مهن الحقد
تعرف المهن على أنها مجموع الأعمال التي يقوم بها الأفراد شريطة التوفر على قدر كاف من المعارف والتدريبات والمهارات في مجال ما. لكن، هل خطر ببالنا يوما وجود مهن متعددة ومغايرة للمهن والوظائف المعروفة واليومية التي نعرفها؟ هل فكرنا في تصنيف تلك المهن وتحليلها، ونقد انعكاساتها للتقليص منها، والحد من أثرها السلبي على الأفراد والمحيط؟ ماهي تلك المهن أولا؟ إنها، بصعوبة بالغة في التسمية، “مهن الحقد”…
يكتسب الحقد صفة المهنة عندما يصير طقسا يوميا معتادا، وينشأ في سياقات محددة، ويقوم على عمليات إجرائية منظمة، ويستند على أطر مرجعية نفسية/داخلية مرتبة؛ مرتبة جراء ارتباكها ولا انتظامها. وقد يتفرع هذا “الحقد الممهنن” إلى فروع متعددة ومتجددة، ويأخذ تجليات وتمظهرات كثيرة، ليصبح مجموعة من المهن المتداخلة والمتناسقة (من شدة لا تناسقها)، منبعها داخل أو عمق الإنسان، وغايته تدمير والانتقام من مكونات خارجية: المحيط الخارجي بأحاسيسه الجميلة، الأشخاص، الطبيعة، إلخ. ضحايا “الحقد الممهنن”، في الغالب، أناس منطقيون في تصوراتهم ومطالبهم، أو ملتزمون في أداء مهامهم حد التفوق ووفق ما هو متوفر من الظروف والإمكانيات، أو متميزون معرفيا وثقافيا وأكاديميا. إنهم ببساطة أناس ناجحون، في مواجهة “حقد ممهنن” (أي صار مهنة نفسية/داخلية) ينفث سمومه وسهامه، آخرون فاشلون مهنيا ومعرفيا وثقافيا ونفسيا واجتماعيا وعلائقيا وإبداعيا… سلاحهم الوحيد الحقد المطبق، وذلك بتصيد فرص الانتقام في ماء (عمل) غير عاكر، وتبخيس الأشياء والبحث، بكل القوى اللاعقلية واللاشعورية، عن الهفوات والأخطاء، حتى الافتراضية.
الممارس لمهن الحقد قد يكون إنسانا عاديا ذو ثقافة بسيطة أو منعدمة، وذلك مقبول إذا استحضرنا فطرة الإنسان المجبولة على الغيرة والمنافسة والضغينة والحقد والتشفي، في إطار “القصور الإنساني” المشروع. لكن الأخطر، هو عندما تتم مزولة “مهن الحقد” من طرف إنسان مثقف وفي منصب مسؤولية. الدافع الأساسي لوصف الطرح الثاني بالخطورة هو عجز المعطى الثقافي والمعرفي والإحساس بالمسؤولية من درء تسلل “مهن الحقد” إلى دواخل الفرد، إذا افترضنا أنه لم يكن ممارسا لها، قبل شغل وظيفة ما. بالإضافة إلى فشل الرقابة الثقافية والمعرفية والإحساس بالمسؤولية من استئصال الحقد والضغينة والبغض والانتقام من دواخله ذلك الشخص، إذا افترضنا أنه ولج وظيفة ما، بعدة وترسانة مسبقة من مهن الحقد. أليست الثقافة والمعرفة والإحساس بالمسؤولية آليات تطهير واجتثاث كل ما هو “سلبي” في الدواخل/الأعماق الذاتية النفسية للإنسان (كالحقد)، ليحل محله كل ما هو “إيجابي” مثل التعاون والاعتراف والإيثار وتقدير الظروف والتفهم والتعاطف وحب الخير وإعمال الضمير والاتزان النفسي والخلقي والمهني؟
في المهن العادية والمعروفة، يعد الاحتراف والمهارة والخبرة والابتكار والكفاءة العالية ميزات إيجابية تؤدي إلى النجاح الخارق للفرد الذي يمتلكها. لكن في “مهن الحقد”، فالاحتراف والمهارة وغيرها من الميزات السالفة ينتج عنها نتائج سلبية على أداء الأفراد والمجتمع/المحيط المهني، لمفعولها النفسي المدمر والطاقي السلبي والتفاعلي المثبط والعلائقي المشذر/المبلقن، والأدائي المخفض/المنكص. فكلما كان الفرد الذي يشغل وظيفة/مسؤولية ما محترفا في مهن الحقد، كلما توترت الأجواء العامة، وغابت الثقة في الوسط المهني، وتولدت الطاقة الدفاعية السلبية، وانصرفت الجهود إلى صراعات وعداوة مجانية، بدل البذل والعطاء والإنتاج والنجاح الجماعي.
الإقبال على “مهن الحقد” من طرف الموظفين/المسؤولين قد يكون مرتبطا، خاصة في المدن الصغيرة، بالخلفيات الإثنية والقبلية. لذلك فلا غرابة أن تجد موظفا مسؤولا، فاته قطار علوم التربية ودرس “مشترك الإنسانية” المناوئين لكل أشكال التعصب العرقي/الإثني والقبلي/العشائري والجغرافي/المجالي، يزاول، إلى جانب مهنته الأصلية، مهنا داخلية ونفسية اسمها “مهن الحقد”؛ مهن الحقد ضد الآخر المختلف، انطلاقا من تصور أولي خاطئ مبني على الكبرياء والغرور والاعتقاد بالتفوق على الآخر المغاير وضرورة ازدراءه. أليست مزاولة “مهن الحقد”، بناء على مشاعر منبعها العشائرية والقبلية والإثنية، من طرف أشخاص مسؤولين ومثقفين نفيا/سجنا احتياطيا للثقافة والمعرفة التي تلقوها، وازدراء فاحشا ومعلنا على (ثقل) المسؤولية التي يتحملونها؟
تتركز مكاتب وفضاءات وعدة واستراتيجيات “مهن الحقد” في داخل (باطن/عمق) ونفس الفرد. كما تأخذ “مهن الحقد” شكل ملفات فرعية، منها ما هو حاد وشديد في مفعولها السلبي كالانتقام والبهتان والعنصرية والحيف والتمييز والتزوير، ومنها ما هو قليل التأثير كالغيبة والنميمة واللمز والغمز والإشاعة. والغاية الكبرى لمهن الحقد هي إلحاق الضرر. وفي حالة عدم الوصول إلى ذلك، فالضرر يعد ملحوقا، لأن نية إلحاقه، أبلغ من وقوعه. كما تتميز تلك المكاتب والفضاءات النفسية/الداخلية بخاصيات الاضطراب والجزع والفوضى والاختلال والأزمة والإلتجاج، لكون نفسية مزاول “مهن الحقد” هشة ضعيفة سقيمة نظرا للجوئها، في الغالب، إلى اعتماد آليات وسائل غير إنسانية (الانتقام والبخس مثلا)، بدل الصفاء والتواضع والاتزان والتعقل وإعمال الضمير والانفتاح والاعتراف والتخلي عن كل تجليات العرقية والقبلية والنمطية.
خاتمة لمقدمة منشودة:
يا محترفي “مهن الحقد”، طالعوا كتب الأدب والفلسفة. سطروا بالأخضر المنفتح على عبارات الجمال والقيم والصفاء والتسامح والتعايش والاختلاف، واحفظوها جيدا وانثروها على قلبكم وعلى قلوب من حولكم. اجعلوا تلك العبارات الخضراء مفعولات وطقوس يومية. أثناء المطالعة، صنفوا كلمات وعبارات الحقد والانتقام والبغض والحسد ضمن خانة “اللامفعولات” في حياتكم النفسية والاجتماعية والمهنية الشعورية واللاشعورية اليومية…لكي لا تكونوا من مؤسسي ورواد مهن غير مرغوبة فيها: “مهن الحقد” التي تنخر داخل/عمق الفرد، وترهق النفس والقلب والذهن، ولا تسقط “شظاياها النفسية” إلا على ممارسها ومعتنق ديداكتيكها وبيداغوجياتها وأطرها المرجعية العامة (الحقد) وتدابيرها الإجرائية الخاصة (الانتقام، التلطيخ، البخس…).
حمزة الشافعي
كاتب
تنغير/المغرب