علوان السلمان
الكتابة..صيرورة تحقق فيها الدوال حضورها من حيث الاحالة الفكرية والفنية وتوثيق انسانية المنتج المبدع بخياله ورؤاه عبر اللفظة المشحونة بدلالات تفرض التأويل واستنطاق الواقع باستجابته للحظة المخزونة في الذاكرة لتحقيق فعل استفزازي متميز بوعيه وتحريضه من اجل خلق منظومة حضارية عبر سرد يعكس(التجسيد الاعلى للتداخل النصي والنوعي الذي يعطي تنوع الملفوظات حيزا واسعا للعمل..) على حد تعبير تودوروف.. ورواية(متحف في منتصف الليل)التي نسجتها انامل منتجها باسم القطراني واسهمت دار تموز في نشرها وانتشارها/2013..بمشاهدها الرقمية التي تستدعي اسهام المتلقي في مليء رقميتها بسياق لفظي جمالي واستعاري..والتي تميزت بمسحة غرائبية نتجت من رؤيا عميقة تكشف عن ذاكرة مزدحمة بالسرد التجريبي الذي طغى فيه الغرائبي على الواقعي..اذ البحث عن الذات ابتداء من العنوان الذي حمل روح التناص ورواية سليمان رشدي (طفل منتصف الليل) الفائزة بجائزة بوكر الانجليزية..ورواية احمد خالد توفيق(بعد منتصف الليل)و(شمس منتصف الليل) للدكتور نبيل فاروق وهي في الخيال العلمي ورواية (شمس منتصف الليل) للدكتورة اسماء الطناني والتي تحدثت عن ثورة 25 يناير في مصر.. والذي تتشكل بنيته التركيبية من جملة اسمية بثلاث فونيمات مضافة..وهو يختزل مدار السرد ويشكل مرتكزه ويحقق ابعاد اشتغاله.. بوصفه عتبة نصية مشحونة بطاقة دلالية تسهم في الكشف عن المداليل المتنية..فضلا عن انه يشير الى بعد توثيقي فعلي باشكاله السياسية والاجتماعية والتاريخية والثقافية ومنظومة معرفية تجمع ما بين الواقعي والتخييلي الغرائبي..الذي كشفت عنه واجهة الغلاف عبر خلفيته السوداوية التي توسطتها لوحة تدلل بكل محتوياتها على انتمائها السريالي..اذ الشباك المتكيء على احدى زواياه وقد اعتلاها غراب دلالة الشؤم وهو يقف على يمين رجل خاشع امام البحر رمز الحياة المقلوبة من خلال دلالة الميداليا الكروية الرامزة والتي فرشت روحها على ظهره..وقد اعتلى راسه مصباح مشع بضوء خافت رمز الامل..اما الواجهة الخلفية فقد سيطر عليها اللون الرمادي بشقيه الغامق والفاتح الذي ملأ نصف مساحته النص الصامت بنقاطه..ونصف اللوحة الامامية منحصرا في الغراب والرجل الصامت دلالة الازمة والاغتراب.. اما عتبة الاهداء..(الى تلك الارواح اللائبة بين وجع الذكريات وذكريات الوجع..الى تلك الحماقات التي ارتكبها باسم الكتابة..الى زوايا الروح التي اطمح ان اضيئها فازداد خيبة.. الى كل من يهمه الاضطراب..اهدي طريقتي الخاصة..)..ص7..فهي تكشف عن غربة محققة للاضطراب والوجع الذاتي والاخر.. هذا يعني ان الرواية تعتمد صناعة الافكار بوجوه متعددة(تأملية/واقعية/عجائبية) تجلت في التخيلات السردية باتخاذ الاحلام والرؤى سبيلا للبناء الفني مع اعتماد المفارقة..عبرلغة شعرية حولت الحكي الى رؤيا.. (لما عاد الى غرفته خطرت له فكرة ربما تعينه على تفكيك طلاسم ذلك اللغز الغريب..انتظر برهة ليسمع الاصوات نفسها..خرج على مهل يمشي على رؤوس اصابعه..ولم يعمد الى فتح الباب هذه المرة بل اكتفى بالنظر من خلال فتحة القفل فرأى امرا عجيبا يحدث..كائنات بحجم قبضة اليد تتسلل من بين طيات الكتب المرصوفة في المكتبة..وحين تصطدم ببعضها تحدث هذه الضجة والجلبة..اعداد لا حصر لها على هيئة بشر وحيوانات تذوب في المجهول وتخلف هلعا في دواخله..صعق على اثره وعندما فتح عينه وجد نفسه مدثرا في فراشه بعد ان عثرت عليه زوجته في غيبوبته تلك جثة هامدة..تجمع الاقارب والجيران..دلكوا جسده البارد..صبوا على وجهه الماء فعاد النبض الى عروقه غير قادر على البوح لاحد ما عن سر ليلة الهروب تلك والتي لن يصدقه احد ولو اقسم الايمان الغليظة حول حقيقة ما رآه فيها..) ص12.. فالنص يخط مساره الغرائبي الذي هو اسلوب تخييلي يعتمد فيه المؤلف الى معاينة الواقع بعين متجاوزة تنسج عوالم مغرقة بالتهويمات ومستعينة بانزياحات اللغة وايحاءاتها وتقنياتها لاختراق المألوف..مع احتفاء بالمكان الحاضنة لاجواء الاحداث..فضلا عن ان الكاتب يسعى الى استحضار الغرابة في الاحداث والامكنة والشخوص التي تلعب ادوارا متفاوتة في فضاء هلامي يجر المتلقي صوبه للانغماس في النص المتخيل الذي هو قناع للعبث بالواقع بتمادي المخيلة الى اقصى مدياتها وتجاوز العقلي.. فالمشهد الغرائبي الذي يمتزج والواقع الانساني له دلالات جمالية تتبنى فعل التعبير عن مستوى الاستلاب الذي يتعرض له الانسان بتهميش ذاته ووجوده وتعطيل افكاره.. (رويدا انقشعت الغمامة عن عينيها..رأت وجوها مرعبة بالطول والعرض..احدهم برأسين وآخر بثلاث..عيون وانوف باشكال شتى وكانهم قدموا من كوكب اخر..تلاشت الكلمات في قعر فمها المرتعش..احست بالشلل يغزو اطرافها وكأن نهايتها الاكيدة قد حانت..اغمضت عينيها فلم يعد امامها غير انتظار اللحظة الحاسمة..لحظة ما كانت متوقعة حين فتحت عينيها انهال عليها احد الاشباح بضربة ساحقة فلقت راسها نصفين..صرخة مخنوقة ندت عنها وهي تغادر هذا العالم وتهوي في واد سحيق لتنفذ من خلال هلام شفيف نحو عالمها الجديد..هوت صوب القعر البعيد فالتقطها الفراش لاحقا..كابوس لم يصادفها ليلة في العمر..لم تزل مرعوبة..تحسست ما حولها..وسادتها.فراشها..وقرات المعوذتين واستدارت نحو فراش صبيها المنغولي(وعد) كان يغط في نوم عميق..) ص31.. فالنص يقدم رؤى حلمية تعكس لا وعي الراوي السارد ازاء واقعة تكشف عن لوحة تراجيدية تتعدد في ثناياها مستويات الصراع واختلاف الاصوات والشخوص..لذا فالبناء السردي يقدم افكارا وصروحا درامية لتاريخ انساني متداع تميز بالقدرة على تحليل النفسيات وتماسك الافكار وترابط النسج الداخلي للنص.فضلا عن تصوير المشاهد والانتقالات عبر فضاءات متباينة تحقق حضورا في تصوير الفوضى التي تضرب عمق الانسان في ذاته ووجوده ووجدانه عبر الذاكرة التي تلعب دورا محوريا في بناء الاحداث.. (في الايام اللاحقة كانت كوابيسها تتكرر على نحو لا يحتمل..راودتها ثانية احلام الموت والنهايات البائسة..وحين كانت تنظرالى فراش وعد الخالي تشعر بالحاجة لحردان الى جنبها رغم كرهها له..لتحكي له عن كل شيء وربما حتى عن علاقتها بكمال..)ص72 ـ ص73.. فالنص يمتلك قوة استعادة الاحداث المضمرة التي اختزنت في اللاشعور واصبحت مصدرا لانتاج سردية مشحونة بالصور والمواقف التي تمزج بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي عبر واقعية الحدث المشار اليه بلغة المجاز..فضلا عن انه يعالج شكلا من اشكال الاسقاط النفسي مع محاولة اضفاء مسحة من الترميز عليه بتصوير الهواجس الداخلية للشخصية..مع توظيف عنصر الحركة الذي يشكل احد معطيات المستوى الحسي للغة الروائي الذي وظف الاشياء بطريقة موحية اسهمت في تطوير البناء الدرامي للسرد اذ توظيف الجزئيات للكشف عن دخيلة الشخصية وتطوير الحدث مع تركيزه على الجوانب المعتمة في الانسان الذي يبرز كوحدة اساسية..هذا يعني ان النص يسبح بين منطقتين من السرد:اولهما التخييلي وثانيهما الحكي المستثمر للحظات الانسانية بقالب درامي استنطق الزمان والمكان مع اتكاء على انزياحية تاريخية ووثائقية شكلت هيكله العام..مع ارتكاز على راو عليم يبحث في الاماكن بلغة فنية بعيدة عن الاقتحام عبر شخوص نابضة بالحياة..كونها تحمل موقفا ورؤية للوجود.. وبذلك سجلت الرواية حضورها من خلال تسجيلها لتجربة تاريخية عميقة..باتكائها على الشخصية والحدث..فقدمت سردا جمعيا للمكان والانسان والاشياء بتعبير جمالي زينته علامتان مضيئتان:اولهما بنيته الدرامية التي يرتفع منسوبها مع ضمير المتكلم والبوح عبر الذاكرة..وثانيهما اللغة الشاعرة..فضلا عن تنوع تقنيات السرد بتوظيف(الاسترجاع/الحوار بشقيه الذاتي والموضوعي/الحدث/الزمكانية/..)..