أن نحلم بطبع مخطوطاتنا كتباً فذلك نصف الحلم أما النصف الأهم هو أن يتم توزيع الكتاب داخل الوطن وخارجه.
(*)
قبل سنوات اقتنيت نسخة من كتابه (قرعة جرس لكائن جميل)، ولا قيتُ صعوبة ً مبهجة ً في قراءته !! فالكتاب مرايا متداخلة ومنها تفوح ممالك الورد، ولكل مملكة أجراسها . صعوبة القراءة أحببتها، شعرتها قراءة متحررة من الأحكام المسبقة و شعرتُ أكسب أسلوبا وأربح إنسانا فذا، صار بيني وبينه عقدا معرفيا. ثم قرأتُ روايته (الحكواتي) فتعمقت صداقتي مع نصوص رفيق شامي.. منذ أربع سنوات وأنا اتنقل بين أزمنة وأمكنة وشخوص (الجانب المظلم للحب) روايته الألفية الصفحات، تفيأتُها وما أزال لأن مرايا كتابات رفيق شامي من الممكن أن (نبصر بها وجودنا ونستبصر مصيرنا)..
(*)
يخبرنا عن ما بعد النص/ عن المشاق الفردية في توصيل المطبوع العربي، المكتوب باللغة الألمانية (كنت أتنقل من مدينة لأخرى في رحلة طويلة أقدّم بها كتبي القليلة لجمهور صغير يتشوق إلى قصة أدبية مثيرة) من المؤكد أن الآخر المركوز في مركزيتهِ لا يكترث للمكتوب من قبل هامش مهمل حتى وإن كان المكتوب بلغة المركز.
(*)
رفيق شامي لم يترجل عن صهوة التوصيل والترويج لما يكتبه عن معاناة الإنسان العربي. تحمّل رفيق شامي الرحلات المتعبة والأجر الضئيل المتوزع بين وسائل المواصلات والخبز الكفاف. هو يريد كتابة ً تحرره من عزلة ٍ تدفعه لوحشة الغرابة و لا حظ شامي فرقا بين الجمهور والمؤسسة الثقافية الألمانية (الشعب الألماني يقرأ بشغف وينصت لمحدثه بكل تركيز) لكن دور النشر الألمانية (لم تكن بنفس انفتاح الجمهور على العالم).. من خلال فتوحاته السردية يتوصل رفيق شامي إلى ملامسة الجدار العازل بحثاً عن بؤرة رخوة يحولها ثغرة ثم كوة فنافذة فباب فهو موقن (لكل جدار نقطة ضعف) لذا تفرغ كليا لسردياته تاركا شهادة الدكتوراه في الكيمياء، معلقة على جدار الغرفة في ألمانيا. وهكذا قفز فنيا من الهواية إلى (فن أعيش له ومنه كل يومي ) وهذه حالة تشكل 5% في الوسط الثقافي العربي، فهو لم يعش صعلوكاً كما يفعلها بعضهم ، ولم ينتظر دعوات توّجه له، كما (ينسّق) بعضهم لنفسه بل كثّف محاضراته فتأرجت أقواس نصوصه جماهيريا وأضاءت المدارس، الجامعات ،المكتبات ،النوادي الأدبية، مراكز الشبيبة: كل هذه المسميات رحبت به وأصغت لأفعاله السردية، وكانت أمسياته بشهادته( من دون أي مرافقة لا بهز البطون ولا الصحون) مقابل كل ذلك كما يقول رفيق شامي(كنت سمحا إلى حد الغباء بما يتعلق بالأجر والمبيت والطعام) كان يلقي ثلاث محاضرات في اليوم ولا ينال ثلاث وجبات. لكن نال صداقات عالية جودة ومضافات في البيوت أو الفنادق وطابعة وأوراق بيض تنتظر تسويدا من خيال وتجارب رفيق شامي ، وتكشف للمؤلف أنّ الألمان لا يعرفون عن الشرق سوى : الحرب والبترول. هذه الكشوف جعلت شامي يناصف جهده بين روايته الألفية الصفحات (الجانب المظلم للحب) وبين رواية جديدة تنحو منحى خاصاً تخاطب الطلبة الألمان (كنت آمل من ذلك بأن يفهم هذا الجيل حياة الشبيبة في بلدي ليس أكثر..) وسؤالي هنا هل رواية (يد ٌ ملأى بالنجوم) تجنس رواية تعليمية / اخبارية؟ ومَن الأفضل في المجال السرد الروائي أم السرد المقالاتي الوقائعي في تفهيم الشبيبة الألمانية؟
وهل السرد الروائي خلال المخيال واسترجاعات الماضي : أكثر نفعا مع الشبية الألمانية؟ سنلاحظ أن الفعل الروائي لدى شامي يغترف من منابع طفولته ويجعل الحكي سردا روائيا، وينضّد السرد من خلال تبادل رسائل بين صديقين باعدت بينهما الجغرافيا. يتموضع الصديق في أمريكا ويراسل أصدقاءه في سوريا. وهنا تطفح حساسية المؤلف التقنية وهي تصطاد، ملل التراسل . من خلال تجربة شامي الحقيقية
(تذكرتُ أن الرسائل في مهجري الألماني بدأت تشح حتى من أقرب الناس إليّ بسرعة. فبعد سنة واحدة أضمحل عدد الرسائل إلى رسالة في كل شهر من الوالد، ورسالة في السنة(كرت معايدة) من الأقارب في عيدي الميلاد ورأس السنة).. والاستدراك الثاني من المؤلف شامي أن ضآلة النوعية الرفيعة في الرسائل، وثالثا، ان التفاوت بين يفاعة بطل الرواية الذي يتراوح عمره بين 14-18 سنة وبين أسلوب الرسائل المكتوبة.
(*)
إذن الرسائل تسبب سردا فاترا، ولا بد من حيلة تقنية أجدى، تحتوي الوجه والقناع في المنطقة العربية: وجه ٌيسرد يوميات ٍ خبيئة ً في حيز مكاني بعيدا عن العيون.. كاتب اليوميات غير ملزم بالزمن المستقيم، أحيانا تخبو شهوة الكتابة لديه، أو تلتهب حماسا، وأثناء الكتابة الجديدة يدرك المؤلف شامي أن خطابه الروائي ينطلق منه إليه وليس إلى القارئ الألماني
(فجأة كتبتُ بشكل جديد عن كل ما كتبته حتى ذلك التاريخ لم أحدث قراء وقارئات ألمان أو عرب إنما كنت في كل صفحة أحكي لنفسي قصصا من حي العبارة الشعبي الذي عشت فيه والذين أدين له الكثير) نلمس أن المؤلف يمتح بئراً ثرة ً ويستعيد نفسه وزمنه وبهذا يمكن اعتبار المكتوب أشبه بالسيرة الذاتية الروائية، وهنا يتمازجان المؤلف والسارد وتكون الكتابة لملمة شظايا زمن لا يمكن اعادته إلاّ مسطورا، في وعاء الكتابة
(*)
في نهاية هذه المقدمة لروايته (يدٌ ملأى ) يناقض نفسه المؤلف رفيق شامي حيث يسحب البساط من فعل التذكر ويهبه إلى خياله السردي :
(وغني عن التنويه أن كل أشخاص الرواية، مكانها وزمانها من صنع الخيال، وأي تشابه بينهما وبين أمكنة وأشخاص وأحداث في دمشق فهو محض صدفة)!!
(*)
أمنية رفيق شامي هي أمنية الكتابة لدينا كلنا (كنت آمل كما يأمل كل كاتب بأن يجد كتابي طريقه إلى قرائه..).. هذه الأمنية ليس من السهولة تحقيقها بسب محدودية توزيع المطبوع فحتى أنشط الموزعين فهو يكدح من أجل توصيل كتبنا وينتهز فرصة المعارض ويدفع مبلغا باهضا من أجل الحصول على حيز ليعرض مطبوعاته في معارض الكتب .لكن رفيق شامي أثناء السنة الأولى من الطبعة الرديئة(5000 نسخة) التي بيعت ببطء على مدى عام أحتل الكتاب مكانا مرموقا في أعين النقاد. وأمطرت الصحافة مديحها ودار النشر نفسها تفاجأت أن حقوق ترجمة الرواية بيعت إلى خمسة عشر لغة في أقل من سنة. وفي السنة التالية أصدرت دار النشر طبعة أنيقة جدا للكتاب نفسه.
(*)
ر فيق شامي حالة خاصة ألتقت فيها إرادة التصميم، وتفهم الآخر لهذه الإرادة وهذا اللقاء لا يمكن أن يتم للأسف داخل أوطاننا.. السؤال هو ماذا ممكن أن نفعل نحن الذين قررنا تحديد أقامتنا وقيامتنا في هذا الخراب الوطني ؟