وجوده العضوي، وأثرت بشكل مباشر وقوي على مواقف الدول الإفريقية من إسرائيل بحيث سقطت آخر مبررات المقاطعة ، ومن ثم فإن اسرائيل سعت في مرحلة ما بعد الحرب الباردة إلى تحقيق أهدافها التوسعية باعتبارها قوة إقليمية وذلك على حساب النظام الإقليمي العربي.
رابعا- الدور الأمريكي الداعم للجهود الإسرائيلية بلا حدود واتخذ هذا الدعم عدة أشكال بدءا من تغطية تكاليف التحرك الاسرائيلي من الخزينة الامريكية ذاتها وصولا الى ممارسة كافة انواع الضغوط على الدول الافريقية لاستئناف علاقاتها مع اسرائيل، وربط تقديم المساعدات الاقتصادية بشرط الانفتاح والتجاوب مع المبادرات الإسرائيلية، فضلا عن الاستخدام الذكي من قبل إسرائيل لنغمة حقوق الإنسان التي أطلقتها الولايات المتحدة ، فالأنظمة الديكتاتورية في إفريقيا والتي لم يكن في وسع الأمريكيين دعمها لأسباب يصفونها بأنها – أخلاقية – كانت تتولى إسرائيل دعمها بالوكالة وشكل هذا بالنسبة لها فرصة ترسيخ مخالبها في إفريقيا .
حصدت إسرائيل اثر ذلك ثمار نشاطها فعلى الصعيد الاقتصادي تضاعف حجم التبادل التجاري مع الدول الافريقية عدة مرات ، فطبقا لتقارير وزارة التجارة والصناعة الاسرائيلية وصل حجم الصادرات الاسرائيلية الى بعض الدول الافريقية3,5 مليار دولار في العام 2002 مقابل فقط 59,3 مليون دولار في العام 1983 ,وهذه الصادرات لا تشمل كل القارة بل تقتصر على بعض الدول منها نيجيريا وكينيا وساحل العاج وإفريقيا الوسطى ، أما بالنسبة إلى الواردات الاسرائيلي من بعض الدول الإفريقية فقد بلغت نحو 500 مليون دولار من نفس العام، أما المعطيات الخاصة بالصادرات إلى الدول الأخرى وخاصة زائير وجنوب إفريقيا وتوجو وكذلك حجم الصفقات العسكرية فإنها لا تظهر في التقارير الاسرائيلي وخاصة الصحفية .
واستحوذت الشركات الإسرائيلية على تعاقدات قيمتها اكثر من 4 مليار دولار لإقامة المباني الحكومية ومد شبكات الطرق والجسر وحفر الأنفاق وإنشاء الموانئ وتوافد في اطار هذا النشاط آلاف الخبراء والمستشارين الصهاينة على الدول الافريقية ، وكان نصيب افريقيا من صادرات الاسلحة الاسرائيلية كبير حيث جاءت في المرتبة الثانية بعد أمريكا اللاتينية . وتصدر إسرائيل إلى القارة السوداء طائرات النقل والتدريب والطائرات المقاتلة وكذلك الدبابات وأجهزة الاتصال والصواريخ .
وتعد جنوب إفريقيا وزائير وليبيريا ونيجيريا وكينيا من أهم زبائن الكيان الصهيوني في القارة الإفريقية .وقدمت إسرائيل المستشارين العسكريين لمساعدة الجيوش الإفريقية على استخدام تلك الأسلحة وتقديم المشورة في مجال التدريب والتنظيم وتمكنت اسرائيل عبر هذه القنوات من التغلغل في جيوش بعض الدول الافريقية وأجهزة الأمن فيها .
اليوم وبعد أكثر من عشرة سنين على إقناع رئيس جنوب إفريقيا الراحل نلسون مانديلا العالم الغني بإعفاء إفريقيا من ديونها الهائلة، عاودت الديون ارتفاعها في كثير من الدول، ما قد يهدد النمو الاقتصادي من جديد.فقد حذر الاقتصاديون من خطورة الإقدام المتزايد من قبل دول أفريقية للانضمام إلى قائمة الدول المصدرة للسندات الدولارية التي تشوه الاقتصاد. وقد ذكرأحد المحللين أن«السندات أصبحت مثل بورصات الأسهم والطائرات الخاصة والقصور الرئاسية، كل زعيم أفريقي يريد أن يملك واحدة».
إن القارة الافريقية لم تتخلث بعد من أسوا مراحل تاريخها المعاصر عبر ما شهدته من صراعات داخلية وانقسامات سياسية ، وحروب أهلية، ومشاكل حدودية وأنظمة حكم فاسدة ، فمن أصل 40 دولة الأكثر فقراً في العالم هناك 32 دولة في إفريقيا . ويعتبر اقتصاد إفريقيا من أسوا اقتصاديات العالم، فهي تساهم في إنتاج 3,9 في المائة من دورة الإنتاج العالمي ، ومازالت القارة تنحمل على كاهلها ديونا تصل إلى مئات المليارات من الدولارات تستنزف مقدراتها، وحجم هذه الديون مازال مرتفعاً قياساً بالقيمة الإجمالية للناتج المحلي الوطني .
أن مشكلة الديون الخارجية كانت وستظل أخطر معوقات التنمية والتقدم في إفريقيا ، وفي الحقيقة فان القارة السوداءمازالت مرهونة تماما لرأس المال العالمي وللبنوك الكبرى وللشركات عابرة القارات ،وشهر العسل بين افريقيا والصين ليس هناك مايشير إلى تواصله، وتجربة اللجوء الى صندوق النقد الدولي لم ينتج عنها سوى المزيد من الخراب والتدهور الاقنصادي وتراكم الديون والانسحاق تحت مقصلة التضخم المالي الذي يقفز قفزا متصلا بلا توقف .
هذا الوضع الذي تعيشه القارة الإفريقية استثمرته إسرائيل إلى أقصى درجة ممكنة في عودتها الى القارة باوجه متعددة , وستظل اسرائيل تعمل بلاشك على انشاء مرتكزات يصعب استئصالها بقرار سياسي أو موقف آني وستحاول اسرائيل تطوير شبكة علاقاتها الى مستوى التحالف الاسترتيجي مع بعض الدول الإفريقية.
بعد مرور أكثر من سبع وستون عاماً على قيام دولة الكيان الصهيوني فإن نجمة داود ترفع في العواصم الأفريقية، هذه القارة التي كانت تعتبر إلى وقت قريب منطقة نفوذ عربية بامتياز ، تنازلت الأنظمة العربية عن دورها التاريخي فيها فاسحة المجال إلى إسرائيل لتسرح وتمرح كيفما أرادت مقدمة خبراتها العسكرية والأمنية وغيرها ، وقد تكون قد بنت في بعض دولها مثل إثيوبيا واريتريا قواعد عسكرية سرية ، على غرار قواعدها في جمهورية جورجيا في القوقاز ، كي تستخدمها إسرائيل متى شاءت وكيفما أرادت كرأس حربة مسمومة تغرسها في خاصرة الدول العربية وخاصة مصر والسودان.
بالتأكيد أن مثل هذه التطورات ليست في مصلحة الدول العربية ، بل أنها تنطوي على تهديد للأمن القومي خاصة بعد نجاح إسرائيل في احتواء إريتريا حيث بات لها موطئ قدم على البحر الأحمر , وهذا يفرض على الأمة العربية ضرورة التحرك لمواجهة الغزو الإسرائيلي للقارة الإفريقية بشتى الوسائل ، فالدول العربية بحاجة إلى مراجعة واعية وأمينة بكل علاقاتها بالقارة ، والواقع أن مواجهة إسرائيل في إفريقيا لا يتطلب استنفارا في الإمكانيات فحسب وإنما في العقل العربي أيضا الذي غاب عنه وضع تصور استراتيجي لبناء علاقة مميزو مع إفريقيا بالمعنى الشامل ، فالدعم العربي لم يرتبط بمشروعات وبرامج محددة وإنما اخذ شكل إعانات للخزينة ، دون أن يترك أثرا اقتصاديا أو سياسيا ثابتا.
إن أمام العرب فرصة تاريخية لتدارك التغلغل الإسرائيلي في أفريقيا وتحجيمه وذلك
من خلال تحرك سياسي ودعم اقتصادي … التحرك السياسي ينطوي على تفعيل دور البعثات الدبلوماسية العربية في الدول الإفريقية فلم يعد كافياً أن يظل السفراء وأعضاء البعثات داخل القصور والمنتجعات دون أن يشاركوا في الحياة العامة من خلال التعاطي مع منظمات المجتمع المدني وتوسيع دوائر الحوار معها ومن خلال المنتدبات والمناسبات القومية بمعنى أن يتحرك العرب إيجابياً لكسب ثقة الأفارقة وأن يكون للعرب دور في حل النزاعات العرقية والطائفية من خلال وساطات بين القوى المتنازعة وهذا لن يكون بدون الشق الآخر وهو الدعم والمساندة الاقتصادية أخذا في الاعتبار المصالح المشتركة بين العرب الأفارقة والتي تتغذى في جانب كبير منها على وحدة العقيدة خاصة في البلدان التي يمثل المسلمون فيها غالبية السكان .
وكذلك زيادة حجم المعونات والهبات والمنح إلى الدول الإفريقية كمساهمة عربية في إقامة البنية التحتية في هذه الدول ، فضلاً عن المساهمة في مكافحة الأمراض المتوطنة وإنشاء المستشفيات والمدارس .
تخصيص مبالغ لأقراض هذه الدول بسعر فائدة مميز ضئيل ويسدد على آجال طويلة . والعمل على إقامة استثمارات مشتركة في مجالات الزراعة والتصنيع وهذا يعمل على تحقيق فائدة للجانبين .
فتح أبواب الجامعات والمعاهد أمام الأفارقة وهذا التوجه بالذات يخلق ترابطاً عضوياً وثقافياً بين الخريجين والدول الذين درسوا وعاشوا فيها .
زيادة حجم التبادل التجاري بين الدول العربية والإفريقية وتعظيم التواجد العربي فيها من خلال إقامة المعارض الدولية والبعثات الترويجية .
لقد قامت إسرائيل بإنشاء “المؤسسة الدولية للتعاون” منذ عدة سنوات وتتبع مباشرة لوزارة الخارجية الإسرائيلية، وأوكل إليها مهمة الربط بين مؤسسات الدولة وشركات القطاع الخاص الإسرائيلية بهدف إحداث وتعميق اختراقات محكمة للقارة الافريقية، وعلينا أن نعلم أن الوجود الإسرائيلي في أفريقيا ليس هدفاً إسرائيليا فقط ، بل هو تعبير عن مصالح أميركية وغربية وإسرائيلية متشابكة تشابكا عضويا ، واسرائل تعمل على رسم وتنفيذ هذه المصالح عبر استرتيجية تعتمد بشكل رئيسي على تقديم المساعدات العسكرية لتثبيت أركان حكم معظم القادة الأفارقة لعلمها الحاجة الملحة لهذا النوع من الخدمات من قبل هؤلاء القادة ، خاصة خلال السنوات القليلة المنصرمة ، والتي شهدت تحولات كبيرة وعميقة في العالم العربي، وانتشار الأفكار المتشددة لدى قطاعات غير قليلة من الشباب العربي الذي يعتقد بمشروعية ممارسة العنف لتحقيق أهداف عحزت الأجيال السابقة عن تحقيق ولو جزء منها لأسباب متعلقة بالظلم والتعسف الذي تمارسة معظم الأنظمة العربية بحق مواطنيها، هذا الخطر بدأت القارة السمراء تتلمس سهولة انتقاله إلى دولها مما يشكل خطراً مصيرياً يتربص بها ، وهنا يظهر دور اسرائيل باعتبارها الظرف الذي يقدم الخدمات المهمة للقضاء على هذا التهديد .
على العالم العربي تقع مسؤولية مراجعة شاملة ودقيقة لعلاقتها مع دول القارة السمراء بما يحقق المصالح الاستراتيجية المشتركة، ويضمن عدم تحول افريقيا إلى مستوطنة إسرائيلية .
المراجع :
1-فلادمير جابوتنسكى وقارى بلايك، زعماء صهيون
2-تقارير معهد القدس للدراسات الاسرائيلية
3-تقارير البنك الدولي
4- تقاريرمركز دراسات الجزيرة