ميسون أسدي
“هالعكوب العكبته، غزغزني شوكه… آه
بإيدي أنيته وطبخته، غزغزني شوكه… آه
عكوب بلدي… لأبويه وولدي…”
استيقظت باكرًا أفكّر في صحن العكوب الذي قدّمته لي صديقتي اللدودة خيريّة، التي أجتهد دائمًا تجنّب لقياها لخلل ما في شخصيتها، ولا أعرف ما هو بالتحديد، فهي قويّة جدًّا جسديًّا ونفسيّا مُدجّنة وذكيّة لحد الجنون، ولعوب لدرجة لا تطاق، ولها عشرات الوجوه التي لا تعرف أيًّا منها تلبسه عند لقياها، وما أن تكتشفه إلا وتستبدله بوجه آخر، فتضيع بين حانا ومانا، وكنت بعكسها مثل قاموسي، بسيطة وعشوائيّة وطليقة وغير مُدجّنة، ولا أقرأ بين السطور وأنا في حضور شخص ما، وأخلط كثيرًا بين دموع الأفراح والأتراح وأنّني أخون الأشكال والتصنيفات جميعها. بقربها أسكت واهرب بتفكيري، لأبدو غبيّة وضعيفة وأجعلها دائمًا تبدو القوية والملمّة بكل شيء، ولا يبدر منّي أي تعليق، لأنّني أراها واشعر بالإحراج من تصرفاتها بعيون ابنائها، لذلك أخاف من مجالستها، لأنّ مجمل حديثها لغو وسخافات وطرطشات وسقط زند طائش. مزعجة خيريّة في كل الحالات، إذا كانت حزينة أو فرحة أو هادئة أو عصبية فهي تؤذي مُجالسها بكل الحالات. كنت ابتعد عنها لفترات طويلة وتعاود الاتصال بي فيرقّ لها قلبي. فنحن بنات القرية التي لم تنجح المدينة بلفنا تحت ابطها كباقي سكان المدينة، نحنّ على بعضنا.
اتصلت بي خيريّة في ساعات الصباح الباكر قبل ذهابي إلى العمل لأقوم بزيارتها ولكنني لم أفعل، فضّلت الذهاب لزيارة جارة عجوز في أواخر عمرها، فهي أحقّ منها بهذه الزيارة.
اعتقدت في حينه، أنّني تخلصت منها ومن دعوتها، لكنّها اتصلت بي ثانية حين عودتي من العمل في ساعات المساء واصرّت على دعوتي لأتناول عندها طبخة العكوب التي حضّرتها بنفسها، فهي من بلدة شهيرة بهذه الأكلة الطيبة، وكانت تعرف مسبّقا بأنّني لا أطبخ هذه الأكلة لسبب واحد بأنني لم اتعرف عليها في مطبخ والدتي مع أنّني أكلتها عدة مرّات في بيت إحدى الصديقات.
في الأمس، كانت خيريّة في زيارتي وأكلنا معّا خبّيزة قطفتها بنفسي من الأرض، وقد طبختها مع عروق الشومر على غير المتّبع، وعندما شبعنا، أخذنا نتحلّى على حبات الجوز التي اشتريتها من سيّدة تجمع حبات الجوز المتساقطة من الاشجار التي تمّ قطفها، ثم تبيعها بأرخص من السعر المعروف بكثير… ثمّ شربنا شاي زهورات اشتريتها من عند العطار في مدينة عكا.. اعتقدت أن دعوتها لي اليوم في المساء، كانت بمثابة رد لزيارتها عندي، وبأنها ستكرمني وسترد الصاع صاعين بما ستقدّمه لي من ضيافة. تردّدت كثيرًا ولكنّي في النهاية ذهبت إليها بعد الحاحها الشديد، وقلت في نفسي: حسنًا، سأضيّع القليل من الوقت خاصة أنّني اعاني الكثير من الملل في ساعات المساء.
عندما وصلت إليها، لم تكن تضحك كعادتها بشكل هستيري، واعتقدت بانها ارتكبت خطأ ما مع أولادها أو زوجها أو في عملها، فالشعور بالذنب كان جليًّا على وجهها. ولكن عندما ذاب الثلج، بان المرج…
جلست على طاولة الطعام، واذ بها تقدم لي صحن العكوب وهو صحن صغير لا يتعدى اللقمتين. نظرت في الصحن شمالا ويمنيا ولم تأتني إلا الصفنة وسألتها بصدق وغرابة:
اين العكوب؟
قالت بما يزيد الطين بلّة ويبلبل الفكر أكثر وأكثر:
إذًا انت تعرفين العكوب!
ومُرت كما يمُور المرجل بالخطايا قائلة: انا فلاحة حتى النخاع وأحبّ الأرض وما تنتج، لم اطبخ العكوب ولم تطبخه والدتي سابقا ولكنّني أعرفه جيّدًا ثمّ انني ملمّة بالأكلات الفلسطينية التقليدية وخاصة تلك التي تخرج من بطون الأرض. ثمّ هرشت وسعلت وتنحنحت وقالت:
هذا هو العكوب. انا بصراحة أحب الاضلاع ولا أحب رؤوس العكوب وأنا قدّمت لك صحنا صغيرا لأنني أعرف بانّك لا تحبين اللحمة.
شعرت كم كنت غبية في الماضي، وسأشعر كم أصبحت أغبى لأنني ما زلت لا أعرف إلا القليل عن البشر فقلت مبتسمة:
أعتقد أن هذا ما تبقّى عندك من أكلة العكوب.
فعلا عندما قدّمت لي خيريّة صحن العكوب كان به بعض القطع الصغيرة التي لا تشبه اضلاع العكوب، فاعتقدت ان هناك بعض الرؤوس الضائعة، وعندما تلمستها بالملعقة وقربتها من عيني فهمت بأنّ هذه قطع لحمة، فازداد اشمئزازي من صحن العكوب. لم أرد أن تشعر خيريّة بنفوري منها، فتناولت حبّة خيار كانت قد اجتهدت ووضعتها بقرب صحن العكوب وقضمتها وأرجعت لها الصحن كما هو.
اخفيت غضبي بين اضلاع صدري وجاريتها بالحديث وانتهزت الفرصة الأولى وعدت أدراجي إلى البيت وأنا أقسم بأعظم الأيمان بأنّني لن اذوق ملح بيتها بعد اليوم ويحرم عليّ أكلها.
وفي طريقي إلى البيت فكزت رجلي وتعوّرت، فقلت هذا جزاء من يأكل العكوب من غير صحنه… سأعيش في عالمي الخاص، وسأبحث عن مجنون يشبهني وسأعشق رجلا مثلي ضائعًا بين أحضان الكتب!! وأحسست بنرجسية مفرطة، فبدأت في كتابة قصة العكوب وأنا اردد مطلع أغنية للفنان الفلسطيني مصطفى الكرد:
“هالعكوب ال عكّبته، غزغزني شوكه… آه
بإيدي أنيته وطبخته، غزغزني شوكه… آه
عكوب بلدي… لأبويه وولدي…”