د.هاشم عبود الموسوي
يؤكد “ارثر شوبنهاور” على أن علم الجمال و تأمل الجمال هو اكثر أشكال وأنواع الفكر النقي تحررا من إملاءات الارادة ، حيث يتم هنا التأمل للكمال من حيث الشكل من دون اي نوع من أنواع الأجندة ، و أن أي تدخل للمنفعة او لأهداف سياسية سيفسد الهدف والمعنى الحقيقي من الجمال. وهو بالتالي وسيلة من الوسائل التي يدعو لها شوبنهاور لمحاربة ومقاومة المعاناة لدى الأنسان .
وعندما نجزم بأن علم الجمال ، هو أحد الفروع المتعددة للفلسفة ، والذي يتركز مجاله في فلسفة التعامل وجماليات الأخلاق ، فإننا نشير الى الفكرة القائلة بأن سلوك الأنسان وتصرفاته ، يجب أن تكون محكومة مابين ما هو جميل وجذاب . وإن وحدة الجمال و الأخلاق ، هي في الواقع تنعكس على فهمنا للتصرفات والسلوك في كونها يجب أن تكون”نزيهة” ,
وقد أكد بهذا الصدد “جيمس بيج” ، إن جمالية الأخلاق ممكن أن تكون الأساس الفلسفي المنطقي لتربية السلام . والتي كما خَبِرنا من الأحداث التي مرت على وطننا عبرأربعة عقود ، لم تعترف بها عقائديات حزب البعث يوما ما .
أذكر أنه في عام 1963 ، أصدرت لجنة الدفاع عن الشعب العراقي ، التي كان يرأسها شاعر العرب الكبير “محمد مهدي الجواهري” مجلة ثقافية سياسية ، في براغ بعنوان “الغد” ، وقد ساهم في تحريرها نخبة من المفكرين والمبدعين الكبار، وقد نشر فيها الفنان والمفكر العراقي المرحوم” محمود صبري ” ، دراسة غاية في الأهمية حصلت منها على أربع حلقات وكان عنوانها ” الهتلرية و العفلقية ” ، فضح فيها بالدلائل والقرائن تأئر مؤسسي حزب البعث بالعقلية والأيديولوجية الفاشية الألمانية و الأيطالية ، وربما كانت أيديولوجيته مستنسخة بالكامل عنها.
وأذكر أني إلتقيت بأحد أقطاب حزب البعث السوري في حكومة الرئيس الأسبق صلاح جديد ، ومن أنصار المرحوم يوسف زعين ، وقد قدم الى ألمانيا لتقديم أطروحة دكتوراه عن “حزب البعث ، نشأته وتأريخه وآيديولوجيته” ، كم كان مسرورا لأطلاعي إياه ،على هذه الدراسة الرصينة ، ذاكرا لي بأنه لم يسبق له أن إطلع على مثل هذه المقارنة و الأرشفة الدقيقة . كنت آنذاك مستعدا للسفر مغادرا ألمانيا ، مما حال دون متابعتي ، لما حصل لهذا الباحث مع رسالته البحثية.
وإذا عدنا الى الثقافة نرى بأنها تعني الحكمة ذاتها ، بالمعنى الحديث، وهي تجذب الأنسان وتصقله وتبنيه وتسمو به ، من أجل خلق حياة نموذجية له وللمجتمع .ولكن التوجهات و الممارسات التي إعتمدتها أيديولوجية هذا الحزب ، رغم هشاشتها على الصعيدين الجمالي و الموضوعي ، وفي كل المجالات السياسية والأقتصادية والأجتماعية ، لم تكن دون نتائج مؤثرة بشكل واسع وفق ما إستهدفه منها و خطط لها منظروها .
ومن النتائج المؤثرة سلبيا لتلك العقيدة ، (من خلال تلك العقود المريرة وما تركته من تفشي وأستحكام لآيديولوجيتها ) هو ما إنطبعت به توجهات حالّيّة لبعض المثقفين و الأدباء والكتاب في فترة ما بعد التغيير . لا ينكر أنه كان عهدا مؤدلجاً ترك إرثا ثقيلا وصيغا من الممارسات ، في تفكير و توجهات بعض مثقفينا ، ويظهر ذلك أحيانا بشكل غير واعي لدى بعضهم في إستعمال المفردات اللغوية كخلفية و إنعكاس مباشر لتلك الأيديولوجية ودورها الخطير في تخدير الجماهير وتسييرها نحو أهدافها المدمرة ،
إن إجبار الأفراد في تلك الفترة المظلمة ،على الأنتماء الحزبي بشكل قسري، حتى ولو بشكله المزيف، والقبول بالترديد الببغاوي للشعارات و العبارات الفارغة ، أدى بشكل أو بآخر لدى كثير من المواطنين الى فقدانهم للقدرة على التحرر من الصيغ الجاهزة في لغتهم اليومية ، وحتى في الممارسات الأبداعية في الفن والأدب لبعض المحسوبين على النتاج الأبداعي، وهذا ما أجهض محاولة التفكير الجدي في بناء الذات والمجتمع ومن ثم الدولة . وبذلك عمت حالة من الرتابة والجمود والكسل الأبداعي ..وقد تركت هذه التوجهات المبدعين الحقيقين(بشكل خاص) مثقلين بالهموم ومتهدمين تاريخيا و إجتماعيا . في حين حول بعض الساقطين والدجالين الحرب كخلفية شاسعة لمشهد صغير وإطار تتراكم الصور فيه بلا زمن محدد ، وقد أصبحت مفردات الحرب مكونات لصور وتشبيهات بمعدات عسكرية ، وحتى عند تشكيل صور المخيال السلمي . وأُجبِرَحتى الأطفال البريئين بالمدارس ،على رسم الدبابات والطائرات وصور القتلى والمعارك في مادة الرسم ، وعلى إطلاق العيارات النارية للكلاشينكوفات في الهواء في الأصطفاف الصباحي في كل خميس من الأسبوع . وإذا صح القول فإن هذه التوجهات في الثقافة الجماهيرية كانت لا تأتي الا مصحوبة برائحة الدم أو محاولة توريط الجمال ذاته في ذلك المخاض ، من خلال تشفير جمل وترميزها بعماء دموي سافر. وعندما إستمعل بعض المبدعين ( غافلين أو مجبرين) إبداعهم للتبجيل والتثبيج للقيادة ، فلم يكن ذلك إطلاقا تبجيلا لقابلياتهم الأبداعية .
إن ما كان يتبناه ذاك الحزب ، هو أنه لا علاقة له بالمعايير الجمالية أو الأخلاقية مطلقا ، وكل ما كان يتوخاه هو إمكانية إضفاء الجمالية حتى على الحرب، وتأليه الصنم و جعله هوالسيد المؤله الوحيد .
فقد تطرق ممثلوا تلك الثقافة ، وكانوا يعنون بالعوامل والوقائع الفنية ، بأنها نتاج للعبقرية الفردية التي كانت يتمتع بها ” القائد الفذ” أو “القائد الضرورة”, وأما الفن فقد سُخر بشكل كامل ، كقيم وظيفية وكعلم جمال مؤدلج ، وضع صيغا من الكلام المخدر، نجدها تدور وترددها الألسن بشكل أجوف ، ، حتى دون أن تكون لها معاني ، وأنها كانت تستخدم في غير موقعها ، وبصورة مظللة في أكثر الأحيان،
وبهذا نستطيع أن نلمس وظيفتين أساسيتين لأيديولوجية حزب البعث في النظرية الجمالية :
أولهما ضرورة توافق الأبداع الفني والأدبي مع الأهداف العرقية الشوفينية لهذه الأيديولوجية، ووضعها تحت وصايتها الذاتية ,
وثانيهما الهيمنةعلى الوحدة الطبيعة بين الحياة والأبداع الفني والأدبي لتتويج (التعاليم البطولية) ، ولتكسب العقيدة أخيرا كل أبعاد علم الجمال التقليدية ، وتضفي أهمية على مدلولاتها ، لترقى بها نحو المثالية المطلقة.. والعنصرية .. ولتغدو من المسلمات (كتعاليم بطولية ) .
وقد أثار ذلك إشمئزاز ونفور عدد غير قليل من المثقفين و الأدباء و الفنانين من العراقيين ، وجعلهم أما صامتين أو معارضين، وعدد لا بأس به منهم من قضى نحبه ، تحت ضغط الأهمال والتهميش ، وآخرين كانوا من أدباء وفناني نفس الحزب ممن لم يعودوا مقتنعين بالمفاهيم الثقافية و الجمالية التي صار يطرحها حزبهم ، فقد تم إهمالهم وتهميشهم ، والتخلص منهم أحيانا .
في حين تجمع بعض دُعاة الجمال في الأبداع الفكري والثقافي ، ممن أتيحت لهم الفرصة وحالفهم الحظ بالأفلات من قبضة السلطة الحاكمة ، وغادروا الوطن سالمين ، ليكونوا التقاء لتصورات مشتركة ، إتصفت بالمناهضة الفكرية ، لما كان يجري في داخل البلد، من تعسف وعصف وتدمير لكل القيم ،وبما فيها “القيم الجمالية” . وأطرت نفسها في حس جمعي ، إشترط الممارسة الثقافية الأبداعية ، وبذلك حصنت نفسها من الأنخراط في التسييس المظلم لأجواق الأبواق الأعلامية للسلطة ، وبذلك أستطيع أن أجزم ، بأن هذه النخبة الناجية من التشوه ، هي التي حافظت بشكل كبير على تراثنا الأبداعي الأصيل ، وحملت بذوره النقية ، المُعَول عليها في زرع وتنمية ثقافة جمالية متقدمة في غدنا القادم .