سداد جواد التميمي
لا احد اليوم يجهل سيرة امرأة نجح حزبها في الفوز بجميع مقاعد برلمان بورما تقريباً هذه الايام. غير ان وضع هذه السيرة امام القارئ و الناس من خلال رقودها على اريكة للحديث النفسي قد لا يخلوا من التناقض خاصة ان تم سرد قصة حياة السيدة اونغ سان سو كي بطرق مختلفة .
السيرة الاولى: انها أمرأه ناضلت من اجل الحرية و الديمقراطية في بورما. قررت ارقى جامعات بريطانيا و العالم و هي اوكسفورد منحها شهادة الدكتوراه الفخرية قبل عدة سنوات و لكنها لم تستطيع تسلم هذه الشهادة حتى يوم الحادي و العشرين من حزيران هذا العام. غادرت بريطانيا الى بورما في عام 1988، و خلال اسابيع من وصولها تسلمت قيادة حركة معارضة للنظام العسكري في وطنها الام. استجاب العسكر بعد عامين من بداية هذه الحركة للمطالب الديمقراطية و فاز الحزب الوطني الديمقراطي بها. انتهى الامر برفض العسكر ، توازياً مع طبائعهم ، الى رفض النتائج ووضع من فاز بها تحت الاقامة
الجبرية و منهم السيدة الفاضلة. لم تتأخر الشعوب الاسكندنافية بمنحها جائزة نوبل في عام 1991 و قضت السيدة خمسة عشر عاماً تحت رقابة العسكر و حصارهم. انتهى الامر و استجاب العسكر لمطالب الجماهير و نجحت السيدة و حزبها بالفوز بانتخابات هذا العام بدون منافسة تذكر. زارت السيدة هيلاري كلنتون و غيرها بورما و تحركت السيدة كي شرقاً لتتسلم جائزة نوبل و الدكتوراه الفخرية.
ان وضعت هذه السيرة امام الناس فالجواب هو ان السيدة هي رمز الامل و هذا ما صرح به كبار رجال السياسة في الغرب و بريطانيا.
و لكن هناك سيرة ثانية يمكن اضافتها ووضعها امام الناس التي لا تعني كثيراً بالسياسة و مصائبها.
السيرة الثانية: السيدة كي من جذور ارستقراطية و والدها كان من كبار ضباط الجيش ايام استقلال بورما. تلقت تعليمها في بورما و الهند و في مدارس خاصة و توجهت بعدها نحو اكسفورد لدراسة العلوم الاقتصادية و السياسية و الفلسفية. احبت شاب باكستاني يدعى طارق حيدر و انتهت العلاقة لسبب او أخر. فشلت في الحصول على درجة جيدة في النجاح و تخرجت بالمستوى الثالث و الاخير في الستينيات من القرن الماضي. توجهت نحو نيويورك و تم تعيينها في اروقة مكاتب الامم المتحدة و بدأت تراسل احد المفكرين من اكسفورد المولع بالفلسفة البوذية، و شدت الرحال الى اكسفورد ثانية لتتزوج من السيد
آريس. حاولت السيدة كي التحاق ثانية للدراسة في اكسفورد في امل الحصول على درجة افضل من السابقة و تم رفضها. ابنها الكبر ألكسندر (39 عاماً) يعيش في معبد بوذي في أوريغون اما ابنها الاصغر كيم(35عاماً) فيقضي حياته في مركب خشبي في مقاطعة أكسفورد بعد ان هجرته زوجته و شدت الرحال الى البرتغال مع طفليهما. لم تزور السيدة وطنها خلال تلك الاعوام حتى وصل خبر تدهور حالة والدتها صحياً في عام 1988. خلال اسبوعين بدأت بالعمل السياسي تاركة زوجها و اطفالها. تدهورت حالة زوجها الصحية و سمحت لها السلطات بمغادرة بورما و لكنها رفضت و وودع زوجها الدنيا في 1999. لم يحرص احفادها و
عائلة زوجها الراحل لقائها !
و هي
تزور المدينة بعد الاخرى و تلقي التصريح بعد الاخر لجهات الاعلام.
ان وضعت السيرة الاولى او الثانية على انفراد او تم جمعهما ، فالنتيجة هي الحصول على اكثر من رأي و تحليل نفسي لشخصيتها. في عالم حضاري اعلامي يتميز بثقافة نرجسية سيصدر الحكم الذي يقول بان هذه المرأة شانها غير بقية الرجال و النساء. من جراء رد الفعل التلقائي لكل انسان يواجه مصيبة بعد اخرى، تراه يسرع في ندب حظه و يبدأ بصياغة اغنية مأساوية يذيعها على من يقابله من بشر. اما هذه السيدة فقد رفضت الاستسلام لمصائب القدر و استمرت تناضل من اجل رفع شعار الديمقراطية و الحرية في موطنها الام. رفضت العودة الى زوجها و طفليها و مغادرة بورما لتودع زوجها قبل رحيله من
الدنيا في التسعينيات بعد ان رفضت السلطات في بورما السماح له بالدخول لتدهور صحته و اقترحت ان تغادر السيدة البلاد بدلاً من ذلك.
لكن البعض ينظر الى السيدة كي نظرة تحليلية نفسية غير النظرة المثالية للأعلام. هذه السيدة هي مثال الفرد الناجح في تحين الفرص لأغراض شخصية بحتة. امرأة عانت من انتشار هويتها و بحثت عنها في المدارس اليسوعية في الهند و بعدها في جامعة بريطانية. فشلت في علاقاتها العاطفية في الجامعة و حتى بعد تخرجها و انتهى الامر بتعلقها ببديل الاب. لم تتخلص من عقدتها في عدم السماح لها بعمل شهادة أخرى في أكسفورد لتجاوز محنة التخرج بدرجة واطئة، و ارتباطها بزوجها ربما كان لمنفعة شخصية ايام دراستها العليا في الثمانينيات. لم يكن رجوعها الى الوطن الام الا لوداع امها و ما هي
الا اسابيع و سنحت لها الفرصة من جراء شهرة والدها للخوض في عمل سياسي كشفت الايام الى يومنا هذا افتقارها الى الكفاءة فيه. يمكن ملاحظة النقطة الاخيرة من خلال تصريحات غير مسؤولة لا تبعث الامل و الطمأنينة في قلب اي مستثمر غربي قد يفكر في بورما مستقبلاً. في نهاية الامر ما هي الا زوجة هربت من زواج غير سعيد و ضحت بزوجها و طفليها من اجل المجد و الشهرة و رفعت راية الديمقراطية و التضحية من اجل بورما لتتجاوز عقد نفسية شخصية.
قد يفقد البعض تنظيمهم العاطفي و يصرح كيف يمكن لامرأة فشلت في رعاية مصالح اطفالها ان ترعى مصالح بلد عدد سكانه يقارب الاربعة و الخمسين مليون نسمة. تركت أطفالها و هم في عمر المراهقة و غاب الاب عن دنياهم و الحياة باسرها. انتهى حال احدهم ان يعيش في معبد ديني و الاخر فشل في رعاية بيته و اصبح اشبه بالمتشرد يعيش على هامش الدنيا.
ان سيرة هذه السيدة الفاضلة تطرح العديد من التساؤلات حول سلوك الانسان في عالم السياسة و الشهرة و المجد . هناك من يقول انها مثال التضحية و الإيثار و لكن الكثير من البشر من الذين يكافحون يومياً لرعاية عائلته و اطفاله، سيقولون هذه المرأة مثال التضحية و الايثار الكاذب و قد يتجاوز ذلك ويطلق تعبير الانتهازية عليها.
هناك من يقول انها ضحت بعائلتها و اطفالها من اجل حب الوطن و تربته و حقوقه المشروعة في الديمقراطية و الحرية. على ضوء ذلك ما هي الا اعلى رموز نكران الذات. غير ان هناك من سيقول ان تلك التضحية هي من اجل سد الاحتياجات النفسية التي لم توفق في تلبيتها السيدة من قبل و بعد زواجها و ما هي الا اعلى مثال من أمثلة السلوك الأناني للإنسان، و رفع شعار الوطن و تربته ما هو الا احد مظاهر النرجسية بكل ما تعنيه الكلمة.
تزامنت قضيتها مع قضية نلسون مانديلا و كفاحه ضد العنصرية. غادرت بلادها لحضور الاحتفال بعد الاخر و معالم صراعات عرقية و اضطهاد لأقلية بنغالية بدأ يتصاعد في بورماو لم تتطرق السيدة الفاضلة الى هذا الامر في احاديثها ، فهي لا تزال في نشوة الشهرة و الحصول على شهادة فخرية قد تسد ذلك النقص الذي تحمله منذ ايام شبابها.
خلد التاريخ مانديلا بحق.
و قد يخلدها ايضاً، بحق او بدونه، فحضارتنا اليوم حضارة نرجسية.
سداد جواد التميمي
ملاحظات:
1 سيرتها الشخصية: انظر الى المقال الافتتاحي لجريدة التايمس اللندنية في 20 حزيران 2012.
2 تصريحات السيدة: انظر الى مقال حول بورما في الايكونومست يوم 17 حزيران 2012.