قراءة في نص ثورة المرايا… قصة قصيرة للكاتبة السورية ريتا الحكيم.
بقلم: منذر فالح الغزالي
أولاً: النص بقلم: ريتا الحكيم
يأتي اليقين بماهيّة الأشياء حين تراها في بؤبؤ عينِ من يتحدّث إليك، في زجاجِ النّافذة، في الصحونِ، والملاعق، وحتّى في السكاكين، لكن في هذه الأخيرة، يبدو الانعكاس مشوّهاً بعض الشيء، كأن ترى وجهك كخابية تسندها أذنان طويلتان تكادان تلامسان كتفيك، وترتطمان بصدغيك عند كلّ زفير. ميزة هذه السكاكين أنها تظهرك على حقيقتك الغائبة عنك، دون رتوش أو إكسسوارات. ما تراه هو ما يخبئه هيكلك العظمي المغطى بقطع اللحم المتهدلة.
ـ لا تستغرب أبدا من كلامي، البارحة رأيتني في ملعقة الطعام كتلة مقعرة تتوسطها عينا ضفدع، لدرجة أنني سمعت نقيقه بوضوح، حتى من كانوا معي أثناء غداء العمل استدعوا النادل مستغربين وجود ضفدع في مكان يقال عنه خمس نجوم. كنت أراقبهم وهم منهمكون بالبحث عنه، تحت الطاولة، في جيوبهم في صحن الوجبة الرئيسية المغطاة. أمتعني انشغالهم وقلقهم، وهذا ما حدا بي لأن أستبدل الملعقة بالسكين، ما حصل بعد ذلك أثار حفيظة رواد المطعم؛ فقد تلونت شراشف الطاولات، والأرضية والسقف وحتى الملابس التي يرتدونها باللون الأحمر، وكلما أمعنت النظر في السكين، كلما سال الأحمر القاني على الجدران ليشكل شلالاً غرق فيه الجميع إلا أنا، بقيت على حالي كما دخلت، والدليل أنني غادرت منذ بضع دقائق لألتقيك حسب موعدنا المتفق عليه
ـ استناداً لما سبق وقلته؛ فأنت قاتل وإلا كيف تفسر نجاتك وموتهم؟
ـ كيف يخطر ببالك هذا الأمر؟! لو كنت كما تظن، كان الأجدر بي أن أقتلك أنت أولاً لأنك تعرف هذه التحولات التي تطرأ علي، خصوصاً عندما أتواجه مع أسطح ملساء وأرى انعكاسي فيها. يبدو أنك تدفعني إلى ذلك عمداً بأسئلتك التافهة، لحظة وسترى ماذا سيحدث الآن، سأسدل وشاحاً على وجهي كي لا أرتكب حماقةً فيك.
انتهى الحوار العقيم بينهما، بشظية من المرآة في عينه، وسط فراغ تملؤه الدماء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثانياً: القراءة بقلم. منذر فالح الغزالي
هذا نص مختلف قليلاً، يكاد يكون محيراً، أو عصيّاً على التجنيس، أو لنقل -مبدئياً- عابر للأجناس.
تقرأ المدخل، تُخيَّل إليك أنك مقبل على مقال أدبي. تدخل الفقرة التالية، تجد أنّ ما تقرؤه هو جزء من حديث يرويه راوٍ متكلّم إلى القارئ المخاطب مباشرة، في لعبة سرد جميلة، اختلط فيه الحوار بالسر حدّ التماهي، حتى غدا السرد كلُّ حواراً، جزؤه الأوّل كان في المقدمة؛ لكنّ الكاتبة سهت، أو تعمّدتن ألا تضع إشارة تدلّ أنه حوار.
تحسبه قصةً ساخرة يتحدّث فيها الراوي المتكلم عن الملاعق والسكاكين وأدوات المائدة؛ لكنك، وبعد أسطرٍ قليلةٍ، تجد نفسك وجهاً لوجهٍ أمام أفكارٍ جدّيّة، تكتسي بالسخرية، أو اللامبالاة، تبدأ تأثيره في اللحظة التي تنهي فيها قراءته. يحثّك على البحث لتلغي الأسئلة التي فتحها في رأسك … وهذا ما فعله بي، وهذا ما ستقوله هذه القراءة.
في العنوان: ثورة المرايا
تورة!!!
كلمة كبيرة، لعلّها الموضوع الأكثر استخداماً في الأدب، الكلمة الأكثر بطولية قي جميع اللغات1 (يوجين دبس). الصورة الأكثر رومنسية في الروايات العربية: صورة الثوري البطل، الذي يهب نفسه لقضيته، تتنافس عليه الجميلات، وتعشقه البطلة، وتتباهى بالفوز بقلبه. صورة الثورة في بلاد الشرق البائسة ارتبطت بصورة الموت، تحت الأنقاض، أو تحت التعذيب. صورة الثورة في بلادنا المستلبة ارتبطت بصورة التهجير والنزوح، منذ الثورة الفلسطينية، حتى الثورة السورية.
كل حدثٍ عظيم، مفصليّ، يجعل ما بعده مختلفاً عمّا قبله هو ثورة.
لا يمكن أن يكون هناك ثورة إلا إذا وُجِد الضمير.. هكذا كان لسان حال الثورة الطلابية الفرنسية… فماذا لو ثار الضمير نفسه؟ على من سيثور، وكيف يثور؟
الضمير، هو الجزء الحي الذي يعكس حقيقتنا… الضمير هو مرآة الإنسان الحقيقية.
المرآة… كم من مرايا في حياتنا، وكم نعشق المرايا!
أقدم مرآة عرفها الإنسان هي انعكاس صورته على سطح ماءٍ شفاف. نرسيس (نرجس) عشق صورته المنعكسة على سطح ماء البحيرة، وصارت النرجسية صفة تلازم عشق الذات المَرَضيّ… هل عشق نرجس ذاته حقاً؟ أم عشق الصورة الجميلة التي رآها على سطح البركة تحت ضوء القمر؟
بعض الأساطير تعطي للمرايا قدراتٍ خارقة، فتجعلها تعكس الأرواح، وتستطيع قراءة الماضي والحاضر والمستقبل… لو اقتنى أجدادنا إحدى هذه المرايا، كانوا أراحونا من هذا الحاضر الذي نغرق فيه.
وفي بافاريا القديمة، موطن قصة بياض الثلج، كانوا يعتقدون أنّ المرآة تتكلّم وتقول الحقيقة دائماً… لو كانت المرآة كذلك، لحطّمت كل المرايا الموجودة على الأرض… أو حطّم الناس بعضهم بعضا.
لو كانت المرآة تقول الحقيقة دائماً، لصادرت المرايا السلطات العربية جميعها، دون استثناء، ومنعتها بمادة أساسية في القانون، وصارت حيازتها جريمة تعدل الخيانة العظمى.
الحاكم الظالم يحيط نفسه بالمرايا من جميع الجهات، فلا يرى إلا صورته. أما الحاكم العادل، فيرى حقيقته منعكسةً في عيون شعبه.
عندما يعشق الإنسان إنسانا، هل يعشق حقيقته الكامنة بداخله، أم يعشق الصورة التي يراها؟
كم نرسيساً نصادف كلّ يوم، ممن يظنون أنفسهم مثالاً للكمال والحق والجمال؟ وبالتالي، ما حجم الزيف والخداع الذي يحيط بنا؟
في المكان والشخصيات
منذ البدء، كانت أحداث الحكاية في مطعم، والمطعم مكان التناقضات: النقيضين من جهة رواد متأنقون، مهذبون، يجلسون حسب المواضعات التي وضعها الانسان، ومن ناحية أخرى يلتهمون بكل أناقة ولباقة لحم طير ضعيف، أو حملٍ طالما تغنوا بوداعته… منذ البدء تضعنا أمامنا المرآة… وتخبرنا أنها مرآة الخداع وليست الحقيقة..” في زجاجِ النّافذة، في الصحونِ، والملاعق، وحتّى في السكاكين، لكن في هذه الأخيرة، يبدو الانعكاس مشوّهاً بعض الشيء”
السكين أداة القتل الأولى في التاريخ… أداة الأكل.
هل تاريخ الإنسان هو تاريخ السكين؟
هل السكين هي المرآة الأصدق في تاريخ الإنسان؟
“ميزة هذه السكاكين أنها تظهرك على حقيقتك الغائبة عنك، دون رتوش أو إكسسوارات. ما تراه هو ما يخبئه هيكلك العظمي المغطى بقطع اللحم المتهدلة”
هل حقاً نح أبناء قابيل؟ هابيل… مات ولن يبقى منه أثرا؟
المرآة هي رمز الخداع، وهي مصدر الحقيقة في آن… حسب تضارب انفعالاتنا
آناً تكون مرايانا مسطحة، منبسطة، كالنفس المنبسطة، فتعكس الأشياء على حقيقتها… وتحبها
وآناً نكون كالمرايا المقعّرة، نجمع الصور، ونركزها في صورة مشوّهة، في بؤرة عقدتنا.
وأحيانا نكون مرآة محدّبة، تشتت الضوء في كل الاتجاهات، ولا نحتفظ بالصورة، كالذاكرة المريضة… “البارحة رأيتني في ملعقة الطعام كتلة مقعرة تتوسطها عينا ضفدع، لدرجة أنني سمعت نقيقه بوضوح”
في الخاتمة الفرد مرآة المجتمع… تحطيم الذات
والفرد الذي يقع تحت الضغط الدائم، دون أي شعور بالطمأنينة، يصبح حبيس ذاته، تنقلب مرآته نحو الداخل، داخله المشتت، الضائع، يفقد إحساسه بالعالم الخارجي، يختلّ شعوره بالواقع، فيسعى لتدمير ذاته كأسطورة الأم التي تأكل أبناءها.
يقول الفيلسوف نيتشة في كتابه “هكذا تكلّم زرادشت: “وما إن نظرت إلى المرآة حتى صرخت، وقلبي خفق خفوقاً شديداً، لأن ما انعكس في المرآة لم يمن وجهي، بل وجه تقّطبت أساريره بضحكةٍ شيطانية”.
أنها غريزة تدمير الذات المحبطة، البائسة، المغرورة…
“ـ كيف يخطر ببالك هذا الأمر؟! لو كنت كما تظن، كان الأجدر بي أن أقتلك أنت أولاً لأنك تعرف هذه التحولات التي تطرأ علي، خصوصاً عندما أتواجه مع أسطح ملساء وأرى انعكاسي فيها. يبدو أنك تدفعني إلى ذلك عمداً بأسئلتك التافهة، لحظة وسترى ماذا سيحدث الآن، سأسدل وشاحاً على وجهي كي لا أرتكب حماقةً فيك.
انتهى الحوار العقيم بينهما، بشظية من المرآة في عينه، وسط فراغ تملؤه الدماء”.
منذر فالح الغزالي، بون في 27. 09. 202