د.هاشم عبود الموسوي
في بداية سبعينات القرن الماضي، كانت آخر فترة لنا أنا و زوجتي وإبني البكر نقيم فيها ببرلين قبل عودتنا الى العراق.. سكنا في حي هادئ ،بالطابق السادس عشرمن عمارة عالية ، تقع في شارع فولك راد.. وكلما أتذكر تلك السنوات الأخيرة التي ودعنا فيها ألمانيا، يقفز الى ذهني الطايق السادس عشر من تلك العمارة ، والذي كنت أشعر بأنه دون كل الطوابق الأخرى فيها ، كان مؤنسا ومؤلما بأمسياته ولياليه البهيجة والباعثة أحيانا على الشعور بالأغتراب ، إتسمت تلك الأعوام بحيوية ساكنيه وزائريه ،بكل فرحهم وآلامهم ونزاعاتهم ومزاحهم ومقالبهم وآمالهم وتمنياتهم .. هذا الطابق كانت جامعة هومبولد قد خصصته لطلبة الدراسات العليا سكن في هذا الطابق الخبير الأقتصادي د.عبد الباري الشيخ علي والمرحوم المسرحي د.عوني كرومي والمرحوم القصاص أنور الغساني.. وكانت شققنا أشبه بالمنتديات الثقافية والأبداعية و مقرات للنقاشات السياسية (الحادة أحيانا ،حد الشجار) بين شيوعيين وبعثيين ويساريين مستقلين ووطنيين بلا إنتماء، ولا زلت متألما حتى يومنا هذا لأني في إحدى الأماسي ضربت أحد الشعراء ، ضربا مبرحا ، عندما وصف الشاعر الكبير اللامع ” مظفر النواب “بأوصاف مشينة ، لا تنطبق على خلقية هذا الرمز الكبير .. كنا نتصور بأننا سنستطيع أن نبدل العالم بكامله ولا نرضى بتصورات غير تصوراتنا ، ولكن العقود التي مرت، وتمر علينا ، أثبتت لنا بشكل قاطع بأننا قد تغيرنا ولم نستطع أن نغير أي شئ .
كان يزونا بإستمرارالمثقفون الساكنون في برلين مثل د. ممتاز كريدي والمحلل السياسي الأستاذ طارق عيسى طه وغيرهم من المثقفين والسياسين و المبدعبن العرب .. حتى صرت أعتقد بأن لا أحد من المبدعين والمثقفين العرب كان يمر على برلين ، إلا ويزور هذا الطابق. فقد إستقبلنا المرحوم شمران الياسري (أبو كاطع) والمرحوم “مهدي هاشم” أقدم مذيع في خمسينيات القرن الماضي بإذاعة موسكو العربية ، والمرحوم الشاعر الكبير كاظم السماوي ، حيث كان يزور إبنه المرحوم نصير والذي كان يسكن معنا والشاعر المرحوم شريف الربيعي ، وفاضل العزاوي والشاعر فوزي كريم ، وسيتا هاكوبيان والمرحومة الكاتبة تحرير السماوي ,, وغيرهم ، وغيرهم .. يأتون من العراق ومن لندن وباريس ومن أقاصي الأرض .. وإذا نسيت أحدهم ، فأنني لا أستطيع أن أنسى تلك اللقطة الفريدة من نوعها .. والتي شاهدتها من على شرفتي العالية ، وأنا أنظر الى الحديقة الصغيرة الواقعة خلف المبنى ، والتي ظلت عالقة في ذاكرتي حتى يومنا هذا .. كان هنالك ثلاثة رجال ألمان ممن تعرفت عليهم عن طريق الصدفة ، تترواح أعمارهم بين الثلاثين والأربعين ، يجلسون على مصطية وسط حديقة الزهور ، التي تفتحت مع دفء شهر مايس .. أحدهم كان أعمى ، وهو الذي أسديت إليه مساعدة بسيطة في يوم من الأيام ، حين مسكت بيده ، وعبرت به الى الجهة الأخرى من الطريق ، وقد حفظ نبرات صوتي ، وكلما كنت ألتقيه عل الرصيف و أحييه ،كان يجيبني “أهلا بالعراقي” .. وثانيهما كان أخرس وثالثهم أطرش.. والأثنين كنت ألتقيهما في السوبر ماركيت الصغير القريب من عمارتنا ، ونتبادل التحايا بالأشارات وتحريك الشفاه . سألت نفسي ما هذه الصدفة الغريبة؟ ، مَن جمع هؤلاء الثلاثة على مصطبة واحدة ؟ وكيف أراهم يضحكون ؟ وكيف يتم التفاهم بينهم ، بالتأكيد كانت أمزجتهم منسجمة وهم يستنشقون الروائح الزكية للزهور التي تحيط بهم .. ،لِمَ لا يمكن لنا أن نتكامل نحن الأصحاء بهذا الشكل الجميل ، مثل هؤلاء الثلاثة المعوقيين لنرى الحياة بشكل أجمل .. لماذا في لقاءتنا ، كل واحد منا كان يقول : أنا من أشاء ولا أشاء ، وكأننا قد إستهلمنا كل أبجديات التهجي وإستعارات الخطى الآتية ، ولم نأبه لرأي الآخرين في إنبلاج زماننا ، وكأننا نرصد الأحلام في لغة تقول ولا تقول .. ليتنا كنا نوجه أبصارنا في كل يوم الى الأرض