مقامات الحريري في واشنطن !
زيد الحلي
دائما يطوف عليّ ، خاطر، ويظل يدور ، حتى أعلن عن يأسي في معرفة أسراره وعمق دهاليزه ، وهذا الخاطر لايأتيني يومياً إلاّ اذا وقع ناظري على لوحة تشكيلية او رسم من ماضي العرب القديم او منمنمة ابتدعتها أنامل عراقية قبل 700 عام اوأكثر ، لا سيّما ان كانت تلك اللوحة او ذاك الرسم جاء على وفق تشكيل لوني متقن اويتطرق لموضوع فيه حكاية تراثية او موقفاً يحدد واقعة تاريخية ، فوقتذاك اسرح الى عالم من التساؤل المفعم بالضبابية : ترى كيف استطاع الإنسان العربي العاشق للصحراء ورمالها وبقول الشعر والمفتون بالسيف والقوة والكرم ان يمتلك ذلك الاحساس الفطري بالرسم وامتلاك ناصية قيادة موهبته الفنية بتلك العذوبة التي أذهلت المتخصصين بعلم الرسم والتلوين والمنمنمات الى الحد الذي دعا ادارات أشهر المتاحف العالمية ، الى تخصيص قاعات بأسم ( فن التصويرعند العرب ) حظيت بأندهاش طلاب ودارسي الفن التشكيلي العالميين..
لقد طالعتُ مؤخرا مجلدا انيقا ، كان ضيفاً لدى مكتبة أحد الاصدقاء ، لم يتصفحه الصديق منذ ان أهداه له الاستاذان المرحومان د. عيسى السلمان والصحفي سليم طه التكريتي بأعتبرهما مترجمين لهذا المجلد الأنيق الذي ألفه الامريكي ” ريتشارد اتنغهاوزن” رئيس محافظي فن الشرق الأدنى الجديد في متحف ( فرين للفن ) في واشنطن ..
مجلد بطباعة راقية ، آية في الدهشة ، ضم عشرات الرسومات والمنمنمات التي تعجز التقنيات الحديثة الإتيان بجزء من مثيلاتها ، لاسيما رسومات مقامات الحريري في فصولها الخمسين ،
وقد وثق المؤلف حديثه عن فن التصوير والرسم عند العرب ، بشواهد من اللوحات ، تجعل المرء يقف أزاءها بأحترام وتجل ، و قد فاض المترجمان في نقل رؤية المؤلف ، وقدما تفسيرات موفقة ، اضافت للباحثين في تاريخ فن التصوير العربي ابوابا ، يمكن لهم الدخول الى معتركات هذا الفن الذي ظل بعيدا عن الدارسين والنقاد العرب ..
وهنا ينبغي التأكيد بالقول انه بأمكان المتابع والدارس لفن الرسم ، ان يلاحظ الرقي والدقة التي رافقت رسومات مقامات الحريري في فصولها الخمسين ، وهي تدلل على سعة أفق فنية بحاجة لدراسات تخصصية لفهم طرائق وظروف وألية رسمها ، فهي بأعتقادي لازالت بكراً لم تجد من يحيط بها إحاطة فنية ، وما كُتب عنها لا زال حبة رمل في صحراء البحث الاكاديمي .. وهي دعوة للباحث العراقي ان يدخل هذا المضمار لاسيّما ان المقامات هي عراقية ، تتحدث عن الحياة البغدادية في القرون الوسطى وهي غنية بالاحداث والصور المفعمة بالحياة ..
مقامات الحريري … مأثرة عراقية كبيرة … جدا!