د. حسين سرمك حسن
بغداد المحروسة – 2014
القسم الثاني : مماش من الإسفلت
تفتتح الكاتبة القسم الثاني (مماش من الإسفلت) بحيرة زينب وقد جاءها رجلها “الأخونجي” الفقيه بمجموعة من قمصان النوم الشفافة التي تحرّجت من لبسها بالرغم من تاريخها العريض والطويل في الدعارة (ص 123 إلى 126) .
لبست القميص الخليع مُكرهة ، وتقرّبت من زوجها خجلة فثارت نقمته :
(قومي ارقدي والّا أقول لش قومي صلّي .. أصلا إنت جيت لهذا البيت معتقدة إنه جامع . وهذا الرجال اللي قبالش ، ما هو ؟ زميل صلاة ؟ – ص 126) .
قفزة ورجوع إلى أيلول من عام 1991 ، وقد أمضت زينب سنة ونصف السنة في السجن مع العاهرات بالرغم من أن لا أحد – ضباطا ونزيلات – كان يصدق أنها عذراء . أنهت لياليها تحلم بصفعة على وجه أبيها الظالم يعقبها احتضان وعتاب . وحين خرجت بإفراج مشروط تسلّمها القوّادون الذين علموا بامتيازها الذي لا يُصدّق : عذريتها فرتّبوا لها الحفلة المناسبة/ المذبح .
وهنا تصمّم الكاتبة ، بذكاء جسور ، المذبح الذي سوف تُذبح عليه زينب وتهدر فيه عذريتها . إنّه مذبح الإحتفال بذكرى أعياد الثورة ، حيث ستوزّع الفتيات “المرافقات” على الضيوف ، وسيكون الأمريكان هم الأهم طبعاً . محاولة جريئة لتحميل زينب دلالات وإيحاءات رمزية عميقة . المتعهّدون يقدّمون زينب لدانيل الأمريكي وكأنها امتياز تكريمي له ، فهي عذراء في حين أنه لا يهتم لهذه الصفة أبداً . فارق هائل بين مجتمع يقف حتى في الحضارة على عتبة “غشائها” ؛ غشاء بكارة يشلّ إرادته ويخنق وجوده ويعطّل نموّه النفسي بلعبة زائفة ومنافقة ، ومجتمع يتخلّص من هذا الغشاء بمشرط الطبيب مبكرا لأنه مصدر ألم وتعذيب للمرأة ؛ بين مجتمع يعتقد أن هذا الغشاء نعمة ربّانية وامتياز مقدّس ، وآخر لا “يتذكره” ولا يفتّش عنه . هؤلاء اليمنيون يقدّمون لضيوفهم اشياء لا يطلبونها ، ولذا حين قالت زينب : لا ، استدار دانيل ونام على الجانب الآخر من السرير . وفي الصباح كانوا يباركونه على شيء لا يفهمه ولا معنى له بالنسبة إليه . لكنهم اغتصبوها بعد أن خدّروها .. هنا اتسع الحضور الرمزي لزينب الذبيحة في عيد الثورة :
(الحقيقة ، أنه إذا كان لواحد من كل سكان هذه البلاد أن يحتفل بأعياد اليمن الوطنية مايو وسبتمبر فهو زينب . لا تنسَ في اليوم الأول للوحدة ، يوم توقيع الوحدة كان اليوم الذي أبرم فيه افتراقها عن أهلها . لكنها احتفلت بـ 21 – 22 مايو 91 على طريقة البرامج الوثائقية في القنوات الفضائية ، بالجملة الذائعة : حدث في مثل هذا اليوم . كان عليها أن تدعو ضيوفا أجانب على الأقل دانيل – ص 131 و132) .
يتسع مفهوم الإكرام النسوي بجذوره الأسطورية حين يريد صاحب المنزل تحييد “ضيفه” قديما في العصور البدائية بما ينطوي عليه من مشاعر الإشتراك الخفية بالدم ، دم الأمومة بين الرجلين الذين سيصبحان على المستوى اللاشعوري الرمزي أخوين ، يتسع الآن ليتحوّل إلى شكل مباشر من اشكال السمسرة . ممارسة الدعارة على الرمز الأمومي بما يحطّ من كرامة المضيف الذي يبذل غشاء بكارة الأمومة للضيف الأجنبي القوي . إنّها مرحلة البداوة التي يشعر فيها الفرد بالهيبة للقوّة حتى لو كانت مؤذية ومهينة . ألا نلاحظ كيف يقوم الأعراب بتدمير أخوتهم وحضارات أمّتهم في سوريا والعراق ومصر ، ناقلين العدوان على الذات إلى الشقيق . وهذا شكل متحقّق من الدعارة السياسية الحقيقية . نبيبلة الزبير شاهد جسور واقتحامي ينتقل باشمئزاز مغث من دائرة مجاملات الأدب السياسي التي يدبّجها القوّادون من كتّاب السياسة ومحلّليها إلى دائرة الشهادة الإبداعية المقدّسة واستشهادها المكين . زينب شهيدة الآن ، شهيدة انخذالنا وعهرنا ، وشاهدة على هذا الإنخذال والعهر والإنحطاط . لكنها الشاهد والشهيد الحيّ الذي لم يُحتف به .. الشهيد المخذول .. خُذل وسوف يبقى مخذولا حتى النهاية :
(الغريب أن زينب في ذلك العيد الوطني لم تبكِ . وستظل لوقت طويل لا تشعر بشيء . لا شيء إلا فراغ . ريح تنبعث لا تدري من أين ، عراء فصّل نفسه ثوبا لا تلبس غيره . مهما كست جسمها الثياب ، ثمة دائما عريٌ يتهدّدها – ص 133) .
في الفقرة الثانية تطالعنا حيرة طارق التي ستصيبنا بالعدوى ، فتحيّرنا معه . لقد أدمنت زوجته ، ندى ، القات بعد المرّة الأولى التي سمح لها – هو بادر كما نتذكر – بـ “التخزين” . صارت لديها عادة يدق جرسها النفسي كل يوم ولا تستطيع إلا الإستجابة له . إن لم يستجب طارق لها تذهب لتخزّن عند أهلها . ومصدر حيرتنا هو أن طارقا يعلن تذمّره من تخزين ندى وجلوسها معه بلبسها الفاضح وفخذيها العاريين وكأنها امرأة “مش محترمة” . ما الذي كان يريده من زينب قبل قليل ؟ ألم يشتر لها قمصان النوم المتهتكة ؟ ألم يكن يريدها شبه عارية ؟ ألم يسخط عليها لأنها لم تضع مكياجا على وجهها ؟ لنراجع مشاعره في مستهل هذا القسم ، وزينب تجلس جواره ، وقد ركبها الخجل :
(نزع عنها البالطو . مزاجه تعكّر نوعا ما … يتأملها ويتعجب .. رفع وجهها بيده ، وكلّم نفسه بصوت يكاد يكون مسموعا : طيّب ، لننس مسألة أنها قحبة . هذه البنت جاوزت الثلاثين . سألها في نوع من الإستهزاء .. – ص 125) . نقم على زينب لأنها تحتشم فلماذا يسخط على ندى لأنها تتهتّك ؟
وها هو يصطحب زينب عصرا إلى أرقى محل للعطور والماكياج لتختار أفضل ما يلائمها من مكياج (ص 135) .
وفي محاولة لتبرير تناقضات طارق السلوكية تجاه نسائه ، تعود بنا الكاتبة – ومن خلال طارق نفسه – إلى حياته الماضية ليستعرض أمامنا تاريخه الشخصي المعلن والسرّي . لم تكن لديه علاقة بالفتيات بخلاف أخيه أمين المتهتك والمؤمن في نفس الوقت ! لقد كان واقعا تحت تأثير أخيه الأصغر : أمين (منافسة قابيلية مستترة) الذي تحكّم به ولم يكن يتخذ خطوة من دونه . جعله أمين نائبه حتى في حلقات التثقيف الديني بالرغم من أنه كان يشعره دائما بأنه الأخ الأكبر . والأهم من كل ذلك أن أمين استولى على حبّ أبيه واحترامه . كان الأب قاسم عبيد يبارك كل ما يقوم به أمين . أما ما يقوم به طارق فهو تحصيل حاصل وقد يُستقبل بالسخرية . كان ينظر إليه كحالة ميؤوس منها . حتى تربية اللحية باركها الأب بالنسبة لأمين وعدّها من “متطلبات الثورة” (حركة داعرة شكلية) ، في حين أنها بالنسبة لطارق خطوة مظهرية عادية . وفي التاريخ الجنسي هناك العادة السرّية التي كان طارق يمارسها وفي خيالاته صورة بنت الجيران المنقّبة التي لم ير منها حتى عينيها والتي سوف تصبح زوجته لاحقاً .
ثم يأتي قطع بمقدار عشرة سطور يتحدّث فيها طارق عن جلسة زينب معه وقد وضعت الماكياج ، ويتذكر شفتها السفلى المعضوضة التي اثارته في قسم الشرطة يوم شاهدها أول مرة (ص 143)! وحين تعود الكاتبة لتتحدّث – بعد العشرة سطور السابقة – بضمير الغائب عن امرأة :
(أتمت لبسها … ) (ص 143)
كنتُ أعتقد أن الحديث سيكون متصلا عن زينب ، لكن ظهر أن الواقفة أمام المرآة هي ندى !! وهي تستعد لجلسة “التفرطة” في بيتها وبإشراف أمّها ولن تتسامح معه [= مع زوجها طارق] إذا رفع صوته . تتوافد صديقاتها ويرتفع ضجيج ضحكاتهن وأحاديثهن وهي تخشى أن يفسد عليها الجلسة . لكنّه يناديها ليواقعها .. ليغتصبها ، وهي تشعر باللذة بالرغم من تأخّرها عن صديقاتها . ألم تقل لنا الكاتبة ذلك من قبل ؟ فلماذا تعيده ؟
في الفقرة الثالثة من هذا القسم تعرض علينا الكاتبة تعلّق رجاء بالكتب ، وكيف أن “سيف” كان يعلق على تصرفها وهي تشم الكتب بأنها رائحة السجائر . من هو سيف ؟ هل هو “سين” الذي ذكرته بلمحة سريعة سابقا ؟ لا أتذكّر ؟ المهم أنه سيختفي بعد قليل ! ثم ها هي في المطعم ، وهي تنتظر طعامها وتقلّب كتبها ، تتعرف إلى نشوى وسماح (ص 145 – 149) .
في الفقرة الرابعة تقف زينب تقلّب قنينة عطر مستعملة من نوع ” Touch of pink” غير موجودة في السوق اليمنية ؛ عطر نادر كان “دانيل” الأمريكي قد أهداها إليها ذات مرة في واحدة من زياراته (لم نعرف سابقا سوى أنّه أعطاها الكارت الخاص به) . تتساءل زينب عن مصدر هذه القنينة ، وكيف جاء بها زوجها مفتوحة ومستعملة . وهل هي من زوجته ؟ لكن الكاتبة نفسها كانت قد أجهضت المفاجأة حينما أخبرتنا قبل صفحات أن ندى الوحيدة التي حصلت على هذا العطر من باريس بطلب خاص (ص 144) . كان هذا العطر مثيرا قويا لطارق وهو يواقعها . كان وكأنه يواقع العطر . هؤلاء المعصوبون المربوطون لا يفك قيود إنجازهم الجنسي في كثير من الأحوال إلا عوامل مساعدة ، “فتشية” ، في الواقع . مع زوجته الأولى “بشرى” كان يجامعها بما يشبه الإغتصاب وهي على سجادة الصلاة . ومع ندى يستثار بالمعاندة . ومع زينب بالعطر الفرنسي . لكن هل تعتقد الكاتبة أنّ السيرة الشخصية المبتسرة لطارق ، والتي عرضتها عبر صفحتين أو ثلاث تقريبا ، كافية لأن توصل القاريء إلى تكوين صورة شافية عن الصراعات النفسية الحاكمة لسلوك هذا الإنسان ؟ هل تكفي ذكريات طارق عن المنافسة بينه وبين أخيه أمين ، وتعسّف أبيه في معاملته له ، وخجله المبكر من الفتيات وممارسته العادة السرية ، لأن تبرّر لنا سلوكياته “الإغتصابية” مع زوجاته وحاجته لإضفاء صورة المومس على مظهرهن الخارجي لتأمين اشتعال رغبته الجنسية فيهن ؟ هل تكفي تلك اللمحات الموجزة عن حياته الماضية لتجعل القاريء يقتنع بأن عطرا معينا يكون لازما لتأجج الفعل الجنسي لطارق وفكّه من إسار “ربطه” ؟ إنّ هذه “الشروط” التي بزغت علينا في الحياة الراشدة لطارق لم تكن لها أي جذور في طفولته ومراهقته التي استدعى ذكرياته عنها ، في حين أن “العقد” النفسية تنمو في تربة اللاوعي بهدوء ، لتترعرع وتبدأ بتحريك السلوك من وراء ستار ، بحيث تختفي الصلة المباشرة بين الحوادث الفاعلة في الطفولة الباكرة والسلوك الراشد اللاحق .
وأعتقد أن إناطة الحديث عن الذكريات المريرة بطارق نفسه (ضمير الأنا) قد ضيّق دائرة تحكّم الكاتبة بانسيالات مكنونات لاوعيه ورصد سلوكه فيما لو استخدمت ضمير الغائب . والأهم من كل هذه العوامل هو أنّ الكاتبة كانت تراكم وتراكب سرد الشخصيات بعضها فوق بعض وبسرعة غريبة وبقفزات لم تتح لنا تكوين صورة وافية ومعقولة عن الحاضنة الإجتماعية التي شكّلت عناصر شخصياتها والظروف الضاغطة التي أسهمت في انحرافاتها وشذوذاتها .
الفقرة (5)
عن البيت الذي أسسته رجاء مع مجموعة من الفتيات اللائي يمارسن الدعارة من أجل توفير مكان “نظيف” تسوده روح العائلة وبعيد عن الشبهات (ص 150 – 153) . ومع ذلك لم يسلمن من ابتزاز القوّادين .
المهم تلي ذلك نقلة (عودة) إلى عام 87 م ؛ إلى بيت حميدة من جديد حيث قلق والدي رجاء من أن يُفترع غشاء بكارتها ، وجهودها الكبيرة في الحفاظ عليه ، ومحنة أمّها في إشباع أبيها ، المكسور الظهر ، جنسيا ، دون استفزاز كرامته . ثم بكاؤه وهو يعجز حتى عن الإستمناء .. إلخ . لتختم هذه الفقرة بنقمة عاتية وساخرة من رجاء على هؤلاء الذكور ممثلين بأبيها الذي يتحكم بأنثاه حتى وهو مكسور الظهر ويعيش طفيليا عليها :
(أمّها تفصّل رغباتها وفقا لمقاسات استطاعته وحاجاته ، متى يريد هو ، متى يقدر ، وحتى “كيف” هو الذي يحدّدها . يا لهؤلاء الرجال ، يا لهذه الحياة التي تتوقف عند حالة أير ، قد ينهد فيهدم ما حوله – ص 157) .
الفقرة (6)
زيارة غير متوقعة من نشوى لرجاء في بيت الدعارة “العائلي” بعد لقاء المطعم السريع الذي ألحت فيه على رؤية زينب ، زوجة أخيها الجديدة ، بمعاونة رجاء . ردّتها الأخيرة بقسوة وصرامة . خرجت نشوى دون أن تشعر بالإهانة .. تائهة لا تعرف عمّا تبحث . هؤلاء الضائعون في الكبر تمّ تضييعهم من قبل السلطة الأبوية في الصغر . تجلس نشوى في شقتها أمام قنينة الخمر تعاقرها وتعرض أمامنا ذكرياتها عن علاقة أمّها بأبيها ، ورحلاتهما إلى القاهرة ؛ عرضا تكون فيه المرأة هي المغلوبة كالمعتاد ، والرجل هو المتعسّف الظالم . ولكن العمّة حوريّة تساهم في الكيد لأمّها أيضا وتنافسها على سلب وقت أبيها في القاهرة . ثم التغيّر الذي طال أباها بعد عودته من القاهرة عام 1982 الرحلة التي أجهضت فيها ابنته نجوى . لقد سلم أمر السيطرة على شؤون بناته لأيدي أبنائه الذكور ، أمين تحديدا الذي زوّج سلوى مبكرا . هذا كان يحكم بمبدأ “الأمر بالمعروف والنهي عن الحياة” (ص 163) . نجوى تزوجت وتحوّلت إلى آلة تفريخ .. سامية اتخذت خطا معاكسا تماما .. أمنت العقاب بحسن الأدب .. (تحدّت السوط بألّا تدع له مبررا لضربها ) (ص 164) . انكبت على دراستها . لكن السوط نفسه فرض على نشوى الحجاب ، والرقابة المشدّدة من قبل الأخوين . ولكن بالنسبة للأب انقلب السحر على الساحر حيث أصبح الأخوان وخصوصا أمين قوّةً عليه .. لقد فات زمنه :
(إنّه زمن هؤلاء ؛ الواحد منهم يكون أمين أبيه ، وفجأة بمجرد أن يطلق لحيته يصبح لديه حق في مقارعة أبيه وتهديده) (ص 165) .
ويبدو أن حال العائلة ، في الداخل ، يمثل انعكاسا لما حصل في “الخارج” . فتلك القوى الملتحية ترعرعت على أيدي “آباء” السلطة الذين فتحوا لهم أبواب المسؤولية قبل أوانها ، واعتقدوا أنّهم يعدّونهم لإدامة سطوتهم ، فإذا بهم ينقلبون عليهم و يسطون على مقدراتهم . لكن الغريب هو هذه المثابرة العزوم على قمع المرأة . قمع المرأة هو الأمانة التي تسلّمها الأبناء من الآباء . لكن ما هو مهم بالنسبة لنشوى من نتائج تسليم الأب مقادير العائلة للأخوين ، هو أنها خُلعت من “منصبها” كـأمينة سر لأبيها . وكان لهذا الخلع – من وجهة نظري – نتائج كارثية بالرغم من مهماتها السلبية . لقد ضاعت نشوى إلى الأبد .. سقطت في هاوية من غيبوبة البحث عن “الأنموذج” الذكوري عبر الدعارة والممارسات الجنسية المتكرّرة التي لا تروي ظمأها الحارق . ولو عدنا لمراجعة سير الفتيات الثلاث : زينب ورجاء ونشوى على الأقل ، لأمسكنا بعامل مشترك أعظم بينهن هو : “غياب” الأب بشكل ما ، غياب خلق فراغا مدوّياً في مسار نموهن النفسجنسي الموصل إلى نضج شخصياتهن .