متاعب الحياة
ـــــــــــــــــــــــ
في خضم الاحداث الزمانية التي تركت آثارها علينا مما أثرت بشكل مباشر على علاقاتنا مع اهلينا وأحبائنا وأصدقائنا ، إستدركت تماما ماهية الروابط والعلاقات الإجتماعية على حد سواء ، إذ كنت مقيما في بيروت بعد إقامة ثلاث سنوات في الموصل برفقة عائلتي المكونة من زوجتي وطفلين وبعد عودتي إلى البصرة بأشهر قليلة غادرت حيث متطلبات عملي ، ولم يعرف أقاربي وأصدقائي بذلك ، ولكني كنت متواصلا معهم على شبكة السوشل ميديا بشكل يومي ، وعندما يدعونني لحضور مناسبة معهم تراني أستاذا في فن التملص من الحضور معهم لبعد المسافة الا اذا ما كنت في إجازة قصيرة في البصرة ، وحسب متطلبات العمل الحر الذي لايتطلب التمتع بالأجازة لفترة طويلة ، فأنا أعرف متى امنحها لنفسي ، إلا انني شعرت في فترة ما بالإجهاد واصبحت لا أطيق الحديث ولا أكترث لأطرافه مما أثر علي بشكل مباشر على نفسيتي إلا أن الخوف الأكبر هو التأثير على علاقتي مع أهل بيتي .
عدت مساء أحد الأيام قافلا إلى بيتي ، طلبت من زوجتي فنجان قهوة لأحتسيه وانا جالس بجوار النافذة المطلة على الشارع الواصل ما بين ضبية و جونيا ، إذ كنت أسكن الطابق الرابع من العمارة ، أتأمل المارة والمناظر التي أنعم الله بها على تلك المنطقة ، فكرت في ان امنح نفسي إجازة وأنا في قمة الإسترخاء بعد إحتساء القهوة ، ولم لا يكون ذلك ؟ تناولت النقال وأتصلت بأخي الذي لم أره منذ سنة تقريبا على آخر زيارة لي للبصرة ، وبعد التحية أقترحت عليه إرسال الوالدة إلى بيروت لأقضي معها بعض الوقت وبنفس الوقت تكون الوالدة قد قضت فترة راحة وإستجمام بخاصة نحن على ابواب الربيع ، فأعتذر في باديء الأمر من تنفيذ هذا الطلب مؤكدا أن ذلك سيتعبها لايريحها وهي شبه مقعدة وعلى الرغم من أنها بأستطاعتها الحركة لمسافات قصيرة معتمدة على نفسها إلا أنها تستعين بالكرسي المتحرك في أكثر الأحيان ، توسلت إليه وقلت له اعرض الموضوع عليها قبل أن تبت به أنت ، ولا وجود للمشكلة إذا ما أدركت أن هناك معارف كثر في زيارات مستمرة لبيروت ، وما عليك إلا إركابها بالطائرة مستعينا بأحد المعارف وأنا أتولى بعد ذلك الأمر بمجمله ، أنصت لي أخي وقد عقب على كلامي بأنه إذا ما أرتضت الوالدة و وجدت الشخصية المناسبة لرفقتها ، فستكون الوالدة بمطار بيروت بأقرب وقت ، شكرت أخي على جميل تعاونه وصنعه ، ولم تطل الفترة الزمنية إلا وقد إستلمت نداءا من أخي بأن الوالدة ستصل عصر الأحد برفقة إحدى الموظفات التي تعمل معه في الدائرة التي ستزور بيروت مع أحد المجموعات السياحية ، شكرت اخي على جميل صنعه ورحت في تفكير عميق ، إذ سرت في صدري سحابة من الأمل البسام والمشرق نحو أيام ستكون بالتأكيد من أجمل أيام عمري .
وجاء عصر الأحد و وجدت نفسي حاضرا عند بوابة المطار أتأمل وجوه المسافرين لعلي أجد امي ، بينما راح هاجس داخلي يهزني من الداخل ويهز شوقي وأن علي إدراك ساعة الوصول ، وبينما أنا في تلك التقلبات أعلن المذيع الداخلي وصول الطائرة العراقية ، وانتظرت نصف ساعة كانت من أطول الفترات الزمنية التي عصفت بي ، وإذا بأمرأة أربعينة تدفع عربة والدتي ، رميت على أمي التحية مقبلا يدها ورأسها ولم أنس تقديم الشكر لتك الأمرأة ، التي نطقت بكلمات مزاحية بقولها ( هاك .. استلم ) إبتسمت بإبتسامة مجاملة عارضا عليها المساعدة إلا أنها شكرتني لأنها مع مجموعة سياحية ، ورحت أطير بعربة والدتي نحو سيارتي لأقلها إلى البيت بأقل من نصف ساعة ، وطوال الرحلة كانت أمي منفرجة الأسارير وتتلفت يمينا وشمالا معربة عن سعادتها في رؤيتي ورؤية مناظر بيروت الخلابة وكيف لا وهذه زيارتهH الأولى لها ؟
أستقبلتنا زوجتي فرحة بمقدم الزائر الجديد ، كيف لا وهي خالتها التي بالأمس قد أصرت على زواجي بها ؟ ومكثنا أكثر من ساعة في إستراحة الدار لتقوم زوجتي بأعداد طعام العشاء وننعم بليلة سعيدة ، وما أسعدني في تلك اللحظات التي أقشعت كآبتي وتعبي ، وعندما جلست أرضا رحت أنام متوسدا فخذها لأشعر براحة نفسية وكأني طفلها المدلل الصغير ، ورحت أشرح لها برنامجي الذي أعددته لها .. حريصة ( سيدة لبنان ) .. مغارة جعيتا .. جبل لبنان .. القلعة الرومانية .. رحلة بحرية .. طرابلس .. صخرة الروشة .. مناطق اخرى وحسب مايقتضيه الوقت ، وقد لاحظت الفرحة مرتسمة على وجهها داعية الله لي بالصحة والعافية وطولة العمر .
لقد مرت الأيام مسرعة وقد استمتعت مع والدتي بالمناطق التي زرناها بصحبة زوجتي و طفليّ ، وقد شارفت رحلتها على نهايتها ، وكانت دعوتي لها لتناول الغداء في مطعم مخلوف في جونيا الذي يتمتع بموقعه الساحر على البحر ، وقد أعتذرت زوجتي من مرافقتنا لأمور صحية التي ما أنفكت تعاني من مرض الربو .
وصلنا إلى المطعم بحدود الساعة الحادية عشر ، أركنت سيارتي في مرآب قريب بجوار المطعم وأنزلت الكرسي المتحرك وساعدتها في الجلوس عليه ودفعتها إلى صالة المطعم ، وجلسنا على الحافة الأمامية وعلى البحر مباشرة حيث الصخور المحيطة بتلك الحافة بينما راح هر كبير يتودد إلينا ونحن نرقبه ويبدو أنه متآلف مع الزبائن ، أخذت والدتي حسرة وهي تتذكر مدى شغفي و ولعي بالقطط وأنا طفل صغير ، ثم عرجت بكلامها بأسفها من عدم حضور زوجتي وطفليها معنا ، فقلت لها ، لا تفكري بهذا الموضوع ، لأنهم كثيرا ما جاءوا إلى هنا مرات ومرات .
جاء النادل الذي ناولها بقائمة الأطعمة ، ورحت أساعدها في قراءة أسماء الأكلات وأنواعها لأنها نسيت نظارتيها في البيت ، وماهي إلا دقائق حتى جاء بما طلبناه وهممت أفرش منديل الطعام وأضعه في حجرها ورحت اتناول طعامي مرة وأساعدها مرة اخرى وهي تبتسم إبتسامات هادئة جعلتني أنتشي نشوة شعرت وكأنني طال عمري من خلالها ، وشعرت بشعور غريب ، فكلما كانت تمضغ طعامها اشعر وكأن السعادة ارست بمرساها في صدري بينما راح قلبي يمد أذرعه ليحتضنها ويضمها نحوه ، شعور غريب غيّر ملامح مشاعري وصورتي فكانت بأبهى صورها ، وما أن إنتهينا من تناول طعامنا حتى جاء النادل ليزيل بقايا الطعام ومتسائلا عن أي طلب ، فطلبت منه إحضار كوبين من الشاي ، ورحت ، الف منديل الطعام من حجرها ، وأخذت منديلاً رطبا لأمسح به يديها وفمها ، وهي تبتسم فرحة وكأن الفرحة تاهت من بين يديها قائلة ، يابني أن الحياة دائرة مغلقة تأخذ منها بقدر ماتعطي ، فإن كانت هناك هفوات في عطاياك فستحصد نتيجتك مؤطرة بالهفوات ، وإن كنت تعط بقدر مايتطلب منك إعطائه فأعلم أن نتيجتك ستحمل اليك بما لا تحتسبه وتظنه ، اليوم أنا أجني ما زرعت ، بالأمس ياولدي أركبتك العربة لأدفع بك في الأسواق والشوارع ، وعندما أريد إطعامك أضع على صدرك يافطة الطعام وأساعدك بأخذ طعامك وما أن تنتهي حتى أقوم بلف اليافطة من على صدرك حتى لاتختلط بقايا الطعام مع ملابسك وأهم بغسل يديك ، وعندما دخلت المدرسة ، كنت بجانبك لأعلمك رسم الحرف واقرأ لك ما يصعب عليك قراءته ، بالضبط كما تفعله معي الآن ، فأنا اليوم لا أدعو لك إلا بموفور الصحة والسلامة وطولة العمر .
كلماتها أصابة هدفها وقد أصابني ما أصابني من حزن عميق مؤطر بفرح غامر ، الحزن على مافات من عمرها وهي تستذكر أيام عزها الذي إذا ما أطال الله في عمري فإني سأتذكره فيما بعد ، ثم فرحتي على ما أستدركته من رضاها عني ، كان بودي بقاءها معي لفترة أطول ، ولكن رغبتها بالعودة لمنزلها وارتباطها بتلك الأمرأة التي تكفلت بمرافقتها والعائدة الى أرض الوطن ، أحجم رغبتي وعجل من نهاية زيارتها .. وقد كان لها ما أرادت ، حزمنا حقيبتها ولم أنس أن أضع فيها بضعة هدايا لها لإعطائها إلى أخي هناك ، وعند الموعد كنت وجها لوجه مع تلك الإمرأة صاحبة الفضل في زيارة والدتي عند باب المطار لتأخذها في الكرسي المخصص لها ولم انس شكري وامتناني لها وماهي إلا لحظات حتى غابت عن بصري وقد اختلطت صورتها مع جمهور المسافرين .
ولم أشعر حينها إلا ودموعي تتساقط على وجنتي ، وذات يوم استذكرت تلك الرحلة مع صديق لي وحشرجة صوتي اختلطت مع تأوهاتي وكلماتي الحزينة
فقال لي ، إذا كان ذلك يجعلك في سعادة فما الذي يجعلك تحن لتلك الأيام وأنت اليوم عندها وتراها وتجلس معها حيثما تشاء ؟
حينها نظرت إليه بنظرة ثاقبة أعقبتها بنظرة إستعطاف صاحبتها غزارة في الدمع قائلاً ..
ياليت ماتقول كذلك ، لقد تحدثت إليك عن أيام خلت ، أيام مضت لأكثر من ثلاث سنوات ، واليوم لم يبق لي سوى الذكريات .. لقد غادرت أمي الحياة بعد شهر من ذلك اللقاء ولم ادري أن ذلك كان آخر لقاء .