الدكتور زاحم محمد الشمري
يرتبط التاريخ الانساني القديم بقدم وعراقة عدد من المدن العربية في منطقة الشرق الاوسط، تحديدا في بلاد ما بين النهرين ووادي النيل وبلاد الشام التي استوطنتها شعوبا من اعراق مختلفة عُرفت بقوة الاسر الحاكمة في حينها واستعدادها للحداثة والتطور والابتكار رغم الحياة البدائية التي كانوا يعيشونها وقساوة الظروف الطبيعية التي كانوا يواجهونها في تلك الفترات الزمنية الموغلة في القدم.
ونتيجة لاصرار الانسان على تحدي الطبيعة القاسية من خلال العمل الدؤوب في تهذيب حياته الى ما هو افضل وارقى ظهرت مدن تاريخية عديدة يشار لها بالبنان في وادي الرافدين ووادي النيل وبلاد الشام ارتبط بتاريخها الوجود الانساني العريق، ومن اهم هذه المدن العريقة كانت بغداد والقاهرة ودمشق التي مثلت الثقل الانساني السياسي والاقتصادي والثقافي وتوازن القوى بين الشرق والغرب على مر تاريخ الشرق الاوسط القديم وبدايات تاريخه الحديث .
لكن هذه المدن بدات تتلاشى تدريجيا ويأفل نجمها منذ بداية القرون المتاخرة مرورا بالصراع العربي الصهيوني بعد ان سيطرت عليها عوائل وجماعات حاكمة اهتمت كثيرا بحماية كرسي الحكم وسخرت الاموال لخدمته من خلال شراء الذمم وتصفية الخصوم بوحشية، وحجمت في ذات الوقت الحراك السياسي والاقتصادي والثقافي المدني، واهملت التعليم والبحث العلمي، وافسدت القضاء، وحيدت الاهتمام بفئآت الشباب لتنتج مجتمعات متخلفة فكريا وثقافيا ومتناحرة دينيا وعقائديا.
وحين كانت بغداد والقاهرة ودمشق رمزا من رموز التطور الحضاري والتقدم العلمي والثقافي الاسلامي في منطقة الشرق الاوسط ولها ثقلها السياسي المحلي والاقليمي والدولي، كانت هناك قبائل عربية متناثرة في قلب صحراء الجزيرة العربية تعيش الحياة البدوية البدائية وتطمح ان يكون لها شان تاريخي وحضور سياسي واقتصادي وثقافي كما للمدن العربية العريقة في بلاد الرافدين والشام ومصر .
وفي خضم سيطرة الدكتاتوريات المقيتة بصفاتها السياسية المعروفة على البلدان العربية التي تتمتع بموارد اقتصادية وبشرية كثيرة وكبيرة وتحجيمها لكل انواع الحراك السياسي المدني والتداول السلمي للسلطة ووأد الحداثة والتطور العلمي والتكنولوجي في مهد الحضارة القديمة وانتشار الفساد والمحسبوية والمنسوبية، ظهرت مدن حديثة من بين الكثبان الرملية لصحراء الجزيرة العربية لتعلن بقوة عن وجودها الانساني وحراكها السياسي والاقتصادي والثقافي وبناءها الحضاري الحديث الذي يجمع بين اصالة الفكر وحداثة التكوين، والذي يضاهي او يزيد على مدن العالم الاكثر حداثة وتطورا، واستطاعت ان تسحب البساط من تحت اقدام العواصم القديمة تاركة اياها مضرجة بدماء الصراعات السياسية الداخلية العرقية والقومية والطائفية لتتسلق سلم القيادة والتاثير في صنع القرار العربي والدولي سواء على مستوى التحالفات الدولية او التاثير الاقتصادي والثقافي المحلي والاقليمي والدولي.
وعليه يعزو الكثير من المفكرين والمهتمين بالشأن التاريخي والسياسي والاقتصادي والثقافي العربي سبب الانحدار والتراجع السياسي والاقتصادي والثقافي للمدن التاريخية وعلو كعب القبائل العربية البدوية في تحويل الصحراء الى واحة خضراء وتاسيس حضارة حديثة بين الكثبان الرملية يشار لها بالبنان الى الانتماء الوطني للارض واصالة ورجاحة عقل البدوي شيخ القبيلة وفكره النير في قراءة الاحداث بشكلها الصحيح رغم كل التحديات التي يشهدها العالم الحديث والتصرف على اساس الربح والخسارة في مضمار سباق الابل … يقابله غياب او تغييب لدور رجال الدولة والمثقفين والمفكرين في العواصم القديمة في بناء الدولة العصرية التي تجمع بين الاصالة التاريخية والتكوين الحديث لتؤمن مستقبل مشرق لأجيالها ولتضاهي في بناءها الحضاري حضارة مدن الصحراء على اقل تقدير.