جمال، طفل فلسطيني يبلغ من العمر عشر سنوات أتى عبر زوارق الموت مع عائلته الى السواحل الأوروبية، وتم انقاذه من الغرق من قبل عائلة أوروبية. عندما بلغ سن النضوج، قرر الذهاب سيرا على الأقدام بحثا عن جذوره. خلال سفره يتعرض لكثير من المغامرات ويكتشف تناقضات بين بلاد تنعم بالأمن وبلاد تعيش الحروب.
كيف لهذا الطفل الثائر، الذي شبّ وأصبح رساما أن يزين بريشته جدرانا أكلتها النيران بفعل حروب كارثية؟ كيف، بأنامله، سيجعل هذه الجدران تغني وهي التي شهدت صراعات طاحنة ؟
تلك هي المغامرة التي ترويها لنا الكاتبة اللبنانية ـ الفرنسية منى دوغان جمال الدين في كتابها الجديد “عندما تغني الجدران”، الذي صدر هذا الشهر في نسختين: فرنسية وعربية.
رواية عندما تغني الجدران صدرت أولاً بنسختها الفرنسية تحت عنوان Quand les Murs Chantent عن دار النشر الفرنسية إيديلفر- Edilivre. وترجمتها الكاتبة الى العربية. يذكر أن منى دوغان جمال الدين سبق ان نشر لها عدة كتب باللغتين العربية والفرنسية .
الكاتبة تعرف عن نفسها:
منى دوغان جمال الدين ولدت عام ١٩٦٥ في بيروت. نشرت ديوان شعر بعنوان الحب الخالد في عام ٢٠١٦ وترجمت من العربية إلى الفرنسية ديوان شعر بعنوان بي حيرة الصياد في شباط ٢٠١٩، للكاتب والشاعر المصري ناصر عبد الحميد رمضان، وقد نشرت اعمالها دار النشر الفرنسية إيديلفر- Edilivre.
قدمت أول رواية باللغة الفرنسية وترجمتها الى العربية تحت عنوان روحانا السفر الى الذات – Rouhana le Voyage Interne نشرتها على موقع أمازون في حزيران ٢٠١٩. كما نشرت أول كتاب خواطر لها باللغة العربية تحت عنوان العزف على الكلمات على موقع أمازون في آب ٢٠١٩.
وصدر حديثا لها الرواية الثانية باللغة الفرنسية تحت عنوان Quand les Murs Chantent في دار النشر الفرنسية إيديلفر- Edilivre التي ترجمتها الى العربية تحت عنوان: حينما تغني الجدران في ربيع 2020- نشرت على أمازون.
المحور الرئيسي للرواية
طفل فلسطيني من قطاع غزة، يدعى جمال الحسيني، من أب فلسطيني وأم مصرية؛ الأب مسلم والأم يهودية، كانوا يعيشون في قطاع غزة الى ان تعرضت غزة الى عدوان قاس. وفي نهاية عام 2008، شنت القوات الاسرائيلية حربا على غزة. كان في عمر التسع سنوات حينما اصيبت والدته بجراج بالغة، فقدت جراءها ذراعيها وتوقف عملها كمدرسة. وفي نفس السنة، تعرض محل الخياطة لوالده الى القصف. وكمعظم العائلات الفلسطينية التي تعيش الفقر والقهر والحروب اضطر الى ترك القطاع بهدف اللجوء الى بلاد آمنة. فسلكوا معبر رفح ومن هناك توجهوا الى ليبيا حيث زوارق الموت كانت بانتظارهم. ففي الجزء الأول من الكتاب – صفحة 14- تقول فيرونيكا – احد الشخصيات في الرواية معبرة عن غضبها مما يحصل لأولئك الذين يأتون عبر تلك المراكب:
” كيف يخاطر هؤلاء الناس بحياتهم هربا من الحروب وهم لا يعرفون انهم يحفرون قبورهم بأيديهم؟ من يستطيع ان ينفذ من براثن انياب حيتان المحيطات وغضب البحار؟ هذا الطفل محظوظ جدا، فما زال على قيد الحياة. لكن ما هو مصير ملايين المهاجرين الذين يغرقون او يظل مصيرهم مجهولاً عبر هذه الامواج العملاقة؟”.
خلال هذه الرحلة يفقد الطفل عائلته، بعض افراد عائلته ظل مصيرهم مجهولا والبعض الآخر وجدت جثثهم في صقليا.
نجا جمال، بعد ان وجدته عائلة أوروبية يغرق على احد السواحل الإيطالية. وهنا تبدأ رحلة جمال في بلاد ما وراء البحار والمحيطات. تتكفل به عائلة اوروبية؛ الزوج يدعى داني من أصول فرنسية، والزوجة تدعى فيرونيكا، من اصول ايطالية. هذان الزوجان اللذان بلغا الخمسين من العمر فقدا الأمل بالإنجاب. فيأتي هذا الطفل كهدية من السماء. تقول فيرونيكا في احد المقاطع – الجزء الأول – صفحة 13:
– “خلال كل تلك السنوات، كنت أحلم بإنجاب طفل”. كانت تنظر الى السحب في سماء مشرقة متسائلة، محدثة نفسها: “هل هذا الطفل هدية من السماء؟ وإذا كان الأهل ما زالوا على قيد الحياة، كيف لي ان اقبل فكرة الانفصال عنه بعد ان تعلق قلبي به”؟
يكبر ويشب الطفل الذي اتى من فلسطين الى أوروبا في عمر العشر سنوات. يدخل معهدا ويتقن فن الرسم بفضل تشجيع داني الرسام..
وحينما يبلغ جمال سن الرشد يقرر العودة الى غزة سيرا على الأقدام من أوروبا الى آسيا، من إيطاليا الى الشرق الأوسط وكله أمل ان يجد أهله الذين فقدهم منذ عشر سنوات.
وهنا تبدأ رحلته حيث يتعرض الى الكثير من المغامرات وفي الوقت نفسه يكتشف التناقضات بين بلاد تنعم بالاستقرار وبلاد تعيش نتائج الحروب. لكن في الوقت نفسه يكتشف جمال الطبيعة والمناظر التي وهبنا اياها الله والمعالم السياحية التي يتميز بها كل بلد. فيقول حينما يصل الى اسطنبول في تركيا في الجزء السادس – صفحة 107-
“إسطنبول! أيتها المدينة الفاتنة العظيمة ! كيف استطعت ان تمزجي جاذبية التراث الغربي بسحر التراث الشرقي الخيالي؛ ما حقيقة سر مقاربة القديم بالحديث؟
إسطنبول! ماذا أقول عن هذه المدينة حين يغمرها ظلام الليل، ترى التلال وكأنها تتكئ على الأنهار، والمياه تتحول الى لآلئ تحت وهج الفوانيس الغامضة، والقباب والمآذن تسمو نحو سماء خاشعة.
أرى فيك لوحات جدرانية كبيرة تجسد برقة الفن العريق”.
وإذ انتابه في بداية عبوره لأوروبا بعض الإرهاق والتعب وبعض القلق من المخاطر التي يصادفها في الطبيعة، إلا انه في الجزء الثاني من رحلته، أي لدى عبوره للحدود التركية-السورية، يتعرض الى الكثير من المفاجآت.
وهنا تختلط المشاعر: الحنين الى الماضي والذكريات التي تتدفق، انبهاره بسحر الشرق الى شعوره بالغضب والتمرد.
ففي الجز السابع- صفحة 134، يصف انبهاره بمدينة القدس ويعبر عن عشقه لها قائلا:
كيف أستطيع، بريشتي المتواضعة، أن أصف مدينة القدس المقدسة، حيث تستقر النفس وتسرح بتأملاتك في سماء خاشعة، حيث العبق المميز للأرض الخصبة تسافر بك الى كواليس ألف ليلة وليلة؟
كيف أنقل الى مسمع الآخرين رنين الأجراس التي تمتزج بصدى أذان الجوامع وهمس المعابد الورعة؟ كيف لي ان اتجول في مدينة القدس العتيقة وازور أسوار سليمان وان لا اقف عاجزا عن وصف حجم هذا الكنز الحقيقي التي تتميز بها لؤلؤة الشرق؟
كيف تقف في ساحة قبة الصخرة، حيث معجزة الإسراء والمعراج للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وان لا تبهر بزخرفات القبة الذهبية الرائعة؟ كيف تزور المسجد الأقصى، ولا تتذكر رحلة الرسول الليلية من مكة الى القدس؟ كيف لا تشعر بالخشوع امام معبد سيدنا سليمان الذي بني تكريما لله عز وجل؟ وكيف لا تشعر بالقشعريرة امام ضريح سيدنا عيسى المسيح في كنيسة القيامة، امام هذا المكان المقدس الذي يقصده ملايين الحجاج من جميع انحاء العالم كل عام؟
أعترف انني وقعت في عشق غير مسبوق لهذه المدينة.
وعلى الرغم من انبهاره بسحر تلك البلاد، كان غاضبا مما صنعته أيادي الإنسان. فحينما يصل الى غزة بعد رحلة شاقة يكتشف حجم الدمار ويصل الى منزل عائلته شبه المدمر ويعرف حينئذ ان مصير عائلته ما زال مجهولا وان جاره اعز صديق جرح واصبح مشلولا… هنا تبدا ثورة جمال على كل هذا الواقع فيقول متمردا مخاطبا هذه الجدران الصماء، في الجزء الثامن– صفحة 141:
“في ذلك اليوم، لم يبك، كان يصرخ بأعلى صوته على جدران صماء وعمياء، بيد ان صدى صوته أيقظ الأموات الذين يرقدون بسلام.
في تلك الليلة، لم تدمع عيناه، لكن كان غاضبا مما شاهده من مآس محفورة على جدران قاسية ومهينة.
صرخ للجدران، للركام، للأثاث الممزق أو لما التهمته النيران.
ماذا يريد هؤلاء المجرمون الذين يشنون الحروب في كل مكان؟ هل يوقنون ماذا يرتكبون من جرائم وكوارث على تلك الأرض؟ هل يعقل ان نكون في القرن الواحد والعشرين وهمجيون يعيشون كما في العصور القديمة؟
أحلم… لكن كل شيء يبدأ بحلم”…
وبعد ان اصيب بالإحباط واليأس، ولحظة عودته الى أدراجه، يعود الى الوراء ويقرر تحدي الجدران الصامتة فيحول هذا الجماد الى ناطق يصرخ ويتمرد ويغني فيقول في الجزء الثامن – صفحة 143-144:
“من الآن فصاعدا، ستتعلمين كيف تنطقين، كيف تصرخين، كيف تتمردين؛ من الآن فصاعدا، صداك سيخرق الوديان ويهز القلوب النائمة؛ من الآن فصاعدا، ستغني وستسحرين عالما يعيش في كبوة، عالما يعيش في أبراج صامتة.
ثم تناول حجرا وحفر اسمه ورسم خريطة الطريق الذي سلكها ليصل الى نقطته الاخيرة وقال لنفسه:
“ربما، يوما ما، ستعود عائلتي وتعرف السبيل الي…
أو ربما، جيل جديد فضولي سيعرف ان شخصا يدعى جمال الحسيني قد مرّ من هنا وأعلن على انقاض الماضي انه ما زال حيا يرزق”.
وكتحدّ لهذا العالم الظالم، مزق كل الملصقات التي تتغنى بالحروب، جعلها فتاتا، وبريشته محا كل التعابير التي تحرض على الكراهية.
أخذ ريشة الرسم، وبحركة خفيفة، بدأ يرسم مناظر طبيعية على الجدران القاتمة، الغارقة في الظلمات بحيث امتزجت ألوان الطبيعة الزاهية لتكسر الحدود التي صنعها الإنسان.
وبعد ان ملأ الجدران بالرسومات وحولها الى جدران تعبر وتغني يتوجه الى القارئ قائلا في نهاية الرواية – صفحة – 153:
وهل تسمع صوت ماما فيرونيكا المليء بالحب والحنان؟
وهل تسمع النبرة الجميلة لصوت بابا داني؟
ولكن، قبل كل شيء، أيمكنك ان تنصت الى صوت الإنسان وان تدرك طريق الإنسانية الصحيح؟
أنا اسمعه وأدركه جيدا.
لأن الجدران …
تغني… وتغني …
في كل الأحوال، ستغني…