د. حسين سرمك حسن
بغداد المحروسة – 2014
ولو عدنا نتأمل سلوك نشوى وتداعياتها التي ستأتينا بعد لحظات عن العلاقة بيوسف ، وربطناها بسلسلة مواقف الشخصيات الأنثوية السابقة في الرواية لوجدنا أن التأسيس للعلاقات يأتي من “منظور” الشخصيات الأنثوية في الرواية حسب ، ولا علاقة للجانب الذكوري في أي بناء مكمّل . الأساس هو وجهة نظر الأنثى .. و”الفصال” المسبق للشخصية الذكورية التي تريد وضع الرجل فيه . يذكّرك هذا الحال بسلوك قاطع الطريق الأغريقي “بروكوست” صاحب السرير الشهير . والملمح البارز الآخر في بناء هذه العلاقات هو وجود نوع من النقمة على الذات وكره الآخر . قد يبرز أحد القراء مبررا مفاده هو أن الأناث هنا كنّ ضحايا للطغيان الذكوري المقرف الذي خرّب حياتهن ، لكن الإنجراف مع موجات النقمة العارمة قد تحيل الضحية إلى جلّاد جديد قد لا يتورّع – وهذا أسوأ النتائج – عن جلد نفسه بسياط جلّاده السابق . دعونا نستمع لنشوى والكاتبة تكشف – بصوت ضمير الغائب العليم – عن مشاعرها الحقيقية المتناقضة تجاه يوسف :
(في هذه [= قول نشوى أن يوسف ليس حبيبا في المقبوس السابق] ، لم تكن نشوى صريحة مع نفسها . يوسف كان يقاوم شيئا واحدا ، هو أن يتزوجها . لأنه ، وهذا هو السبب الذي يقوله لها ، لأنه رجل متزوج . لكنه يريد أن يحب . إنه يشجع حبّه لها كما لو كان عملا يجتهد فيه ويطوّره ، ويدفع به (لا يندفع فيه) لا تدري إلى اين . هي تقاوم الرجل المتزوّج ، لكنها حين يكون عندها ، في سريرها ، تنسى أنّه متزوج وأنها تقاوم ) (ص 302) .
وفي العادة يسخّر اللاشعور برغباته الماكرة الوعي ليشتغل مثل كاسحة ألغام تنظّف العوائق الرادعة المختلفة التي تسدّ طريقه حتى لو كانت هذه العوائق موضوعية ، بل حتى لو كان الفرد نفسه يقرّ بهذه الموانع قبل لحظات . الشعور مطيّة اللاشعور المتنفّجة التي تزعم أنها تقوده وتسيطر عليه . هذا هو الفتح العظيم للتحليل النفسي الذي جرّح نرجسية الإنسان الذي كان ينتفخ ويعلن أن عقله الظاهر هو الذي يتحكم بكل شيء في سلوكه ، فظهر أن الأجزاء الصغيرة الغاطسة هي التي تتحكم بجلّ الوعي الظاهر . إنّها الضربة النرجسية الثالثة بعد ضربتي كوبرنيكوس ودارون . فقد كان الإنسان أولاً – يعتقد أن أرضه التي يمشي عليها هي مركز الكون الذي يدور حولها بأكمله ، فاثبت كوبرنيكوس العكس وأن الأرض ما هي إلا جرم صغير يدور حول الشمس . وكان الإعتقاد السائد – ثانياً – هو أن الإنسان هو نسيج وحده ، وهو الكائن الرفيع المقدّس ، فظهر أنه لا يزيد عن حلقة من سلسلة تطور حيواني مديد ، وأنه يشترك مع هذه الحيوانات في غرائزه وصراعاته من أجل البقاء . ثم جاءت الضربة الثالثة على يدي معلم فيينا . فقد كان الإنسان معتزاً – بل مغترّاً – بعقله “الرسمي” الظاهر ، فظهر أن ما يحكم من عقلنا ما هو إلى عشر جبل الثلج الطافي كما يرد في ادبيات التحليل النفسي عادة ، وأن عقلاً خفيّاً – اللاشعور – هو الذي يتحكم في أغلب افعالنا ، ويصوغ جواهر أفكارنا ، بل يتلاعب بنا ويوصلنا إلى المهالك . وليس سهلا على النفس البشرية – نفس المبدع والقارىء وحتى الناقد على حد سواء – تقبّل منهج يشعر أنه قد يفضح صراعاته الدفينة ، ويقوّض ركائز نرجسيته .
ونشوى – ومن ورائها الكاتبة – وباقي النماذج الأنثوية في الرواية التي تشن حربا شعواء على السلطة الذكورية وتستعرض الخطيئة الكبرى المتمثلة في تعدد الزوجات وفي سهولة خيانة الرجل لارتباطاته ، ها هي تقيم علاقة مع رجل متزوج وتستميت من خلال دوافعها اللاشعورية في الفصل بين العلاقة الجنسية الغريزية والموقف “العقلي” من كونه متزوّجاً . ولن يخفف هذا الموقف المتناقض إعلان نقمتها في النهاية بعد أن تشبع منه في الفراش :
(.. حين يكون عندها ، في سريرها ، تنسى أنها متزوج وأنها تقاوم .
فيما عدا ذلك هي يقظة … حتى لا تكترث لهواتف النساء التي تصله تباعا ، ولا تتدخل في شأنه ، لا تسأله مثلا إلى أين ؟ رجل مثله يخلص لزوجته ، لا يتزوج عليها أبدا . ما عدا ذلك نساؤه صديقات . ألا يشبه هكذا أباها ؟! اللعنة على المخلصين لزوجاتهم إلّا في الحب ) (ص 302 و303) .
إن من معضلات إنجاز مهمّة نضج شخصية المرأة العربية ، وهذه تسبق وترافق وتلحق انتزاعها لحرّيتها ، إنها اشبه بعمليّة تعلّم السباحة التي لا تتم إلا في النهر لكن يجب أن يسبقها أنموذج . والمرأة العربية لا توجد أنموذجا “عربيا” تتماهى به في سعيها المشروع للتحرّر والإحساس بكرامتها واستقلالية شخصيتها . تجد أمامها نماذج “خارجية” أكثرها جذبا وإغراءً هو النموذج الغربي . هذا االنموذج حين تحاول أن تتماهى به في ظل قوى اجتماعية قاهرة وعمياء تجرّ كل شيء إلى الخلف تصبح في وضع نفسي مأزقي يشبه وضع الغراب الذي نسي المشيتين ! وليس أدلّ على ذلك من حيرة بطلات الروائيات العربيات في أغلب الأعمال الروائية ومنها هذه الرواية .
الفقرة (3)
عودة إلى زيارة نشوى لسامية ومن تدعو من وتدفع الحساب .. وجلسات نشوى التي تغيرت وهل هي نشوة أو نشوى .. وزيارة حجرة الأب واستعادة الذكريات . ثم جلسة سامية مع شريط لنشوى عن ذكريات تتعلق بمصائر العائلة خصوصا أمين وانتمائه إلى الحركات الأصولية وأن ما حصل في بيتهم يقابل ما حصل في الشارع السياسي … إلخ (ص 303 إلى ص 308) .
الفقرة (4)
جلسة تجمع جمال ونشوى ورجاء وندى لأن الأخيرة عثروا عليها أخيرا وهي حامل في الشهر الرابع ويبحثون عن حل لحالها .. تهرب منهم . بعد مدة تعثر عليها نشوى وتهرب منها ايضا فتسقط نشوى في حمّى وهذيان (ص 308 إلى ص 312)
ويبدو أن العودة إلى عرض الكيفية التي تنقل بها أمين من شاب منفلت متفتح يعشق ترافولتا ونجلاء فتحي إلى ثائر متحمّس مريد لجيفارا ثم إلى ناقم ملتحٍ يحطم صوره ويتجه إلى الإسلام السياسي هو تمهيد لهذا المشهد الذي تجلس فيه نشوى أمام التلفزيون تشاهد تفجير البرجين في الولايات المتحدة ، فيجتاحها قلق مروع من أن يكون أخوها من المشاركين في هذا العمل التاريخي ، فتستعين بأخيها طارق للوصول إلى أمين . لكن طارق منشغل بنفسه وبالبحث عن زوجة جديدة .. ونصّاً (يريدها عزلاء وحافية ، مجردة من أية وسيلة تستقوي بها عليه) .
تقع الكاتبة في تناقض حين تقول إن ندى لم تكن تستعين بأخوتها يوما على طارق .. ثم تقول بعد سطور (طارق لم يطلق ندى خوف أن تلطخ اسمه ، بل خوف إخوتها ، كانوا سيقتلونه ، بسبب ما آلت إليه حال أختهم في بيته) .. (ص 312 إلى 315) .
الفقرة (5)
خلاف عابر بين رجاء وزينب .
ندى شاهدها جمال تحمل طفلا وهربت منه ايضا . هكذا قال لنشوى . نشوى زارت السجن تسأل عن عائشة وليلة والخالة سعدية ، فووجهت بالسخرية من النزيلات لكن رجاء جاءت لها بالمعلومات المطلوبة . أمين ليس في السجن . ليلى خرجت . سعدية ماتت . عائشة فيه .
نشوى تركت يوسف بلا رجعة حين خاطبها في اتصال هاتفي بصيغة المذكر . ترك الوظيفة . لا يريد عملا ليس الرجل الأول فيه (قبل صفحات لم يكن من الممكن أن يقوم المشروع من دونه ! )
سامية تتزوج من عادل وتحضر نشوى الزفاف .
جمال يأتي إلى مكتب نشوى ليسلمها ورقة فيها معلومات عن أخيها تثبت أيضا أنه في الأمن السياسي . رجاء تسخر منها لاتصالها به ثم تناقش نشوى عن سبب إلحاحها على الحصول على قصة عائشة التي كتبتها ليلى .. تختلفان على الدور الماوراء نصي لهذه الرواية (رواية سميحة) وتتفقان على زيارة باحثة اجتماعية اسمها سميحة ممكن أن تجدها زينب (من ص 315 إلى ص 321) .
الفقرة (6)
خلاف بين الصديقات الثلاث مثل زوبعة في فنجان .. ثم نشوى تطلب من رجاء أن تحضر معها واحدة من سهراتها في مهنة الدعارة !! (كل القضية أنها هي وفؤاد رغبا في حضور حفل صاخب … ماذا لو اتسعت لهما سهرة من تلك التي طالما تحدّثت عن مثلها صديقتها ؟!) (ص 323)
لكن من هو “فؤاد” هذا ؟؟؟
نشوى تكتب حكاية عائشة التي خرجت مرتين من السجن وعادت إليه مرتين . في الأولى التي دوّنتها سميحة كانت قد سرقت بطاقة زائرة ثم سرقت صرة أمها من تحت فراش سعدية ولبست حذاء أمها بنصف كعب وخرجت . ثم انتقالة مفاجئة إلى سميحة وطبيعة دوامها وكلام شعري لا رابط له .. حتى نشوى التي كانت تكتب صحت على المنزلق الذي آلت إليه :
(توقفت نشوى عن الكتابة ، هل هي بصدد كتابة سميحة ؟ تريد عائشة ، لا تريد سميحة ! لكن هذه كتبت السجن . كيف تكتب عائشة بمعزل عن سجنها ؟ ) (ص 326) .
وحتى المبرر الأخير لا يكفي لتفسير المقطع الشاعري الذي وصفت به حذاء سميحة وخطواتها :
(فناءان اثنان كانا يستغرقان وقت سميحة . الأول في مركز البحوث والثاني في السجن المركزي قسم النساء . الأول تقطعه بسرعة كأنما هي تسير على رؤوس نافرة من الشوك ، لا لسيء إلا لأن أرضيته مفروشة بالحصى الخشن ، خشونته تجرح حذاءها ذا الكعب العالي . الثاني كانت أرضيته مفروشة بالرمل الناعم ومع ذلك تنزع حذاءها ، ليس خوفا على الحذاء ولا على أرضية السجن طبعا ، الأرضية التي كان كعبها يترك فيها غرزا توجع السجينات . كانت باختصار تحب أن تنغرز قدماها في الرمل . كانت تلتذ بدفء الشمس الذي يبعث خالصا من بين الرمل … إلخ) (ص 326)
ماتت ندى قتلا بيد مجهول .. ولم يتسلمها أحد من “محرميها” .. فدفنتها الحكومة .
تزوج طارق من مومس من جديد هي “سعاد” التي هي من كبار القوادات في صنعاء . لم تكن عزلاء ولا حافية كما وعد سابقا . وتزوج عارف أيضا .
الفقرة (7)
زينب ملّت السكن في بيت رجاء مع الفتيات البغايا المحافظات لمدة أربع سنوات . رجاء تعرض على نشوى أن تسكن زينب معها فترفض .
رجاء تقرر زيارة بيت أهلها الذي بنته بأموالها .. أبوها يتصرف بفعالية لا ترتبط بكسر الظهر . ألقى بوجعه كله على ظهرها . تقرر أن تصبح سافرة في العمل وفي الكلية وتترك الحجاب . يعترضها حرس الكلية فتعود للحجاب . حوار بين رجاء ونشوى التي تتحسّس بطنها أسفل سرّتها حيث يحدث شيء .. مثل طفل يرضع .. نفس حال ندى سابقا (ص 334) .. وكل هذا – كما تقول رجاء – بفضل فؤاد الذي لم نره ولم نسمع منه شيئا !!
الفقرة (8)
دام سفور رجاء ثلاثة أيام حيث منعها الحرس الجامعي من دخول الكلية .
زينب الآن في كلية الشريعة والقانون ولا تصدق أنها سوف تتخرج محامية (ص 337) .
أبو نشوى يقع من طوله لاغتيال جار الله عمر (ص 337)
رجاء تودّع آخر زبون مع قلقها من أن يثأر منها القوّادون لأن لا واحدة تترك المهنة بدون إذنهم . وحدها زينب استطاعت الخلاص منهم من دون عناء يُذكر :
(ليس خوفا منها بل خوفا من أصدقائها . فترة انقطاعها عن المهنة ، كانت على علاقة قوية بنيكولاس وماثيو وكريستوفر . لم يكن بوسع شريط فيديو أن يهددها . بالعكس لقد جُلب في حينه وأتلف ) (ص 338)
ومن جديد يثور سؤال مشروع : من هم نيكولاس وكريستوفر وماثيو ؟؟
وهذه العلاقة مع الأمريكان لم يأت ضمنهم اسم (دانيل) وهو الأولى بالذكر ، لأنه قام بدور مهم قبل قليل حيث استعانت به زينب لتخليص رجاء من السجن . وبالرغم من ذلك نتساءل من جديد : من هم هؤلاء الأمريكان ؟ وما هي هوياتهم ؟ وماذا يعملون ليكونوا بهذا القدر من التأثير في جهاز الشرطة في اليمن ؟ من الواضح أنهم أشخاص مؤثرون جدا ، ولكن من هي زينب بالنسبة لهم ليعطوها أرقام هواتفهم الشخصية ، وليتدخلوا لحمايتها من أكثر القوّادين ضراوة ؛ قوادون تصفهم الكاتبة دائما بالنفوذ والتحكم بمصائر الناس ؟ إنّها مومس . لكن هذا الجواب لن يكمل الصورة الشافية إلّا إذا افترضنا أن زينب صارت تشتغل لصالح هؤلاء الأمريكان الأوغاد الذين يعيثون فسادا في كل بلاد يدخلونها . هل كان تلميح رجاء هذا حول علاقة زينب بالأمريكان هو أنها عميلة أو جاسوسة للأمريكان ؟! ثمّ إذا كانت زينب على هذا القدر من التأثير ، أليس من حق القاريء أن يهيّأ ذهنيا لهذه المعلومة عن شخصية مرعوبة أمضت حياتها مرتجفة في بيت طارق ثم بيت رجاء ؟! ثم متى نشأت هذه العلاقة وكيف ، مادام دانيل نفسه لم يقم بأكثر من إلقاء كارت فيه رقم هاتفه على زينب المدماة اغتصابا؟. ولا أدري هل المسؤولون الأمريكيون يلقون بأرقام هواتفهم الشخصية على أي مومس يجدونها في فراشهم في احتفال وطني “تكريمي” يجرى لهم في بلاد مثل اليمن ؟
وهناك تساؤل أخير : لقد أخبرتنا رجاء سابقا وفي موقفين أنها كانت وكيلة للأجهزة الأمنية حيث دمّرت مستقبل سيف .. ثم قامت بالتسجيل لزبون أجنبي كما أتذكر .. أين ذهبت علاقاتها بالأجهزة الأمنية ؟