د. حسين سرمك حسن
# عليّ : صاحب الثورة الكبرى من أجل العدالة الإجتماعية :
يخصّص الدكتورعلي الوردي الفصل الثالث : (علي بن أبي طالب) من كتابه “مهزلة العقل البشري” ، لطرح وجهة نظر جديدة في شخصية الإمام علي “ع” ، وفي طبيعة الصراع بينه وبين معاوية . لقد هُدر دم الوردي لأنه قال في كتابه السابق ( وعاظ السلاطين ) عبارة التقطها بعض وعاظ السلاطين بطريقة هي أنموذج للقراءة التعصبية التجزيئية التي تقود عمليا إلى القراءة الفكرية الإرهابية . لقد عزلوها عن السياق الكلي الأشمل ، وتناسوا أن الوردي كان قد قال في عشرات الصفحات السابقة أن علي بن أبي طالب “ع” هو (( من أعظم المناضلين المجاهدين في الحروب التي خاضها الإسلام )) (133) و (( لعلنا لا نغالي إذا شبهنا أسطورة علي بن أبي طالب بالقنبلة الذرية . فالذرة الأولى منها فلقها محمد بنفسه . ثم تركها من بعده تؤدي إلى انفلاقات متسلسلة ، سيما بعد أن قام علي بثورته الكبرى في سبيل المساواة والعدالة الاجتماعية ))(134) . وغير ذلك الكثير الكثير.. كله تناساه الوعّاظ وأمسكوا بمقولة مجتزأة وأخرجوها من سياقها ليشيدوا عليها ركائز الإدانة المميتة . وهذا هو الأنموذج الناجع للكيفية التي تعمل بها آليات العقل الديني الأصولي الخطيرة التي يجب أن نتحرر منها إذا أردنا الإقلاع في سماوات الحداثة . فالوردي يرى أن أيّ إنسان صارم العدالة وحازم المباديء سوف يشق الناس من حوله حتى لو كان وزيرا في وقتنا الحاضر . ثم يرى أن المسلمين بطوائفهم كافة تركوا الدروس العظيمة التي خلقتها سيرة الإمام علي واستشهاده وراحوا يتجادلون طائفيا مَنْ أحق مِنْ مَنْ بالخلافة ؟ :
(( ولست أدري ماذا يقصد هؤلاء من جدلهم . فلو كان أبو بكر وعلي سيرجعان إلى هذه الحياة مرة أخرى لوجدنا لهؤلاء عذرا فيما يتجادلون فيه . ولكنهما ذهبا إلى ربهما منذ زمان بعيد ، وهما الآن بين يدي الله . ولن يرجعا إلى هذه الحياة ولو ملأنا الدنيا عليهما جدلا وخصاما . إننا ندرس التاريخ لكي نستفيد منه لحاضرنا ومستقبلنا . وهذا هو مقصد الشعوب الحيّة من دراسة التاريخ . ومن السخرية أن نتجادل على أمر مضى عليه ثلاثة عشر قرنا من غير أن ننتفع منه لحاضرنا أو مستقبلنا شيئا)) (135) .
وهو يرى أن النزاع الذي يستحق الدراسة ليس النزاع على مَن هو أصلح مِن مَن لتولي الخلافة بين الخلفاء الراشدين ، بل هو النزاع بين علي ومعاوية ، الذي كان في حقيقته صراعا بين طرف يحرص على أموال الأمة ويريد مصادرة الأموال الضخمة وإلغاء الإقطاع والتسوية في العطاء ، وآخر يريد أن يقسم أموال الأمة كما يشتهي السلطان وما تقتضيه المصلحة الخاصة . فـ :
((دراسة هذا النزاع يفيدنا كثيرا في حياتنا المعاصرة لأنه يلقي ضوءا على ما نعاني اليوم من مشكلات اجتماعية واقتصادية ، ولا سيما ونحن نمر اليوم بمرحلة انتقال قاسية تتسع فيها الثغرة بين المتخومين والمحرومين .. إن النزاع بين علي ومعاوية هو نزاع جذري على تعبير أهل هذا العصر . فهو لا يدور حول أخطاء بسيطة ، إنما هو يدور حول مصير الأمة : هل تجري في طريق العدالة الاجتماعية أم تجري في طريق الحكم الطاغي الذي لا يعرف عدلا ولا مساواة ))(136) . وفي طريقه إلى مناقشة أبعاد هذا الصراع الخطير ، يردّ الوردي على اعتراض هام يقول : لماذا لا ينظر الوردي ، وهو الذي دوّخنا بنسبية الحقائق واجتماع النقيضين في أحشائها ، وهرم الحقيقة متعدد الأوجه وتأثيرات “الإطار الفكري” ، إلى هذا الصراع من هذا المنظور ، ويعد كلا من الطرفين المتنازعين مُبطل ومُحق في آن واحد حيث هو ينظر إلى وجه واحد من ذلك الشيء ويهمل الوجه الآخر ؟ ولماذا تضع الحق كله في جانب علي ، وتضع الباطل كله في جانب معاوية ؟
يردّ الوردي بطريقته الاستدراجية الذكية – والتي سنحللها عند دراسة “السمات الأسلوبية” للوردي – أن هذا الاعتراض وجيه حقا ، ولكن ما قاله سابقا ينطبق على التنازع التقليدي الذي تتحكم في أمره العقائد الموروثة ، حيث ينظر كل فريق إلى الحقيقة من خلال إطاره الفكري الموضوع على عقله من حيث لا يشعر به . أما النزاع بين علي ومعاوية فهو من طراز آخر . إنه أشبه بنزاع ينشب بين القافلة وقطاع الطرق . فلا مجال لنا أن نقول بأن قطاع الطريق كانوا مجتهدين في تصديهم للقافلة وكان لهم وجه من الحق في عملهم هذا .
ويواصل الوردي ردّه منتقلا إلى استثمار هذا الموقف في تعزيز أطروحاته الثورية وترصين دعوته إلى الديمقراطية فيقول :
(( لا مجال هنا للإجتهاد في الرأي أو للخلاف فيه . وسنبحث في فصل قادم فلسفة الديمقراطية الحديثة وكيف أنها لا تؤمن بالحقيقة المطلقة بل تؤمن بدلا عنها بتلك الحقيقة التي ترتأيها أكثرية الناس . فنحن نحسب اليوم أصوات الناخبين ونميل حيث تميل أكثريتهم . ذلك أنهم مصدر السلطة ولهم وحدهم الحق في أن يبتوا في أمورهم . أما إذا جاء أحدهم فقال لهم إنكم مخطئون وإني قد اجتهدت رأيي فوجدت من الأصلح لكم أن أصرف أموالكم على ملذاتي، فهم لا يجدون له جوابا سوى أن يضعوه في السجن طبعا . كان الفقهاء قديما يقولون : لا اجتهاد في معرض النص . ويمكن أن يقال حديثا : لا اجتهاد فيما تقرره أكثرية الأمة )) (137) .
وينبري الوردي للرد أيضا على اعتراض مُربك آخر لا يقل أهمية عن الاعتراض السابق وهو : إذا كان الوردي يبرّر الانحياز إلى عليّ “ع” على أساس أن عليّا كان يدافع عن مصلحة أكثرية الأمة ، ويريد تحقيق العدالة الاجتماعية لها ، فلماذا انفضّت عنه الأكثرية بحيث أنه لما قُتل لم يكن حوله سوى عدد قليل من الأنصار المخلصين؟ وهل هذا يكون دليلا يخلّ بدعوتك للديمقراطية الحديثة ؟
يردّ الوردي مؤكدا على أن طريقة عليّ كانت وفق مصلحة الأكثرية طبعا . و :
(( إن نظام الأكثرية الذي تقوم عليه الديمقراطية الحديثة لم يقم إلا بعد توافر شروط عديدة أهمها : انتشار التعليم ووعي الرأي العام وتكوّن الأحزاب الحديثة وارتفاع شأن الصحافة وما أشبه . وكلما اشتد وعي الناس وانتشر التعليم ازدادت مقدرة الأكثرية على أن تفرض رأيها على الحكام . أما في عهد علي بن أبي طالب فالمجتمع كان بدويّاّ قبليّاً في الغالب . فكان رئيس القبيلة هو الذي ينطق بلسانها ويسير بها حيث يشاء . وكثيرا ما ينساق الأفراد وراء رؤسائهم نحو ما يضرّهم وهم لا يشعرون . وقد وصف علي الناس في عهده فقال : الناس ثلاث : عالم ربّاني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، والباقي همج رعاع ينعقون مع كل ناعق ويميلون مع كل ريح . والظاهر أن هذا الوصف لا يزال صحيحا في كثير من البلاد الإسلامية حتى يومنا هذا))(138) .
# الفلاسفة لا يختلفون في طبيعتهم عن العامة والسَوَقة :
—————————————————-
في الفصل الرابع : ( عيب المدينة الفاضلة ) ، يراجع الوردي مشروع الفارابي في المدينة الفاضلة الذي طرحه في كتابه ( آراء أهل المدينة الفاضلة ) منتقدا إيّاه ومبيّنا نقاط ضعفه كمشروع طوبائي . فقد رأى الفارابي أن من أهم خصائص هذا المجتمع الفاضل وجود رئيس صالح فيه ينظم شؤونه ويشرف عليه ، وهي فكرة اتبع فيها القول السائر : ( إذا صلح الملك صلحت رعيته ) . واقتبسها من استاذه أفلاطون الذي عين لجمهوريته السعيدة ” ملكا فيلسوف ” . والفارابي يحدّد اثنتي عشرة صفة يجب أن يمتاز بها هذا الرئيس الصالح ( تكامل الأعضاء ، وجودة الفهم ، والحفظ ، والفطنة ، وحسن العبارة ، ومحبة التعليم ، والصدق ، والاعتدال ، وقوة العزيمة .. إلخ ) . والوردي يرى أن أفكار الفارابي تفتقر للسمة العملية ، وأنها تخالف الطبيعة التي جُبل عليها البشر من تنازع وتخالف وتنافس ومغالبة . فالفارابي يظن أن هذه الأمور لا تحصل بين أهالي المدينة الفاضلة فهم فضلاء ، أو هم بعبارة أخرى فلاسفة . والفلاسفة حسب الوردي لا يختلفون في طبيعتهم عن العامة والسوقة . فالفلاسفة يتنازعون عن طريق الأحابيل المنطقية والفذلكات الفلسفية ، بينما يتنازع العامي بالخنجر ، لكنهما لا يخرجان عن طبيعة التنازع التي جُبل الناس عليها جميعا .
وقد دأب بعض الفلاسفة على احتقار العامة واعتبارهم كالأطفال أصحاب عقول سخيفة ونفوس مريضة ومنهم – حسب وصف الوردي – ” ابن رشد ” الذي دعا إخوته الفلاسفة إلى اعتزال الناس وتكوين مجتمع خاص بهم ينالون السعادة فيه ويتعاونون تعاونا تاما في سبيل الفكر الخالص ، فترتقي بهم البشرية . يعلّق الوردي على ذلك بالقول :
(( يعتقد ابن رشد أن الفلاسفة إذا اختلفوا على شيء ردّوه حالا إلى دليل العقل وحجة المنطق فتفاهموا وخضعوا للرأي الذي يرونه معقولا . إنهم على زعم ابن رشد يستنيرون بنور العقل والمنطق ، وليس هناك سخافة أبشع من هذه التي يقول بها ابن رشد وأمثاله من المفكرين الطوبائيين )) (139) .
# الديمقراطية أطاحت بالمنطق القديم :
————————————
ويتفق ابن رشد مع الفارابي في أنهما يؤمنان بـ “المثل العليا” ويصعدان بها فوق السحاب ، فهي معلّقة في “سماء الخلود” ، لأنهما يؤمنان بمنطق “الحق المطلق” الذي أطاحت به الديمقراطية الحديثة . وهنا يعود الوردي إلى الطَرْق المُثابر على الأهمية الحاسمة لموضوعة الديمقراطية في حياة الشعوب :
(( الديمقراطية لا تؤمن بالحق المطلق ، وهي كذلك لا تقنع بالحجج المنطقية التي يدلي بها أحد الأحزاب في تأييد رأيه . إنها لا تؤمن إلا بكثرة الأصوات . فإن استطاع حزب أن يجمع له أكبر عدد من الأصوات كان له الحق في أن ينتصر ويحكم ولا أهمية عند ذلك للأدلة العقلية والنقلية التي يحتج بها خصومه عليه . لقد ضربت الديمقراطية المنطق القديم ضربة لا قيام له بعدها . فليس هناك في نظر الديمقراطية حق مطلق وباطل مطلق على منوال ما كان القدماء يؤمنون به )) (140) .
# دور وعّاظ السلاطين مازال مستمراً :
—————————————
من جديد يتناول الوردي ما يعتبره مصدر تطور المجتمع ونمائه رغم أثمانه الباهضة وذلك في الفصل الخامس : ( أنواع التنازع وأسبابه ) ، فيستعرض أولا أنواع التنازع الأربعة حسب رأي البروفسور ” كارفر ” : ( التنازع البدني ، والتنازع الاحتيالي ، والتنازع المتمدين في العالم المتحضر ، والرابع وهو أرقى الأشكال هو التنازع الفكري المتحضر ) . ويعتبر كارفر التنازع صفة أساسية في الطبيعة البشرية ويعود إلى سمتين أساسيتين في نفس الإنسان :
– استحالة إشباع الحاجات البشرية كلها
– حب الإنسان نفسه وتقديره إياها أكثر مما تستحق في حقيقة أمرها .
ويفحص الوردي هذين العاملين من خلال الركائز الأساسية الثلاث التي أشاد عليها المعمار المضموني لكتابه وهي : خديعة منطق العقل البشري ، والصراع بين علي ومعاوية ، والدور الوعظي ” السلطاني ” – كما يسميه – لرجال الدين . فالتنازع لا يتم وفق منطق العقل السليم ، ونرجسية الإنسان تجعله ينظر إلى نفسه كمركز للكون . وهي طبيعة الإنسان في كل مكان وزمان . وحتى لو استطعنا – كفرض جدلي – إشباع جميع الحاجات البشرية ، فإن البشر يظلّون في تنازع وتكالب . يضرب الوردي مثلا على ذلك من الصراع بين علي ومعاوية مرتبطا بمسألة العطاء . فقد أعطى عليّ الناس جميعا على حد سواء لا فرق بين سيّد ومَسود ، في حين أن معاوية أخذ يراوغ ويداور في العطاء ، يعطي من يأمل منه منفعة أو يخشى منه مضرة فيرضيه . أما باقي الناس فقد تركهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء . وكان هناك وعّاظ يبررون له هذه الأفعال .
والمشكلة أن دور وعّأظ السلاطين أولئك مازال مستمرا ، حيث يقتبس الوردي مقاطع من كتاب الأستاذ ” سهيل العاني ” : ( حكم المُقسطين على كتاب وعاظ السلاطين ) ، وهو من الكتب التي هاجمت كتاب الوردي : وعّاظ السلاطين ، يقول فيها :
(إن الاعتراض على الظَلَمة غير واجب إذا كان فيه تحرّك فتنة تؤدي إلى تفرّق الكلمة ، وذلك لأن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة !!) .
ويرد الوردي على هذه الدعوة بالقول :
(( إن الخوف من تفرّق الكلمة وتحريك الفتنة نلاحظه في جميع ما يكتبه وعاظ السلاطين أو يخطبون به . وقد نسي هؤلاء أن جميع السلاطين الذين يدعون إلى طاعتهم وصلوا إلى الحكم عن طريق تحريك الفتنة وتفريق الكلمة .. فسلاطين بني أمية ورثوا الحكم من معاوية الذي شق عصا الطاعة على علي بن أبي طالب وفرّق كلمة المسلمين . وسلاطين بني العباس ورثوا الملك عن السفّاح الذي تمرّد على الأمويين وفرّق كلمة المسلمين .. وكذلك فعل الفاطميون والأيوبيون والعثمانيون . والغريب أن وعاظ السلاطين يذمّون كل فتنة تقوم في وجه السلطان ، فإذا نجحت تلك الفتنة واستتب لها الأمر أخيرا أخذ الواعظون يطلبون من الناس إطاعة السلطان الجديد وينسون بذلك طاعة وليّ أمرهم السابق الذي ذهب مع الريح ))(141) .
ويقتبس الوردي فقرة أخرى من كتاب العاني يقول فيها :
(( إن ليس على الرعية مع السلطان إلا النصح والتذكير والتعريف ، أما ما يؤدي إلى خرق هيبته ككسر آنية الخمور في بيته ، فتسقط حشمته ، فذلك أمر محظور منهي عنه )) .
ويعلّق الوردي عليه بالقول :
(( إنه – أي العاني – يخشى على السلطان أن تسقط حشمته وتُخرق هيبته. ومادام الأمر صار مَنوطا بحفظ الهيبة والحشمة ، فإن احترام السلطان قد أصبح واجبا على كل مؤمن ومؤمنة بغض النظر عما يقوم به من مظالم وفضائح. ولا بأس إذّاك أن ينحني المؤمنون لأميرهم تبجيلا ويرتلون في مديحه القصائد الطوال . فكل ذلك يؤدي إلى هيبة السلطان عزّ نصره . إن وعاظ السلاطين كانوا يجمعون على أن النهي عن المنكر واجب عند القدرة عليه . إما إذا أدى إلى الضرر بالمال أو البدن أو السمعة وغيرها فهو محظور منهي عنه . يقولون هذا في عين الوقت الذي يقولون فيه بوجوب الجهاد في سبيل الله . فهم لا يبالون أن يتضرر المسلم في ماله وبدنه مادام يحارب بجانب السلطان ضد أعداء الدين وأعدائه . هذا ولكن الضرر الذي يجنيه المسلم من محاربة السلطان الظالم يعتبر في نظرهم تهلكة ينهى الله عنها . ومعنى هذا أن الدين أصبح عندهم بمثابة طاعة السلطان في سلمه وحربه ، ولا يهمهم بعد ذلك أن يكون السلطان ظالما أو عادلا . فهذا في نظرهم أمر بسيط لا أهمية له والله يحب المحسنين )) (142) .