في الأسبوع الماضي ، في الثامن من أيلول ، إحـتـفـلـت ” منظمة الأمـم الـمـتـحـدة للتربية والعلوم والثقافة (UNESCO) بـ “اليـوم الـعـالمي لـمـحـو الأمـيـَّة” . وأعلنت “المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) التابعة للجامعة الـعـربيـة أن عدد الأميين في العالم العربي “فاق 97 مليونا” ، وأعـربت عن مخاوفها من “عـدم وجود تقدم حقيقي بالنسبة لمحو الامية في الوطن العربي”. وقالت المنظمة أن عدد الأميين العرب الذين تفوق أعمارهم 15 عاما “يعادل 27,9” من سكان الوطن العربي ممن هم في هذه السن. وأضافت المنظمة التي تتخذ من تونس مقرا لها أن عـدد الأميين العرب الذي تتراوح أعمارهم بين 15 و45 عاما “يبلغ قرابة 67 مليونا، منهم قرابة 60 بالمائة من [النساء] الأميات”. وذكرت بأن “أكثر من 6 ملايين طفل عربي ممن هم في سن الدراسة غير ملتحقين في التعليم في الدول العربية”.
كان العـرب ، في غابر الأزمان وسالفها ، أمّة قرَّاءة،حيث كان العلماء والكتاب أصحاب حظوة ورعاية عند الحكام والأمراء، ويذكرنا التاريخ بمجلس هـارون الرشيد الذي كان يحضره كبار الشعراء والكتاب، ويتبارون في إلقاء جميل القصائد، وأنيق الكلام ؛ في وقت كان الآخر الغربي ـ إن لم يكذب التاريخ – غارقاً في دياجير الجهل، ومؤمناً بقدرية فجة، وخرافات وغيرها.
لكن الموازين انقلبت، ودار الزمن دورته ، فصارت “خير أمـة أخرجت للنـاس” في ظلام دامس، بينما أدرك الآخرون أن تطور الأمم ورقـيها مرهون بالكتاب والقراءة والدأب، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه الآن، أما نحن فنقول: إنهم سيحلون في سعير النار عندما تحين الساعة، ونحن سننعم بالحور الـعـين في جـنـات تجري من تـحـتهـا الأنـهـار ….!!
وعندما نُحاصَر من التاريخ ومساءلته القاسية نقول: إنهم في غـزواتهم في الأفلاك وفتوحاتهم العلمية الباهرة إنما قرؤوا كتابنا واستخلصوا نظرياتهم وإمكانياتهم العلمية منه. هكذا نحن بارعون في تحويل مستنقع الجهل إلى دوحة العلم والمعرفة،عباقرة في تحويل كل هـزائمنا على مرّ التاريخ وما أكثرها إلى انتصارات ساحقة وماحقة .
كم سيكون فظيعاً عندما يعود أعـظـم شـعـراء الـعـربية ، أبو الطيب المتنبي ، ونستضيفه في أحد مقاهي ” المثقـفـين” ويرى بعـينه بؤس هذه الأمة، ألن يحرق قصائده الجميلة وحكمه الرائعة ؟؟ هل سيتذكر في لحظة حنق وقهر ما قاله يوماً:
“وما العـشقُ إلا غِرَّةٌ وطَمَاعَةٌ
يُعَرِّضُ قَلبٌ نفسَهُ فيُصابُ
أعَزُّ مكانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سابحٍ
وخيرُ جليسٍ في الزَّمانِ كتابُ …!”
ليس ثـمـة شـك في أن أبا الطيب سـيـتـقـلب في قـبـره لو عـرف أن الـعـربي لا يقرأ من كل كتاب يصدر إلا بنسبة واحد إلى ثلاثمائة ألف ، وإن ما يستهلكه العالم العربي سنوياً من ورق في تصنيع الكتب يوازي ما تستهلكه دار نشر أوروبية واحدة ، وإن بلداً صغيراً مثل السـويد لا يزيد عدد سكانه على تـسـعـة ملايين يستهلك من الكتاب طباعة ونشراً وقراءة بقدر مايستهلكه العالم العربي كله من طـنـجـة إلى أم القـيـوين…
إن كل ما ترجمه العرب منذ العصر الأموي حتي يـومـنـا هـذا يصل إلى قرابة مئة ألف كتاب ،وهذا مايعادل ماتقوم به إسبانيا وحدها في عام واحد.
والـواقـع المـؤلـم والـمـُحـزن أن الأرقام أكثر خجلاً، فالمواطن العربي يقرأ في العام الواحد ـ بحسب أحدث الإحصائيات الصـادرة عن “منظـمة الأمم المـتـحـدة للتربية والـعـلوم والـثـقـافـة” (اليونسيسـكو) ـ ست دقائق فقط ، أي نصف دقيقة في الشهر، وكل عشرة آلاف مواطن عربي يقرؤون جريدة واحدة.
ونـسـبة الأمية في العالم العربي (أي أولئك الذين “لا يفكون الحروف”) فظيعة ومخيفة، ولها دور كبير في فرملة كل تقدم وازدهار معـرفي، حيث يصل عدد الأميين العرب ـ بكل فـخـر واعتزاز ـ إلى سـبـعـة وتـسـعـيـن مليون فـقـط…!!
كـيـف ، ولـمـاذا وصـلنا إلى هـذا الحـضيض ؟!
هـنالك العـديد من الأسباب التي أوصلـتـنـا إلى هذا التردي أُجْمِلُهَا في ما يلي :
1 ـ غـياب الفضاء الديمقراطي، والجهل، والغرق في الغـيـبـيات. حيث تحكم أنظمة شمولية تشيع التجهيل، ولاتطلب العلم والحضّ عليه. والديموقراطية وحدها كفيلة بقراءة الواقع قراءة صحيحة، ووضع الحلول الناجعة لكل المشاكل، ومن ضمنها محاربة الأمية.
2 ـ عـدم توفر تقاليد للقراءة. وهذه المـسـألة على درجة كبيرة من الأهمية، فـفي الـدول الأوروبيـة يشجع الأهل أولادهم لاقتناء الكتاب، والأولاد لا يرون آباءهم إلا وهم مـُبحرون في لـُجـَّة المطالعة في المنزل أو الحـافلـة أو الـقـطار أو الطائرة، وهذا ما يـُكسب الأطـفـال هـذه العادة الحميدة في المستقبل ، أما نحن فنعلم أولادنا السباب والكذب والنفاق.
3 ـ فـساد المناهج التـعـليـمـيـة،حيث تعتمد هذه المناهج على نسف التفكير والإبداع والخلق، فيحفظ الطالب المعلومات عـن ظـهـر قـلب ويفرغها على ورقة الامتحان لينال النجاح . وهـذه غايته الأسمى، فتخرج أجيال غـبية إلى المجتمع لا تتذكر شيئاً بعد انتهاء الامتحان، وهذه أيضاً سياسة مبرمجة ومدروسة من النظام العربي الحاكم. كـمـا أن هناك مناهج تـعـليمية عـربية ( في السـعودية على سبيل المـثـال لا الحـصـر) ترفض الآخر… الأمر الذي يـؤدي إلى خلق أجيال تؤمن بالتطرف، والتعالي الـعـرقـي والديني، ومقـت كل مـن لايسـير على نهجها.
4 ـ ارتفاع تكاليف الكتاب، وتدني مستوى المعيشة لدى المواطن العربي حيث لايفكر إلا بامتلاء معـدته الخاوية على الأغلب، ولا يجد نقوداً كافية لشراء كتاب باهظ الثمن. والنظام العربي لا يـُشـجـِّـع مـواطـنيـه على القراءة كي يطول أمد بقائه على رقـابـهـم ، ويقطع كل تفكير يعـكر صفو ذلك النظام بضرورة التغيير والتطور وغيرهما من الكلمات ” البائسة” في حين أن الدول الأوروبـيـة تـتـيح الفـرصـة للكاتب ليتفرغ للإبداع والكتابة فقط ، وتدعم الكتاب بإصدار الطـبـعـات الشعـبية والزهيدة الثمن ليكون الكتـاب في مـتـنـاول الجميع .
لا تزال الأمية متفشية وبشكل خطير، والأخطر منها “أمية المثقفين” . وقد باتت القراءة عادة منسية وهجرة الكتاب أصبحت من الامور السائدة في حياتنا اليومية.
ووفـقـا للمقاييس الدولية ينبغي أن تكون هنـاك مكتبـة عـامـة لكل 15 الف من السـكان .
وفي السـودان لا يتعـدى عـدد المكتبات العامة 24 مكـتبـة (أي مكتبـة لكل مليون نسـمة!!) ، اضافة إلى عـدم اهتمام وسائل الاعلام العربية بالكتاب . ونادراً ما تخصص المحطات الفضائية أو الارضية برنامجاً اسبوعياً لمراجعـة الكتب او للقاء الكتاب وتقديمهم للمشاهـدين. وكذلك الامر في الاذاعات والصحف والمجلات العربية.
في العـديد من الدول الأوروبيـة نجد ان الكتاب يباع في المكتبات ، وفي محطات القطار، وفي المطارات ، وفي أماكن التسـوق (السوبرماركت) وفي كل منفـذ من منافـذ البيع الجماهيرية ، فهو امام اعـين المشاهدين في كل مكان يذهـبون اليه.
بينما الكتاب العربي ، في معظم الدول العربية ، يـقـتـصر وجوده على المكتبات. وهـذه المكتبات لا تغـري المرء بالزيارة بسبب ديكورها المتخلف أو عـدم عرض الكتاب بطريقة مغـرية.
اضافة إلى ذلك فإن وسائل الاعلام الجماهيرية تقدم المطرب والرياضي كـ”نجـم” ، ولا تعـير أي اهـتمـام يـذكر للمفكر والاديب والكاتب كقدوة للجيل الجديد. لذلك فإن الجيل الشاب لا يجذبه الكتاب لأن المؤلف نفسه لا يحظى بالتقدير.
ان اكثر المدارس العـربية لا توجـد فيها مكتبات، وان وجدت فإن الكتب الموجودة فيها لا تناسب المراحل العمرية للطلاب . وعلاوة على ذلك فإن اكثر المكتبات المدرسية لا تقدم حصة المكتبة كحصة مهمة ولا يوجد في المنهاج حصة خـاصـة للمكتبة. بينما نجـد في الـدول الأوروبيـة ان هـذه حصة أساسية . فـكيف يمكن للطالب ان يتعـلم ويقرأ وهو لا يدخـل المكتبة؟ ، بينما في الغرب نجد أن الطالب مطالب بتلخيص كتاب على الأقـل في الأسبوع .
وهـذا لا يعني ، بالطبع ، إغـفـال أهـمية دور أولياء الامور في تشجيع الابناء على القراءة . فقـد أثبتت الأبحاث التربوية التي قـام بها خبراء “اليونيسـكو” أن اكثر الناس الذين يقرأون كثيراً يكون اولياء امورهم يقرأون.
يعـاني الكثيرون في العـالم العربي من مـا يسـمى بظاهرة “القاريء الصدء” ، وهـو انسان درس وتخرج من الجامعة لكنه لا يقـرأ. وفي معظم الأحيان يكون قـد نشأ في أسرة لا يوجد لديها مكتبة، وأن والديه لا يقرآن . ومن نافلـة القول أن المـدرسـة والأسرة تتحملان مسـؤوليـة غرس عادة القراءة في الصغـر. فإذا لم يستطع الوالدان والمدرسة غرس هذه العادة في أطفـالهم منـذ الصغر، فمن الصعب ان يتحول المرء إلى قاريء.
وثـمـة اجماع بين علمـاء التربية والاجتمـاع على ان “الفجـوة المعـرفية” هي التي ستحدد مكانة الافراد داخل مجتمعاتهم ، ومـكـانـة الدول داخل محيطها الاقليمي ، بل ان القدرة على انتاج المعـرفة ستغـدو أهم الموارد المحددة لمستوى ثراء الافراد والمجتمعات ومصدر قوة الدول ومكانة الشعوب.
وبناء على ما تقدم تزداد الحاجة إلى العمل بجد على كافة المستويات من اجل تحقيق نهضة معرفية شاملة في الدول العربية، تستفيد من الانجاز الحضاري والتراكم المعـرفي الذي حـقـقـتـه شعـوب وحضارات اخرى. فـ “الحكمة ضالة المؤمن” ، وهو أولى بها حيث وجـدها.
ويخطئ من يعـتقـد أن معرفـة القراءة والكتابـة Literacy تقتصر على مجرد القدرة على القراءة والكتابة ، بل تشتمل على كل معرفة ذات صلة بالقراءة والكتابة والحساب لها صلة باحتياجات الفـرد اليومية ، ومتطلبات العيش الكريم ، والمساهمة الفاعـلة في المجتمع .
وتمثل ” معرفـة القراءة والكتابـة” ، بهذا المعنى ، هـدفـاً تقصده الـدول النامية والمتقدمة عـلى حد سواء. فطبقاً للتقـرير السنوي لـ”اليونيسكو” ، فإن ما يعـرف بالأمية الوظيفية هـو أمر شائع وواسع الانتشار في الدول المتقدمة . وقد اظهرت دراسة اجرتها “منظمة التعاون الاقـتصـادي والتنمية” OECD حول أمـّية الكبار في عشرين دولة صناعية، أن ربع عـدد الاشخاص البالغين في هذه الدول لا يملكون المستوى المعـرفي المطلوب للتأقـلم مع متطلبات الحياة اليومية، ولا ما يمكنهم من العـمل في مجتمع حديث مُعـقـَّد.
ركـود معـرفـي
فـاذا كان هذا هو حال الـدول المتقدمة، فما بالك بعالمنا العـربي ، خصوصاً اذا مـا أخـذنا في الاعتبار حالة الركـود المعـرفي والانحسار الثقافي التي تعاني منها حركـة النشر في العالم العربي ، وتضاؤل نسبة الكتب المؤلفـة والمترجمة إلى اللغة العربية في شتى مجالات المعرفة. ويؤكـد تقرير “التنمية الانسانية العربية ” الصـادر ً عن “برنامج الامم المتحدة الانمائي”UNDP ان نصيب العـرب في النشر “يقـل عن 1%” ، ولا يكاد يظهر لهم “أي وجود ملحوظ” على خريطة البحث العلمي وتسجيل البراءات في العالم .
إن المسؤولية الملقاة على عاتـقـنـا جميعاً أكبر من ان تضطلع بها جهة واحـدة. وعلينا ان ندرك اننا جميعاً شركاء في تحقيق التنمية الانسانية بمعـناها الشامل .
وبـعـد ؛
لقـد آن الأوان لأن نفتح النوافـذ ، ونفك القيود عن معصم الرأي ، وعنق الفكر ، وأن نطلق سراح الفكر. فواللـه ما أطلق عقال الإنسـان العربي قبل 14 قرنا الا كلمة “إقـرأ!” ؛ وما أعـاده الى القمقم قزما حزينا متخلفا الا قـلـة الاطلاع وتقنين المعارف ، تحت طائلة حجج باطلة ، وذرائع أوهى من خيط العـنكبوت,
و”يا أمَّـة ضحكت من جهلهـا الأمم”!!