عباقرة اللصوص
قديما كانت اللّصوص تلتجىء لستر الليالي فتجعل من دُجاها لحافا تختفي بحلكته لتظلّ مختبئة عن أعيُن الناس حتى اذا ما أنهت مهمتها و أشبعت حشاشتها من مكامن الغنائم و الأرزاق ظلّت مستترة بجلابيبها الحالكة علّها تزيد فطنة فتستبين المخازن و مغاورها لتزورها خلسة و تمدّها بالأيادي العابثة لتنتهك حُرمة البيوت و تتعدّى الى ما دون ذلك لتقصف سعادة الأسر و الأهالي … فهي أشبه بالجراد ما ان حلّ بموطن الّا و قد جنى منه الأخضر و اليابس. أما اليوم و في هذا الزمن الذي تهالكت فيه القيم وانحطّت به الشيم فأضحى اللّص لا يستحقّ لستر الليالي و ليس في نفسه شيء من الخشية مما يجعله يرغب التخفّي عن عامّة الناس فبحكم حنكته و قوّة براعته جعل منه ذاك الناشط المتحرّك بكلّ عفويّة واقتدار على اثبات حضوره بين العامة و الخاصة دون أي إحراج أو تململ … و هكذا بات يملك ذوقا إلى أبعد حدود المنطقية ليتحلّى بشرعية الحسّ و الإدراك إلى غاية الإنسجام … وأما جودة التنمّق و التذلّل أضمرت ما فيه من دمامة الغشّ أو ملامح الزور و البهتان … إنه صنف عميق كعمق البحر تتخبط في أحشائه جلّ الخبايا و يظل سطحه هادئا كسكون الليل … إنه اللّص المميّز و الفريد من نوعه لا يخضع للتلبسات البشعة و لا يرضخ لسفاسف الأمور فغرضه من الحياة ليس أن يجمع الأموال و لا المجوهرات فهذا النوع من النّهب بات من خصوصيات سفاسف الناس على حدّ تعبيرهم فالإستيلاء على البيوت و المؤسسات لا يُجدي نفعا ما دام أهل البرّ و الإحسان يسعون في ترميم ما تسعى لتحطيمه الأيادي العابثة. وما دام أهل الخير من عمّار الأرض لا يذرون للمحزون دمعة ذارفة أو حسرة يراودها الألم. إن هؤلاء يكنّون في أنفسهم أمرًا أوسع ممّا نراه أو نستشعره في غيرنا. و الفكر الذّي يعجّ بمخازي الفساد تعفنه المكائد و العداوة ليستوي مع نفوس تتفاقم بالشتيمة و التّشفّي فيسعون لمحالفة الباطل و مؤانسة الرّياء و الكبرياء. و هذا الفكر لا يتسنّى له الإستيلاء لما يحمله للنكوص بشخصيّته و اقتناء الأمورالتي تقلّل من شأنه و إن كانت تسدّ حاجياته فقد أراد أن يتعفف ي حدّ نظره إلا أنه اختار مسلكا آخر ينتهجه بمفرده و يكون في ذلك قديرا حتى لا يترك من وراءه أثرا فتلاحقه رجال الأمن و تُحبط ما قام به من جهد أو عمل … فاختار أن يبرز نفسه في صورة الصديق الحميم و الناصح الأمين و يُجالس الناس على جميع أطيافهم و طبقاتهم ليجلب معهم أطراف الحديث بخيره و شرّه فيزعم أنه من مؤيديك تارة و من ناصحيك طورا آخر و رويدا رويدا يتسلّل إلى مغاور أحلامك و طموحاتك و دون شعور منك يضع بصمته على أجمل المحطّات التي كانت ترسمها نفسك لتسلك بها طريق حياتك و تختار بها منهج آمالك فإذا ما تحصل على رصيد وافر من مزاياك ظلّ يبعثر الحصى بين قدميك لينسج لك العثرات و يغرس بطريقك الأشواك و يسدّ المآرب و الأبواب بغية الإحباط و التدمير و الإنتهاك.
… إني لأرى في مثل هذه الأرواح شرّ النفوس و خبيثها … تتعنّف لفتك الآمال و الأحلام و يسرّها أن تستمتع بما يثير إزعاج غيرها من الناس و لأنّ سلب الأرزاق و الأموال ليس كسلب القيم و الهمم و الغزو الذي يضاهي الضيق أضرّ على النفس من غزو يتعدّى حدودا و أبعادًا ليقصف بأحلام الشباب و يدمّر أهدافهم و يستبدّ بكلّ نفس طموحة فيأخذ منها تلك المجهولات النّبيلة ليستثمر من بعضها لنفسه و ذويه و البعض الآخر يجعل منه رواية ليدمع بها كلّ من يراه و يجعل منه تلك المحطّة التي لا تقف عليها سوى الأجسام العاطلة و هناك يخرّ ساجدًا تحت راية العابثين.
إنّ الحياة النّكدة من صنّاع هؤلاء الذين لا يخشون لومة لائم شانهم الوحيد أن يدركوا مغاور النفوس الطامحة فإذا ما وجدوها في تألّق و بهجة أدركوا انها تعشق الحياة و تسعد بالمعرفة و تتهيّأ للأمان و صفوه العدل فتهتدي لذلك بنقاوة في الضمير و صفاء في الروح و بهجة في الطبيعة لأن الفكر الطاهر النقيّ من الشهوات و النزوات يليق به الإرتقاء لنطاق يتّسع للخير و المحبّة و لأسمى أبعاد التحضّر و أما أناقة تتضاهى بالجمال و تضمر سناءه و بهاءه فلا حاجة لنا بها في مجتمعنا و في حياة نلنا فيها القسط الوفير من التربية الفنّيّة المبنيّة على الجمال المبدع و ما علمتنا أن مواطن الخير إنما هي تكمن في السلوك الخلقي و المبدإ الإنساني و روحا تزداد اتّعاظا كلّما أنرت لها مآرب الخير و الوفاء.
لا يزال الناس يشتكون السلب و النّهب و الأمن يحيط الخلائق بفكر وهّاج و نباهة مستديمة و لا تزال اللّصوص متمرّدة بها الحنشة متلاشية الأفكار متمادية في القيام بعملها دون أن يُمازجها الكدر أو يشوبها العناء فتندرج حثيثا لتستجدي من الناس منافعًا شتّى و يبقى النزاع قائما بين هذه النخبة المتسلّطة و هؤلاء المروّعين لأنّ النقاش في هذا المنطق بات من السخافة مما جعل المجتمعات تزداد تمزيقا و تنصهر فيها المفاهيم البالية و الأحقاد البشعة و مهما كانت محاكمة اللّصوص تحت ظلّ قيادة موثوقة للتقليل من ممارستهم و الإفراط في إرهاب و إزعاج غيرهم فإنّ هذه المحاكمة ليست قديرة على الإسهام الفعّال لإقناع الناس بعودة الاعتبار و مناصرته.
و أما المعركة التي تقوم على تحقيق أغراض المكاسب الرخيصة بغية فشل الجانب المعنوي للروح الإنسانية لزعزعة القيم الأخلاقيةو الإحباط بطموحاتها الفنّية لأمرٌ يوحي إلى أنّ المغامرات مفعمة بالمخازي التي تسعى للتدمير و المؤامرة حول من هم يسعون لتحقيق أهداف حياتهم دون سرقة أو إمكانات ضخمة تتوج حياتهم بالمفخرة. و من هنا يكشف الوشاح عن الحقيقة المبهمة … و ما أجداها حقيقة حين تشعّ نيّرة من ضمير المعرفة و بصميم هذا الوجود الذي ما شاء الّلم أن يستقرّ بمواطنه و لا شاءت تلك المودّة أن تنشر أجنحتها على هذه البريّة … بل فرّت منهم و دعتهم يتأرجحون بين المغالبة و المصارعة حتى غرقوا في لجّة المصالح و ما ينتج عنها من غدر و أوجاع و مآيس. إن العناية بأخلاقنا تفرض علينا البعد عن الفساد و المفسدين حتى نحقق آمالا في ظلّ طبقة اجتماعية لا تحتلّها الخيانة و اسستبداد العابثين و لا تقبل العيش بين الذّئاب في ثوب النّساك و تأبى السيادة عن طريق الباطل و ترفض الوصول إلى الغاية النبيلة بالوسيلة الوضيعة و تنتظر مجيء موكب الحقيقة على أجنحة القيم و مراكب الهمم لنبتهل ابتهالا لا يغزوه الفكر السقيم تحقّق فيه الإخاء و المحبّة و التسامح و الرضى و التقارب و التعايش بحياة متطورة تخلو من العنف و الشّدّة و الحقد و التصلّب … لنترك عُصاة المودّة يهيمون في نزاعهم فهؤلاء فئة لا يعرفون من الحياة سوى فلسفة الصّراع و التمزّق و الانقسام و اضطهاد النفوس البريئة و ما تحمله بين جوانبها من تعطّشٍ لتحقيق مآربها … إن قسوة أفكارهم لا تضاهيها قسوة و سياسة التدمير ألذّ عندهم من سياسة التعمير هؤلاء ننعتهم بالقساة و نقول لهم بصوت متقطّع ينتابه الكدر ونفس يمازجها الألم “يا عصاة المودّة” تثرى ماذا ربحت تجارتكم سوى تلك المعاصي المؤلمة … و يا زارعي الأشواك في طريق الأبرياء و الضعفاء ماذا جنيتم سوى تلك البذرة القاحلة.
ألا تبّا لحياة منحتكم القيادة و وهبتكم السيادة فإذا أنتم بسوء عملكم مسودين … فباطلكم يفيض بالغدر و النقمة و ظلمكم يهطل بالجبروت و الطغيان و إنها لهزيمة نكراء تدفع بكم لنشر الشّرّ و بثّ القسوة و الحقد و إنّــا نناشدكم الحقيقة بصوت تخنقه العبر … فما ساد من جعل من قلبه بيدرا لمحصول الشّرّ و الفتن و ما عاش عبدا من ارتقى بمفهوم العزّ و السيادة .. لأن المجد لا يحلّ سوى لذويه…
بقلم الكاتبة نصيرة بحورة