يتصاعد عدد الشهداء في سورية بوتيرة مرعبة واصبحت اعدادهم بلآلاف، بينما تجاوزت اعداد الجرحى والمعتقلين اضعاف هذا الرقم. ولا زالت آلة الموت والعنف والدمار توّغل في الدم السوري وتزداد قوة وشراسة يوما بعد يوم، ولا زال النفق المظلم يزداد طولا وظلاما، واصبح بصيص الأمل يتلاشى شيئا فشيئا وأصبح الخوف والقلق هما الحديث اليومي لكل مواطن سوري لأنه لا يعلم ما يخفيه له الغد من مفاجئات.
الدم الذي يهدر في سورية كله دم سوري، ومع سقوط كل شهيد, من أي طرف كان, او اصابة جريح جديد أو إعتقال معارض او اختفائه يزداد التوتر وتتصاعد حدة الحقد والإستقطاب بين شرائح المجتمع السوري، ويضمحل عدد من كانوا او لا زالوا يقفون على الحياد. كما تتزايد عوامل الخطرالمهدد للوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي والتعايش السلمي ومستقبل الوطن ووحدته. فسورية الآن أمام محنة كبيرة ومنزلق خطير يقترب من اوضاع الحرب الأهلية الداخلية، قد تكون نتيجتها مرعبة بما لا يقارن بالأوضاع التي مرت فيها انتفاضات تونس ومصر وليبيا.
لقد فاجأت الإنتفاضات العربية كل الأنظمة في المنطقة ووضعتها أمام جبل عارم من التراكمات الإصلاحية والأخطاء التي تشكلت خلال عقود طويلة، فأصبحت هذه الأنظمة لا تعرف من أين وكيف ستبدأ بالعملية الإصلاحية. وهي الآن تتخبط ولا تعلم هل عليها أن تصلح نفسها أولا أم مجتمعاتها. الغالبية العظمى من المراقبين لا يعلقون آمالا كبيرة على العمليات الإصلاحية في الأنظمة الفاسدة لأن فاقد الشئ لا يعطيه. وفي سورية على وجه التحديد أصبحت غالبية المجتمع فاقدة الأمل بالإصلاح لأنها ومنذ أشهر طويلة تسمع بوعود الإصلاح ولا ترى منها شيئا على أرض الواقع وتشاهد التردد الذي تبديه السلطة والذي لا تفسير له الا أنها تخاف من الإصلاح. ومع ذلك كله لن نعدم الحيلة ولن نفقد الأمل، ولن نتوقف عن دعوة مجتمعنا السوري وبكل أطيافه, سواء من ينتفضون ويطالبون بالحقوق الديموقراطية او من يقفون الى جانب السلطة، الى ضرورة اتخاذ كل الاجراءات الممكنة حتى لو كانت بسيطة لتجاوز هذه المحنة الشائكة وتجنب المنزلق الخطير الذي تعيشه البلاد.
المعروف بأن الإصلاح هو عملية ديناميكية ولا حدود له أو سقف يقف عند، وهذا ما نراه كل يوم في بلدان كثيرة وما تقوم به مؤسساتها التشريعية من سن قوانين وعمليات إصلاحية مستمرة في كل مجالات الحياة منها الإدارية والسياسية والإقتصادية والتربوية وغيرها. وما يزيد العملية الإصلاحية صعوبة وتعقيدا في الحالة السورية ايضا هو أن المجتمع السوري يريد إصلاحا ومكاسب وإمتيازات في آن واحد وهو ايضا غير مستعد للتنازل والتضحية من أجل ذلك. ولهذا السبب تجد الآن في سورية عشرات الملايين من الطلبات والتمنيات الشخصية التي ينتظرها المجتمع من عملية الإصلاح ويعتقد انها قابلة للتحقيق فورا بمجرد تغيير النظام.
وهنا يبرز السؤال: كيف يستطيع مجتمع ما أن يقوم بعملية اصلاح طويلة المدى وجذرية وفي ذات الوقت الحصول على إمتيازات ومكاسب ومغانم فورية مقابل ذلك؟ ومن هو الشخص او المجموعة التي تمتلك عصا سحرية للنجاح في انجاز هذا الأمر؟
ما يلفت النظر ان السلطة في سورية لا زالت تقنع نفسها بعدم وجود أزمة كبيرة في البلاد، وأن ما يحصل لديها هو لعبة أو مؤامرة خارجية وأن هذا شئ عابر وسينتهي قريبا وهي تتصرف كالنعامة عندما تخفي رأسها في الرمل لكي لا ترى المخاطر المحدقة بالوطن. كما ان وسائل الإعلام الحكومية والشبه حكومية لا ترى إلا بعين واحدة، تنتقي وتبتسر وتنقح ما تقدمه للمواطن من تقارير عن الأحداث في سورية إلى الحد الذي ادى الى ضياع مصداقيتها. اما وسائل الإعلام الخارجية المختلفة فهي تقدم شيئا مغايرا تماما لما يقدمه له الإعلام السوري ويستشف من طريقة التقديم ان هذه الوسائل الخارجية ليست حيادية، مما ادى الى حيرة المواطن السوري وعدم تمكنه من معرفة أين تكمن الحقيقة.
لا زال النظام في سورية يرى ضعف المعارضة وتشتتها، لأنها منقسمة بين جناح يدعو إلى المواجهة المسلحة والتدخل الخارجي من إجل إسقاط النظام وبين جناح آخر يصرعلى اللآءات الثلاثة: لا للتدخل الخارجي، لا للطائفية، ولا للعنف وعسكرة الانتفاضة. وبين هذا وذاك هنالك شريحة كبيرة من المجتمع تعيش بين الخوف من بطش النظام وحرصها على أن لا ينزلق البلد الى فتنة تؤدي إلى تمزق الوطن وانفراط عقد الوحدة الوطنية.
للديمقراطية ثمن يجب ان تدفعه كل الشعوب التي تريد تطبيقها وقد تحتاج إلى جيل كامل حتى تنضج هذه الممارسة. في النظام الديمقراطي لا يوجد شئ إسمه “إسقاط النظام” لأن الأنظمة أو الأحزاب الحاكمة تتبدل عندما تخسر الإنتخابات، وربما تعود الى سدة الحكم في إنتخابات قادمة. ولكن تبالغ المجتمعات العربية كثيرا في توقعاتها مما قد تجلبه لها الديمقراطية، ففي النقاشات العامة يأخد موضوع الديمقراطية حيزا كبيرا وينتابني شعور خلال تلك المداولات أن غالبية الناس ترى بأن الديمقراطية هي المنقذ الأكبر وهي كل شئ، وبتطبيقها ستزال كل مشاكل المجتمع وتتحول الدول المتخلفة والديكتاتورية بين عشية وضحاها إلى دول مدنية متحضرة خالية من المشاكل والهموم. هذا التصور ليس صحيح تماما لأن الديموقراطية طريقة حكم في مجتمع ما، لها ما لها وعليها ما عليها، وهي تحقق عدالة نسبية ليست مطلقة ولا يوجد مقياس موحد لتطبيقها. على سبيل المثال هل الديقراطية الكويتية تماثل تلك التي في فرنسا؟ معروف عن الديمقراطية بأن دساتيرها تكتبها أفضل العقول ولكن تطبقها أسوأ الغرائز وهي بذلك قد تصبح ديكتاتورية ال 50,1 في المئة. حسب قناعتي، فإن الديمقراطية تحتاج للرعاية ولشروط مناسبة لكي تنمو وهي تبدأ من التربية المنزلية والمدرسية وقد تحتاج الشعوب اجيالا لتستطيع تطبيقها بالشكل ألامثل المتعارف عليه. والسؤال المطروح هنا هل نطبق نحن الديمقراطية في بيوتنا وبين أفراد اسرنا؟ وهل علمنا أطفالنا السلوك الديمقراطي منذ نعومة اظفارهم؟ وهل نريد أن نطبق في سورية ديمقراطية على النمط العراقي والتي اعلنت نتائج إنتخاباتها البرلمانية على يد حكامها الجدد بعد مرور عدة شهور؟! أو هل نريد أن نطبق الديمقراطية الطائفية في لبنان؟
تدعو السلطة في سورية دائما إلى الحوار ولكن الحوار الذي تريده ليس حوارا، بل هو لقاء مجاملة بين رئيس ومرؤوس او بين آمر ومأمور، والسبب هو ان أبسط شروط الحوار ليست متوفرة اطلاقا. الحوار يتطلب بداية الإعتراف بالطرف الأخر والتساوي بين الأطراف المتحاورة ومستوى تمثيلها في الحوار، ويجب أن يتم مع من هم أصحاب القرار وأن يكون متوازنا. وبفقدان التوازن بين الأطراف المتحاورة يتحول الحوار إلى إملاءات من الطرف القوي وهو في الحالة السورية السلطة على الطرف الضعيف التي هي المعارضة، ويتحول تحت هذه الظروف إلى عملية كسب للوقت وتسويف ومماطلة. مرور الزمن والتسويف يعني إضاعة الفرصة وهذا ليس لصالح السلطة. وحتى يصبح لأي حوار معنى, على السلطة أن تظهر النية الحسنة وتطلق سراح كل المعتقلين السياسيين في السجون السورية وتقدم من قاموا بأعمال إجرامية ضد المواطنين إلى القضاء، وأن تبدأ بالحوار الجاد بأسرع ما يكمن لأن سقف مطالب المعارضة يزداد كل يوم إرتفاعا وما كانت ترضى به المعارضة قبل أشهر قليلة لا ترضى به الآن بعد ان سالت كثير من الدماء.
يستطيع العالم الخارجي أن يقوم بدور مفيد من خلال التوسط النزيه بين أطراف الحوار ويجب أن يكون هؤلاء الوسطاء مقبولون من جميع الأطراف. تستطيع القيام بهذه الوساطة جهة واحدة أو عدة جهات مشتركة مثل روسيا والمؤتمر الإسلامي والمؤتمر القومي العربي وجامعة الدول العربية. ومع ذلك فان من الأفضل ان يكون الحل الذي يفترض التوصل اليه في النهاية حل سوري بامتياز يراعي المصالح الوطنية السورية ويكون مقبول من أغلبية الشعب السوري.
إذا لم يتكلم الحكماء والعقلاء مع بعضهم البعض ويضعوا مصلحة الوطن فوق كل اعتبار فإن من غير المستبعد ان يصبح للسلاح الكلمة الفصل مع كل ما يحمله الأمر من دمار للوطن ومقدراته وما له من أثر على وحدته الوطنية. بدون شك هناك من يستهدف الوطن ككيان ويرى مصلحته في الفتنة والفوضى والصيد في المياه العكرة. ولا شك ان هنالك أصوات تطالب بالوصاية الأجنبية وتحت أي ذريعة كانت وهنا تقع المسؤولية في الدرجة الأولى على عاتق السلطة لتجاوز هذه المحنة والتصرف بحكمة والنزول من برجها العاجي والاستجابة لرغبات الجماهير التي تطالب بالإصلاح والديمقراطية والكرامة والحرية، وهنا نذكر المسؤلين بأن دماء هؤلاء الشهداء والجرحى لن تذهب سدى وأننا على يقين تام بأن المجتمع الذي لا يطور نفسه فإن الزمن سيتجاوزه وأن الإصلاح أت، وأن الطريق الذي يسلكه شباب سورية اليوم لا رجعة فيه ولكن عليهم أن يعلموا بأن الحوار بواسطة السلاح لا يجلب إلا الدمار والعنف والويلات وأن ضحيته ستكون الوطن والمواطن.
وختاما وإنطلاقا من المسؤلية التاريخية أمام الوطن على الجميع أن يتحلوا بالحكمة والتسامح وأن يعملوا من أجل حماية الوطن وحقن دماء أبناءه، وفقط عندما نؤمن بأن ولاؤنا اولا للوطن لأنه هو الباقي وكل منا إلى زوال مهما كبر شأنه وعظم مقامه، نكون أصبحنا أهلا لهذا الوطن، ولسان حالنا ما قاله الفيلسوف الفرنسي فولتيير: “أخالفك الرأي ولكنني على إستعداد أن أدفع حياتي من أجل أن تقول رأيك!” عندها نكون فعلا قد أصبحنا أهلا للديموقراطية.
جمال قارصلي، نائب ألماني سابق من أصل سوري
ألمانيا 01ـ11ـ2011
لنكف عن القتل ونبدأ الحوار من أجل سورية
اترك تعليقا