قصة قصيرة: أودعتُكِ قلبًا
بقلم: أناغيم حدّارة
مضى شهران على اتخاذه القرارَ.
تتهالك الأيّامُ كروحي. أجلسُ على مقعد إسمنتيّ أعيد قراءةَ رسائلنا بصمت. الغيومُ من فوقي تحبِسُ دمعَها، وغصنُ شجرةٍ من تحتها يرتجِف.
قبل أن أصل إلى أواخر رسائلنا على تطبيق الدردشة، تختفي أحرفُها ويظهر اسمُه وصورتُه مكانها. يصدح صوتُ فيروز: “أنا لحبيبي وحبيبي إلي.” أتركُها تُغنّي، ثم يعصاني قلبي وأجيب:
– صباح الخير.
– صباح الخيرات. أخيرًا سمحتْ لي فيروز بأن أطربَ بصوتِكِ، سيّدتي.
– لا يطاوعها قلبُها على غير ذلك. كيف حالكَ؟
– بخير. أنتظرُكِ في مينائِنا اليوم بعد المغرب.
– بعد المغرب!
– أرجوكِ لا تتأخّري؛ فالانتظار ليس في صالحي اليوم. سأنتظرُكِ من الآن.
حين أراد أن يخبرَني برحيله، انتظرَ من العاشرة إلى الواحدة. في كلّ موعدٍ ينتظرني بلا ملل ولا عتاب. وحين رتّب لي موعدَ عمل، أعطاني موعدًا باكرًا كي لا أتأخّر.
ألم ينتظرْني ساعاتٍ لأهدأ قبل أن أعودَ إلى المنزل ويراني أهلي والهلعُ يأكلني في “ذلك اليوم”؟ قلت في نفْسي.
– أين أنتِ؟ لماذا هذا الصمت؟
– إذًا فقد عزمتَ على الرحيل! لا أحبُّ الوداعَ ولن أبكيكَ أبدًا، فلا تنتظرْ.
– لن يكون وداعٌ. سأكون هناك في أيّ ساعةٍ أتيتِ. لقد أودعتُكِ قلبًا أؤمن أنّه سيأتي بكِ.
حملتُ أغراضي أهمُّ بالهروب إلى البيت. أوقفتُ سيّارة أجرة. قلت للسائق: “أوصلْني إلى مينائنا، اقصد إلى المينا!”
كنتُ قد أخبرته أنني لن آتي، وإنْ كان يتوقع مجيئي. لكنه يعرف جيدًا أنّي أتأخر عن أيّ موعد.
كيف سأخبر السائق أن يُغيّر مسارهَ؟
سأصل إلى هناك ثم سآخذ سيارة أخرى وأعود إلى البيت. يستحيل أن يكون قد وصل.
– تفضل. وصلنا.
مددتُ يدي بالأجرة.
– شكرًا.
توجّهتُ إلى مقعدنا المعتاد، فوجدتُ مُسِنًّا قد احتلّه.
جيّد، سأرحل. فليخبرْه المدُّ أنّي أتيت، وأنني مع الجزْر رحلتُ.
باغتني صوته:
– ليس بدينًا. نتّسع بجانبه.
استدرتُ لأرى ابتسامتَه الدافئة وعينيه الحالمتين. كان حلمًا غيّم عليه الحزنُ. شبكتُ يديّ في يديْه.
قبل أن نصل، أخلى الشيخُ لنا المقعدَ وكأنّ أحدًا ناداه ليرحل. كان النداء أشبهَ بدويٍّ ينهرني كلّما همّت أصابعُه بأن تمسكَ يدي: “أبعديها، أبعديها!” إلى أن اقتنع بأنّني لن أبعدَها بعد “ذلك اليوم.” واليوم لا أعرف، بل لا أريد أن أفكّر، أيّهما أشدُّ إيلامًا وقسوةً: فراق الحبيب أم التكفير عن ذنوب ارتكبتها حين كذبتُ على أهلي وواعدتُ شابًّا من دون أن يدري أحد؟
شابٌ أسمر لا ملامح جسديةً تميّزه، وجدتُ نفسي مشدودةً إلى حديثه بين رفاقي في الجامعة، من دون أن أجرؤ على الجلوس معهم. مرّت الأيامُ بطيئةً وأنا أراقب من بعيد. إلى أن جاء يومٌ رآني فيه وحيدةً، أطالع، فجلس إلى جانبي. تردّد دقيقة قبل أن يتكلم، ثم بدأ.
من دون تقديم بدأ حديثًا في السياسة. كان مؤمِنًا بأنّه يحمل قضِيَّةَ وطنٍ وأكثَر. سنحرر لُبنانَنا من هذه السُلطة الفاسدة، ونبني وطنًا قويًّا لأبنائنا، وبعدها نعود إلى قضيتِنا الأُمّ، وننهض مع العرب لِنُحرِّر القدس.
***
تكرّرت جلساتُنا يومًا تلو الآخر، حتى أصبحت الدافعَ الأساسَ لأفتحَ عينيّ صباحًا.
– هذا المقعد وفيّ، لا يسمحُ بجلوسِ أحدٍ غيرنا في وجودنا.
أفقتُ من حلمي، ووجدتُ أصابعي مشبوكةً بين أصابعه، تمامًا كما تركتُها، التزامًا أبديًّا بوعدٍ غير محكيٍّ بيننا. قلتُ في سرّي إنّ أيَّ كلام يُقال الآن سيُبكيني، وأنا لن أبكي. تنهّدتُ طويلًا، وزممتُ شفتيّ. شدّ على يدي وكأنّه يسمع.
– كما موجُ البحر، كلّما رحل عاد. سأعود، ووعدي ديْنٌ لكِ ما حييت. سيشهدُ هذا المقعدُ الوفيّ على كلامي، وقلبي الذي أتى بكِ إلى هنا.
– دعنا نحاول مرةً أخرى.
– فعلنا كلَّ شيء. تظاهرْنا. ضُرِبنا. اعتُقِلنا. استُشهد رفاقٌ لنا. لكنْ ما هزَّ لهُم جَفن. أنت نفسكِ، باعثة السعادة والأمل، لم يعُد الضحكُ رفيقَكِ.
– الشمسُ تغيب وروحي تغيبُ معها، ولا أعرف طريقَ العودة. هل ستتركني أعود وحيدةً في الظلام؟
– سيوصِلُكِ صديقُنا. تولّيتُ الأمر. سأشتاق إليكِ كثيرًا.
وأكمل وهو يضع سبّابتَه على شفتيّ:
– لن أترككِ هنا وحيدةً.
غرِقنا في بُكاءٍ صامت. قبّلتُ سبّابتَه. استمعتُ إلى نبضات قلبه المتسارعة.
وجدتُ نفسي أرجع إلى “ذلك اليوم” حين اقترب منّي وهمس:
– يجب أن تتركي الساحةَ باكرًا. يبدو أنّها ستكون ليلةً مليئةً بالاعتقالات.
وذاتَ بُرهةٍ غير محسوبة، وجدتُ أصحابَ البذلة قد وصلوا بعِصِيِّهم إلينا. أحاطني بذراعيْه كي يدرأ عني ضرباتهم، بكيتُ، صرخت وفي لحظة تركونا حطاما من الداخل.
جلسنا على الأرض نتَحَسَّسُ بعضنا فوجدتُ رأسه ينزف. ساعدنا بعض الرفاق في الوصول إلى أقرب آليّة للإسعاف، وهناك ضمَّدوا جرحَه. طلبنا إليه جميعًا أن يعود إلى المنزل كي يستريح. استجاب على الرغم من عناده. أوصَلْنا صديقتنا إلى جونية، ثم سلَكْنا الطريق البحريّ. كان الخوف باديًا على وجهي كما لم يرني يومًا. عرض عليّ أن ننزل في المينا قليلًا حتى أهدأ، فقبلتُ. بقي معي ساعات إلى أن بتّ جاهزةً للعودة إلى المنزل. باغتني بشبك أصابعه بين أصابعي. صرختْ جوارحي بأنّي أحبُّه.
أفلت يدي وأبتعد شيئًا فشيئًا وهو يردد: “سأعود.”
لم أعرف كيف تخطيت أمي وأبي وحتى أختي بهذه الروح البليدة الشاحبة ووصلت إلى سريري، أبقيت على ثيابي معي فرائحته هي الشيء الوحيد الذي بقي لي منه، ولو أمكن لما خلعت حذائي لعله يعود ويناديني كي أنزل.
***
لكنها مجرد أوهام. لم يأتِ، لم يطلب مني هذه المرة أن أهدأ، لم يخبرني بأن كل شيء سيكون بخير وبرسالة صغيرة سيكون بجانبي.. توالت على ذهني كل ذكرياته مكللة بالدموع حتى تلك التي ضحكنا فيها كثيرا، فبكيت…
أطفأت هاتفي، فما الحاجة له بعد اليوم. جربت أن أنام، ولم أستطع…
***
حلّ الصباح بعد ستين عامًا من الليل. قبّلتُ أمي وتمتمت بأنّي ذاهبة إلى امتحان، ثم خرجت بسرعة. أوقفت سيارةً واتجهت لمينائنا، ثم مباشرة إلى مقعدنا.
أحدهم ترك ورقة مثبتة بمسمار وعليها اسمي.
هذا خطه!
فتحتها لأقرأ ما فيها بصوتي المرتجف:
“أحبها تلك البلاد أحبها
تقتلنا كلما قلنا نحبها..”
عاجلني صوته الدافئ: “ولا يهنأ لنا موت إلا فيها”
نظرت إلى عينيه بمزيج من الصدمة والفرح، باعد شفتيه متكلّما: لم أستطع…
قاطعته بعناق وكلمة “أحبّك.”