يَحيى غَازي الأَميريِّ
1
مِنْ أقصى جَنُوبِ بِلادِ النهرين
مِنْ ضِفافِ أَهوار مَيسان
مِنْ مُسَطَّحاتِ مِياهِها المُمتَدَّةِ عَلَى طُولِ البَصَرِ
مِنْ بَينِ غاباتِ القَصَبِ بِهامَاتِهِ الباسِقَةِ
المتشابكةِ المُتَراقِصَة عَلَى أّنغامِ الرِّياحِ
بِمَشاحِيفَها الرَشِيقَةَ،
وَهي تَمخرُ بِمَتاهاتِ دُرُوبِها الخَفِيَّةِ
وَهِيَ مُحَملَةً بِأَنواعِ السَّمَكِ الكَطّـان وَالبُنيّ وَالزُورِيّ،
مِنْ بَيْن صياح الدِيكَةِ،
الَّتِي تَتَعالَى مَعَ كُـلَّ فَجرٍ،
المُتداخلةِ بنداءآتِ أسرابِ الطيُورِ المُهاجرةِ
وَهي تَجوبُ السَّماءَ بحركةٍ لا تَهدأ.
مِنْ صَفاءِ لَيـالها المُرصعةِ بالنَّجومِ المُتلألئَةِ
وَقَمرها الذي يُبهرُ البَصر
وَحَيـّرَ بأسرارهِ البَشر
مِنْ بيوتِ العَوزِ وَالجودِ
وَالقصَبِ وَالبردي وَالطين
بِدَواوينها وَمَجالِسِها العامِرةِ
بالقصَصِ وَالحَكايات
وبالأساطيرِ والأسرار
وَهي تُحكى بسردٍ متقنٍ مَعجونٍ
بدموعِ الإملاقِ
وَالوَجعِ وَالحِرمان
بصبرٍ وأَنـاةٍ
وَوَرَعٍ وَإيمان
فِي هذهِ الأجواءِ
سُمـعَ صَوتُ صَرخةِ الوِلادةِ
مُعلناً مَجيء غـازي
لَقـد غـزا القلوب
طِفلٌ جَميلٌ
واسِعُ العينينِ
باسمُ الثغرِ
أبيضُ البشرةِ
ليترعرع الصَّـبيُ مُتشبعاً
بروحِ الطَّبيعةِ والطَّيبةِ ،
مُبكراً لبسَ – الرستا – كِساءَ النور *
وَتَعمدَ القلبُ الصَّغيرُ بمياهِ يَردنا **
وباتَ يَنهلُ الحُبَ
وَفضائلَ الأَخلاقِ
وَأصولَ وَفنونَ العَملِ
لأبرزِ المِهَنِ وأنقـاها
ومِنْ يَنابيعِها العَذبَةِ الصَّافيَة
أتقنَ ، وبِجدارةٍ عـدةَ مهـنٍ
حدادةٍ وَنجارةً وَصياغَة!
وَاختارَ وبرغبتهِ مِنْ بَينها
(الصياغة)
صياغة الحُليِّ الذَّهبيَّةِ وَالفضيَّةِ
فانغرست فنونها بدمهِ
وعاشَ فِي حُبِها
وَأبدعَ فِي صَنعَتِه
وَصَنَعَ بمهارةٍ وَ إتقان
مِن الإِبريزِ وَ اللُّـجَينِ ***
آلافـاً لا تُعـدُّ مِنْ الحُليِّ البَهيَّةِ
خَواتمَ وَأقراطٍ وسلاسل
خَلاخِلَ وَحجولٍ ذهبيّـة
خزامةٍ ووَردة وجلّاب
أساورَ ومَلاوي وَقَلائـِد ،غايةً في الإتقان
عناقيـد وأفنان،
وَ الَآلاف مِن التُّحفِ الفُضيَّةِ الفَنيَّةِ
المَنقوشةِ برسوماتٍ دقيقةٍ بديعة
وَالمُطعمةِ بالميناءِ الزرقاءِ أو السوداء
2
فِي بَواكيرَ شبابـه،
قَررَ البحثَ عَن أَمَلٍ وَعَنْ عَمـل
للخلاصِ مِن براثـنِ الفاقةِ وَالجهل
شَدَّ الرحالَ،
وَركبَ الصِعابَ
كالفارسِ الباسلِ
بَعدَ أن أَيقنَ أنهُ
أتقَنَ فَنَّ المِهنةِ
وَ أَفانينِ وقوانين العَمل،
فَالمِهنَةُ بيدِ الفَنان
كالصَّولجانِ بيدِ السَّلطان،
هبَ ساعياً بِجدٍ بَينَ المُدنِ
يَنشدُ الأملَ
بأرضٍ خِصبةٍ للعمل
طافَ فِي أرضِ السَّواد
لِطلبِ الرزقِ الحَلال
تُرافقهُ ثِقتهُ بنفسهِ
وَخِبرتهُ وَعدةُ العَملِ
– المِطرقةُ وَالسِّندان-
بَغداد – دار السلام –
كانَتْ أول المَحطاتِ، أجمـل المحطّـات؛
افتتحَ لهُ مَحلاً – دكاناً- للعملِ.
وَتَنقل بَينَ أَبرزِ وأَهمِ الأسواقِ
– باب الشيخ ، سُوق الفحامة شارع النهر ، شارع الرشيد ، خَان الشابندر –
وَكُلَّما حَلَّتْ نائبةٌ فِي البلاد
وَحَلَّ الركودِ وَ سادَ الكَساد
وَ ماجَتْ وَ اضطربتْ العِباد
فَتش للعيشِ عَنْ عُشٍ جَديد
عَنْ عيشٍ رَغيـد….
مِعطاءٌ واسِعةٌ أرضُ السوادِ
كالمَيدانِ للفارسِ الصَّندِيد.
تعَلمَ بنفسهِ – فك الخط –
القراءةَ والكتابة؛
فأجادَ الرسمَ عَلَى المَعادن
وَتَطعيمها بالمِيناء الملّـونـة
فِي حافظةِ رأسِهِ ،عَدَدٌ لا يُحصى
مِن قَصصِ النوائبِ، الطرائفِ وَالمواقف
عَنْ حياةِ الناسِ وَالأسواق
وَعنْ تَاريخِ حَوادثِ وَمَآسي العراق،
فِيها الكثيرُ مِن الدروسِ وَالعِبـَرِ،
كانَ يجيدُ فَنَّ السَّردِ
وَبعينِ البَصيرِ الفَطن
يَستحضرُ الحَدثَ
لربطهِ بالواقعِ الجديد!
3
كَما اللَّيلُ وَالنَّهارُ
بَينَ مدٍ وجزرٍ
تَقلبتْ بهِ الأَحوال
فَذاقَ وَتَنعمَ بِحَلوها
وَتَجلدَ بالحلمِ وَرباطةِ الجأشِ
في مرّها ومرارتها
وَمِنْ قَسوةِ سِنِينَ شَظفَ العَيشِ
وَأهوالِ الحروبِ والكوارثِ
لمْ يَسرقْ بَريقُ التِّبرِ
وَمَباهِجِ الحَياةِ المُغريَةِ
وَهَجِ الإِيمان مِنْ قَلبهِ،
وَلـمْ يَتَزَعزَعْ عَهدُ – الكشطا- فِي خافقهِ
مُذْ – أصطبغَ – وتَعمدَ بمياه يردنا
وَهو صَبي.
أَحَبَ زوجتهُ وأخلصَ لها
فَبادلتهُ الحُبَّ وَالوفاء وَمَنحتـهُ
أولاداً وبنات؛ فكان بهم فَخورا،
وَكانوا لـهُ عونا
بَقـى ذلكَ القَلبُ المُفعمُ بالنُبلِ وَالودِّ
وَذات اليدِ المَبسوطة للعَطاءِ
وَالجودِ والسخاءِ والإِخاء.
حَتى استقرَّ بهِ المقامُ
عام 1968 فِي مَدينة العزيزيَّة،
فطابَ لهُ العيش فيها
وَبَقيَ يَعملُ بنفسِ الهِمةِ، وبذاتِ المِهنةِ
حَتى وافَتهُ المَنيَّة،
وهوَ بَينَ اَهلهِ وأحبته
لِيودِّعَ الحَياةَ الدُّنيا
بقلبٍ مُفعمٍ بالورعِ وَالتقوى
تُضيءُ مُحَياه ابتسامةُ رضـا
وَينـيـرُ قلبـه إيمانٌ بأن ليسَ
هناك مِنْ مُخلّـد؛
وَيُلبّسُ الجَسدُ الطاهِرُ
رداءَ النورِ الأبيض؛ حيثُ
يَعلو هامتـهُ أكليل السَرمَدِ وَالخلود،
إكليلٌ مِنْ شُجيرةِ الآس ****
التي غَرسَها بيديه
فِي حَديقةِ دارهِ.
غادرتنا نَفسهُ الزكيَّة
عائدةً إلى جوار الحياةِ الأزلية
إلى عالمِ النورِ – آلما أد نهورا –
مُشيعاً بدعواتِ الأَهلِ وَالأحبـةِ
شُيّعَ مِن دارهِ العامرةِ فِي – مَدينة العزيزيَّة –
إلى مثـواه حيثُ يَرقـد (الصابئة المندائيين) رَقدتهم الأبديّة فِي{أبو غريب}.
ولـدَ أَبـي غَازي رَمضان عَبد الأَمير الأَميريِّ في ريفِ – الكحلاء/ العمارة – عام (1907)
وَ توفي بتاريخ الأَول مِنْ تشرين الأَول/ اكتوبر(1987)
لِروحهِ العَذبةِ الرَّحمة والسَّلام فِي عالمِ الأَنوار،
وَلَنا مِنـهُ أَجمل الذِّكريات وَأَطيب الأَوقات
كُتبت في مالمو/ مَملكة السويد بتاريخ 27 نيسان/أبريل 2020
وَنَحنُ فِي أَيامِ حصارِ جائحة فيروس كورونا.
تعريف لبعض المفردات التي وردت في النص
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الرستا: هي اللباس أَو الحلية الدينية (البيضاء)التي يلبسها جَميع (الصابئة المندائيين) أثناء إجراء الطقوس الدينية.
** يردنا: الماء الجاري
*** الإِبريزِ وَ اللُّـجَينِ : الذَهب وَالفُضة
**** إكليلٌ مِنْ شُجيرةِ الآس: غُص أخضر طري مِن شجيرةِ (الآس) يعمل منه (إكليل)يُعد في معتقداتِ (الصابئة المندائيين) رمزاً للنور، فيعتمدونه بعددٍ من طقوسهم الدينية.
إ