مدارسُ “الفرير” … على شرف “الماعت”
يقول المحكّمون: “إن قلبَ الرجل بالحقيقة قد وُزِن، وروحَه وقفت شاهدةً عليه، وقد وُجِد لا تشوبه شائبةُ شرٍّ، ولم يأتِ بالأذى في أعماله، ولم ينطق بلسان السوء عندما كان على الأرض، ووجد صادقًا عند وضعه على الميزان العظيم.” هنا يُمنح المتوفَى لقب: “صادق القول”، التي تكافئ عندنا اليوم عبارة: “المغفور له” أو “المرحوم”. فيُعيدون تركيب قلبه في جسمه المحنّط، ويعطونه ملابسَ بيضاء مشرقةً، ويدخل الفردوسَ من فوره ويلتحق بزوجته وأسرته، ويُخصص له خدمٌ وحاشية يسمونهم “أوجيبتي” أي المُجيبين المطالب.
ما سبق كان خاتمة طقس المحاكمة الأوزورية التي يخضعُ لها المتوفى في مصر القديمة بعدما تجري محاسبته على جميع ما صنع أثناء حياته على الأرض من حسنات أو آثام. فإن كان صالحًا ينالُ البعث في الحياة، وإن كان آثمًا يلتهم قلبَه وحشٌ اسمه “عمعموت” له رأس تمساح، وجسد أسد وفرس نهر، كما تخبرنا الميثولوجيا المصرية القديمة في كتاب “الخروج إلى النهار” الشهير بكتاب الموتى.
بدعوة طيبة من مسيو “هاني مينا” مدير مدرسة “سان بول” في شبرا، سافرتُ إلى الإسكندرية لإلقاء محاضرة للمعلمين الجدد بمدارس الفرير العريقة، التي تخرج فيها رموزٌ مصرية عديدة مثل “نجيب الريحاني”، “مصطفى كامل”، “إسماعيل صدقي”، “مصطفى فهمي باشا”، “إبراهيم محلب”، “حسين السيد”، “رشدي أباظه”، أنور وجدي”، “عدلي يكن”، “عصمت عبد المجيد”، وغيرهم. المكان: مدرسة “سان مارك” Collège Saint Marc بالشاطبي، أقدم وأعرق وأكبر مدرسة في مصر. ثم بناؤها عام ١٩٢٨ في عهد الملك “فؤاد الأول” على مساحة تزيد عن ٣٥ ألف متر مربع، وتضم مراحل التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي. المحاضرة: “قانون الماعت” للأخلاق في مصر القديمة، المدونة في الفصل ١٢٥ من (كتاب الموتى)، أقدم كتاب في التاريخ، ويضمُّ مجموعة من الوثائق الدينية والنصوص الجنائزية لتكون دليلاً للميت في رحلته إلى العالم الآخر، ولا تزال نسخة منه محفوظة في المتحف البريطاني. وأما “ماعت” فهي ربَّةُ الحقيقة والعدالة والنظام والانسجام في الكون. وكانت على هيئة امرأة جميلة تضعُ ريشة على رأسها: ريشة الضمير. يقفُ المتوفّى يُقرُّ باثنين وأربعين اعترافًا ثبوتيًّا: (كنتُ – فعلتُ )، واثنين وأربعين اعترافًا إنكاريًّا: (لم أكن – لم أفعل ). ثم يوضع قلبُ المتوفى في كفّة ميزان، وفي الأخرى توضع ريشة ماعت، فإن ثقلُ القلب، كان محملا بالآثام وانتهى أمره بالعذاب الأبدي، وإن خفَّ كان طاهرًا متحررا من الخطايا، وكان جزاؤه الفردوس والفقرة الأولى في صدر المقال.
من الاعترافات الثبوتية: أنا أشرّف الفضيلة. أنا أحبُّ جميع الناس. أنا أقدّر الجميل. أنا أنشرُ السلام. أنا أحترام الممتلكات والميراث. أنا أقدس الحياة. أنا أحيا في الحق. أنا أحترم جميع المعتقدات. أنا أتكلم بصدق وأحفظ الحقوق. أنا أحسِن الظن. أنا أكرّم الحيوان. أنا يُعتمد عليّ. أنا أتكتم شؤوني الخاصة. أنا أذكر محاسن الآخرين. أنا أتوازن في مشاعري. أنا أُعلي شأن العفّة. أنا أنشر الفرح. أنا أبذل قصارى جهدي في العمل. أنا أتواصل بود مع الناس. أنا أُنصت للآراء المعارضة. أنا أحتج على العبثية والسخرية والتنمّر. أنا أتسامح. أنا أعطف. أنا أحترم الآخرين ولا أردُّ سائلا. أنا أتّبع حدسي الداخلي. أنا أتخاطب بوعي. أنا أعمل الخير وأتصدّق على الفقراء. أنا أحافظ على المياه ولا ألوثها. أنا أتكلم بحسن نية. أنا أكوّن نفسي بكرامة. أنا أترقى من خلال قدراتي الفردية.
ومن الاعترافات الإنكارية: لم اقتل، ولم أُحرّض على القتل. لم أتسبب في الإرهاب. لم أكن سببًا في بؤس إنسان. لم أعذب حيوانًا، ولا تسببتُ في شقاء نبات بأن نسيت أن أسقيه. لم أتسبب في دموع إنسان. لم أظلم. لم أسرق. لم أحرم إنسانًا من حقّ. لم استدعِ شاهد زور. لم أجرح شخصًا بالكلمات. لم أخدع ولم أتماكر. لم أحتقر أحدًا. لم أتنصّت على أحد. لم أطمس الحقيقة. لم أحكم على إنسان في تعجّل وقسوة. لم أدنّس الأماكن المقدسة. لم أتسبب فى إتلاف يتعيّن إصلاحُه جهدُ عمّال أو سجناء. لم أغضب دون سبب وجيه. لم أهدر المياه الجارية. لم ألوّث مياه النهر أو تراب الأرض. لم اتخذ اسم الله هزوًا. لم أطمع في ممتلكات جاري. لم أتصرف بوقاحة. لم أكن مغرورًا ولا تصرفت بغطرسة. لم أُخلّ بالتزاماتي اليومية. أطعتُ القانون ولم أرتكب الخيانة.
كان هذا “قانون الأخلاق” الرفيع الذي عرفه أجدادنُا قبل نزول الأديان بآلاف السنين، والذي أنشأ حضارة مصر العظيمة، أعرق وأرقى حضارات الأرض.