قصر شايو
نجاح إبراهيم
“أعلّقُ ما بي،
من غربة وحزن، وآتي المتحفَ لأقابل جمجمةً، فيجتاحني شلالُ الضوء والندى، الرّاعف من بلدي،
من هنالك..”
-أ-
كعادتكَ،
تُرجئُ ما بكَ،
من انكساراتٍ، وجراحٍ،وخساراتٍ.
تحملُ هواجسك، وتجيءُ متحفَ الإنسان،في قصرِ شايو،بعد أن يضيق الجسدُ بهذه الرّوح المُتعبة،اللائبة، والمقهورة.
غيرَ عابئ بكلّ ما تمرُّ بهِ،
إلاّها!
هي المحجّةُ التي تسلكها حينَ يكونُ ثمّةَ وجع،ونوازعُ ألم ، وأمشاج حنين .
ليس لك غيرها ،
إذ يعظم بك الشوق ، فحينَ تصعقكَ الانفعالاتُ، والإعياء والصّمت والوحدة،ويشتّتكَ التشرذم،تتخلّص ممّا أنتَ فيه، تغتسلُ كما رؤوس الأشجار بماء المطر،وتقفُ أمامها..
** ** **
– ب-
أمامَ تلكَ الجمجمة،زرع قامته.
لهذهِ السّاكنة البليدة ينتمي.
هو المنفيّ في بلدٍ مُتحضّرٍ كلُّ ما فيهِ يضجُّ بالحياة.
يقف أمامها بانشداهٍ وانشدادٍ ، تُحيي فيهِ وردة الرّوح الذّابلة،وتجعلهُ يقتفي أثرَ الرّطب في الجذور.
“اغضبي ما شئتِ” فرانسواز” ، فأنا على الثوابت ،لا أساوم .”
هجسَ،
وقد تأكّد له أنّ الذي بينه وبين صديقته قد انتهى، وإلى الأبد.
فها هو يقفُ هنا، يواصل عشقه للمكان من أجلها، يشعرُ كما كلّ مرّة بفرحٍ كفرح القطا حين يحفلُ برائحة الماء .
” وأيّ ماء ينسكب من عظيمات بالية،كالحة؟!
آنسُ منها الوقتَ،والغربةَ الجارحة التي تسيلُ منّي،فأحسُّ بوطئها يخُفُّ ويخُفُّ، حتى أستشعرُ عصيراً يرطّبُ شفتيّ ولساني المتشقّق، أستسيغُ خساراتي، وتملؤني بتاريخِ وطني، هي الفارغة من الحياة والرّوح والدّم والتلافيف،و…”
يعيدُ تأملهُ لها، ينتشي حتى ليظنّ أنّ مدى أخضر ينبت في قلبه، وتساؤلاتٍ بلون القرمز تشعّ في عتمته .
كيفَ لهُ عبر تجويفي عينيها أن يسترجعَ معانٍ افتقدها، وأيّاماً لها طعمُ التسلّق إلى عرشِ الله؟
يمرُّ بهِ الوقتُ حانياً،
يُصغي إلى إيقاعٍ خاصٍ يُرتّلُ كنشيدٍ مقدسٍ في دمهِ،فيُحسُّ بنفسهِ مزهوّاً هو المطعون بالغربة، المتألم حتى الاحتراق.
” ياه!”
قال، مُتمنياً أن تلامسَ أصابعهُ هذا الزّجاج اللّعين الذي يفصلهُ دونها، بينما فاضت روحه بالحنين والذكريات .
تذكّر…
حين زارا المتحفَ أوّل مرّة ، راحا ينظرانِ إليها، قالَ وهو يُشيرُ بإصبعه بفخرٍ وامتلاء:
” انظري،هذه جمجمة بطلٍ من بلدي .”
هزّت رأسها مستنكرةً،سألت:
” بطل ؟!”
” نعم، إنّه سليمان الحلبي.”
” تقصد،المجرم الذي قتل (كليبر)!”
صدمه قولها ، شعر بدمهِ ينتفضُ في عروقهِ، و بنارٍ أخذت تتلوّى فيها، ابتلع ريقه بصعوبة ، حاول أن يُهدّئ ممّا هو فيه فقال يُوارب جرحاً :
” إنّهُ بطل،لأنّهُ شعر بغيريةٍ تجاه أمّتهِ .”
قالت وقد تعمّدت اللامبالاة في كلامها:
“في نظركم يعدُّ بطلاً .”
أجابَ بلهجةٍ لا تخلو من حدّة وهو يحملقُ إليها:
” ألا يكفي المرء أن يكون بطلاً في نظر أهله؟!”
” انظرْ مادُوّنَ تحت جمجمتهِ.”
وراحت تقرأ بهدوءٍ،وتقفُ عندَ كلِّ كلمة:
” هذه جمجمة المجرم العربيّ الذي قتلَ الجنرال (كليبر)قائد الحملة الفرنسية عل مصر عام 1800م وأُعدم على الخازوق.”
سكتت برهةً، ثمّ تطلّعت إليهِ، تستقرئ معالم وجهه، أردفت:
” إنّهُ مجرم..”
صاح في وجهها كمن طعن في كرامته :
” مجرم!! ولماذا تحتفظون بجزءٍ منهُ في متحفكم؟ متحف الإنسان!
ألا ترينَ أنّ احتفاظكم بجمجمتهِ يُعدُّ تخليداً لهُ وتذكيراً بنهاية كليبر؟!”
“………………….”
أكملَ وقد خفّف من نبرة صوته :
” صاحب هذهِ الجمجمة يا” فرانسواز”،شابٌ من بلدي،من سوريا،حينَ أمرَ (كليبر) بضرب القاهرة بالمدافع ليخمد ثورة الشعب ، انتفضتْ العروبة في دم الشّاب فبذلَ روحه في سبيل الانتقام من (كليبر)،وأخيراً تمكّن من اغتياله،بعدئذٍ لا يهمّ ، إن قُتلَ،أو خُوزقَ،أو أحرقَ،المهم أنّه دافعَ عن أرضه،أرض أشقّائه.”
لَوَت (فرانسواز) فمها،هزّت كتفيها بسخريةٍ، ثم أشارت بإصبعها إلى جمجمةٍ بجانب جمجمة سليمان الحلبي وقالت:
“انظرْ إلى هذه،إنّها لـ (ديكارت).”
وراحت تُفاخر وتبيّن الفرق بين صاحبي الجمجمتين،بينما ارتسم سؤال على وجهه ، سؤال يشي باستغراب فاضح ” كيف توضع جمجمة مجرم عربي بجانب جمجمة فيلسوف فرنسي !؟
بيد أنّها تجاهلت عن عمدٍ ما هو فيه ، وأكملت:
” إنّه صاحب فلسفة الشّك،إذ يعتبره نواة سائر الأفكار،والعتبة الأولى من عتبات اليقين، فالشّكّ برأيه أُسُّ الفكر،ومعيار الوجود،مقولتهُ لا تُنسى: أنا أشكُّ إذاً فأنا موجود و…”
قاطعها، وقد أذهلتها الابتسامةُ الطفيفةُ على شفتيه، قائلاً:
” أُقدّرُ عالياً انجاز” ديكارت”،وفلسفته،ولكنّي لا أعوّل كثيراً على ذكائه!”
سألَت:
” الانجازات،والنظرياتُ ألم تتأتّى عن ذكاء؟!”
ردَّ:
” صاحب الشك، ديكارتكم! لماذا لم يشك ولو للحظة بالدّوقة (كريستينا)،ملكة السويد،بأنّها ستجلب له النهاية؟!”
” كيف؟”
” لِمَ لَمْ يستشعر خطراً من اختيارها وقتاً صعباً لا يليقُ بهِ ككهل لتتلقى دروس الفلسفة على يديه؟”
“……………………..”
” في استيقاظه الساعة الرّابعة صباحاً كلّ يوم،وذهابه إليها،ألم يشكَّ بالبرد الذي سيخترقُ صدره،ويسبّب لهُ النزلة الحادّة التي أصابتهُ وأودت بهِ؟”
احمرَّ وجه (فرانسواز)،صار جمرةً ناضجة ، لعقت شفتيها الرّقيقتين، دعكت أنفها الملكي بإصبعيها، حارت بماذا تردُّ على استنتاجه، نظرت طويلاً في عينيه ، لملمت أطراف معطف الفرو الذي يحيط بجسدها ، رفعت قبّتهُ عالياً ،قالت بعصبيةٍ :
” يبدو أنّك كمجرمكَ هذا، تعوّل كثيراً على الانتقام .”
فتح فمه ، قال: ” إنّنا لا ننتقم إلاّ من الذين يريدون سلبنا ، و…”
بيدَ أنّها مضت غاضبة وهي تلوّح بيديها دون أن تستدير، وصوتها يلعلع في فضاء المكان:
” أنا لا أعرفكَ ، لا أعرفكَ. “
-ج-
وقفَ متأثراً،متألماً،
قبلَ أن يغلق الباب خلفه،
أرسلَ نظرةً أخيرةً إلى الورقة التي تركها فوق الطاولة، ودوّنَ فيها:
“ربّما أنكرتِ معرفتكِ بي،لكنّي لا أنكرُ أنّني أحببتُكِ ذاتَ وقتٍ.”
تمتمَ بحزنٍ لا يُوارب:
“قد انتهى كلّ شيء.”
ثمّ حملَ حقيبتهُ ومضى.
كانت الغيوم في الخارج تتراكضُ في السّماء،تتجمّعُ تارةً،وتتفرّقُ تارةً أُخرى،ونثيثُ مطرٍ بدا يتراذذُ.
مشى طويلاً، وقفَ فوقَ جسرٍ حجريٍّ،أمعنَ في وجهِ الماء وهو يتجعّد، رأى صورته تترجرج، تأمّلَ نفسه، انهمر في داخلهِ شيء دافئ وعذب،تذكّرَ (فرانسواز) حينَ التقيا هنا ذات مرّة،وقفت ترنو إليه بإعجاب، فجأة هتفت:
” أتدري؟”
” لا أدري.”
” إنك تشبهُ (بودلير)”
صاحَ وهو ينظرُ إلى نفسه:
” (بودلير)! مرّة واحدة!”
“كلاكما يُعطي أهميةً لزينته .”
وراحت ترصدُ أناقته المُفرطة،ونظافته المبالغ فيها،كأنّما تعيدُ اكتشافه، لتردف:
” كان يخشى أن يبدو نقصٌ في مظهره،أو يُرى فيه عيب.”
ثمّ أشارت إلى تسريحة الشعر،اللافتة،ولمعان الحذاء،وانسجام ألوان الملابس.
سألَ وقد تفتّح قلبه وعيناه:
” ما سرُّ ذلك يا تُرى؟”
“هذا نتيجة يقظة دائمة .”
“أيكون ذلك تعويضاً عن خوف؟”
ردّت:
” ربّما! وقد تكون الوحدة سبباً،أو الرّفض المستمرّ لكلّ شيء،و ربّما الرّغبة في التمايز.”
صمتَ مفكراً.
سألتْ:
” ما بكَ؟”
” لا شيء.”
وانطوى على نفسه،لائّذاً بالصّمتِ .
الآن،
ما بينهما قد انتهى،
هاهو يغتسلُ بالوحدة من جديد بعدَ أن تركَ شقة (فرانسواز)،وعاد إلى غرفتهِ في نزلٍ ليسَ ببعيد.
هي التي قالت ذاتَ مساءٍ:
” بنينا أشياءَ كثيرة معاً يا إياس .”
يدغدغُ شفتيها الرّقيقتين بسبّابتهِ،هامساً:
” ولا يمكن أن تنهار،أتدرين لماذا ؟ لأنّها بُنيت على أساسٍ متين.”
يهزُّ رأسهُ ساخراً ممّا قد قيل ، وابتسامة صفراء ترتسمُ على حافةِ ثغره، يخطو باتجاه مسكنهِ.
حين فتحَ باب الغرفة،أطلّت صاحبة النزل برأسها قائلةً:
” هل عدّتَ ؟”
” أجل.”
أجاب بانكسارٍ ودخل، وضع الحقيبة جانباً،ثمَّ جلسَ يستذكر اللقاء الأوّل بينه وبينها.
كان ذلك في المتحف الوطني للفنّ الحديث بباريس، حيث كان يقضي جُلَّ أوقاته في محاريب الفنّ.
كان واقفاً أمام لوحة “خطوط اليد” للفنان (غرومير) يتمعّن بتلكَ المرأة الفقيرة ذات الملامح الحادّة، وهي تقراُ كفَّ شابّة عارية الصّدر،بينما تقفُ أخرى خلفاً عارية وغير مبالية بما يجري، انحنى وقرّب وجهه من اللوحة، يتفحّص وجه القارئة النّحيل ذات الشّفتين الدّقيقتين،وإذ بيدٍ تربت على كتفه، يأتيه صوتٌ أنثويٌّ :
” نساءٌ عاريات،ألهذا تسحرُكَ اللوحة؟!”
أحسّ بالارتباك مثل طفل ، استدار على الفور ليقف وجهاّ لوجه أمام امرأة شقراء آسرة ،احمرّ وجهه ، قال بتلعثم:
” أحاول أن أتتبع خطوط (غرومير).”
قالت وهي تبتسم :
” خطوط قاسية لأجسام عارية تضجّ بالشّهوة !”
أراد أن يستدير من جديد نحو اللوحة، ليقرأ بإمعان الجسدين الأنثويّين العاريين ،إلاّ أنّ لوحة تنبضُ بالحياة قد شدّته أكثر ، مدّت المرأة يدها نحوه مصافحةً وهي تقول :
” فرانسواز.”
بينما ارتعش وهو يقبضُ على أصابعها الطّويلة الرّفيعة ، يقدّم نفسه قائلاً :
” وأنا إياس .”
وراح كلٌّ منهما يحدّق بالآخر بافتتان ولهفة دون أن يشعرا بالوقت ، إلاّ أنّها كسرت الصّمت المشوّب بالرّهبة بقولها :
” ما رأيك لو نرى سويّةً قسم النّحت في المتحف ؟”
هزّ رأسه موافقاً ، وسار إلى جانبها ، يُصغي إليها ، وأمام رأس ربّة الفنّ النّائمة رأسٌ بسيطٌ ، مستلق ، نقيّ نقاوة البيضة ، أسهبت (فرانسواز) بالحديث عن عمل (برانكوزي) وشرحت حجم النور على سطحِ الكتلة ، وأشارت إلى العينين وإلى الفمّ النّاعم، والأنف الذي ظهرَ على شكلِ زاويةٍ ناتئة، قليلة الانحناء،وبعدَ أن جالا في أرجاء المتحف،دعتهُ إلى مقهىً قريب تناولا فيهِ مشروباً ساخناً ، ثمّ تواعدا أن يلتقيا غداً ليصعدا برج(إيفل) ، ويُسمعها بعضاً من شعره، بعدَ أن تبادلا أرقام الهواتف، وإيماءات الإعجاب.
كانت امرأة مجنونة،
وكان ممّن يعشقون الجنون لأناسٍ من ذوي المشاعر الجماليّة.
لهذا راحَ يُلقي الشعر من أعلى نقطةٍ في البرج،ويُشير بيديه ، يفتحهما كأنّما أراد أن يحتضنَ بهما الكون ، بينما راحت تطربُ له، هي التي لا تفهم كلمة ممّا قال، فيرحمها ويترجم لها القصيدة، فتصفّق بيديها رافلةً بالبهجة،ثمّ تتحفه بالقبل.
وقتها، أسرّت له ، اعترفت ببساطةٍ ما أعجبها فيه ، ثمّ أعلنت عليه ….
فرنَّ دمهُ بأجراسِ الاحتفاء،وكما يحمل في حنجرتهِ القصائد،حملت أصابعه آثار ليلة، جرّت ليالٍ راعفة في بيت (فرانسواز) .
همست ، بينما أصابعه تعابث ظهراً عارياً:
” إنّكَ شيءٌ نادرٌ،يبدو أنّني سأنتهي معك ، وبك. “
” وكيفَ تجيءُ النهاية؟”
” رحيلاً إلى الشرق.”
لَشَدَّ ما أذهلتهُ تلقائيتها ،وذلك العطر الذي يفترشُ الوسائد،قال:
” لستُ أدري ماذا يتعيّن عليّ أن أكتب من شعرٍ ليليقَ بامرأةٍ من بلّور؟”
وفجأة ، تساقطت الكلمات عليه ، تمتمُ كالسّاحر بإبهامٍ ، حتى استوى الشعرُ،راحَ يردّدهُ بثقةٍ.
ضحكت عالياً ثم قالت وهي ما تزال مستلقية:
” إنّكَ تشبهُ غوته.”
فقال مبهوراً:
” ما بكِ،حبيبتي،مرّة تُشبّهينني بـ (بودلير) ومرّةً بـ (غوته)،يا عزيزتي ما أنا سوى شاعر صغير،لكنّي عاشقٌ كبير،أنّى لي أن أكون مثلهما! ؟ “
قالت بثقة:
” تُشبه بودلير بأناقته، وغوته بعشقهِ،أتدري كيف كان ينظّمُ الشعر؟ “
حينها ضربَ على جبهتهِ بقوّةٍ،ثمّ اقتربَ منها وقبّلَها قائلاً:
” يا لكِ من..! لا شكَّ كان ينظمه وهو في أحضانِ عشيقتهِ.”
” أجل وأصابعهُ الرّاقصة تنقرُ التفعيلات على ظهرها.”
” إن كان ظهرها جميلاً كظهركِ،سيجيءُ الشّعر كالهواء ! “
تذكّرَ هذا،بينما هجس:
” الظهرُ الجميلُ غائصٌ في سماكة الفرو ، ناكراً القصائد التي كُتبت فيه،كصاحبتهِ الغاضبة .”
ربَتَ على فخذيه، علّقَ ما بهِ من انكسارٍ وحزن ،ثمّ وقفَ،فتحَ باب غرفتهِ،وغادر،فخطواتهُ تعرفُ تماماً الطريق.