راشد حـُسين والـقـتـال بالـكـلـمـات
الدكتور عـبد القادر حسين ياسين
كان معلماً للأطفال، يزرع حب البرتقال في نفوسهم،
كما كان فدائياً يغني للثورة والكلمات المقاتلة ،
التي تؤجّج اللهيب في أعماق الثوار،
وكان صاحب الدور البارز في إنشاء منظمة “الأرض” ،
التي تخرّج من بين صفوفها عـدد من شعراء الأرض المحتلة.
في مـَصْـمـَصْ، في أحضان الجليل ،
أبصرت عيناه نور الحياة عام 1936.
عمل معلماً يربي الأجيال،
وأخذ على عاتقه مهمة توعية البراعم الصغيرة ،
وغرْسِ حب العروبة في النفوس البريئة المتفتحة على الحياة الجديدة.
انطلق صوته عالياً ليرفع اسم الوطن عالياً بين الطلاب،
ويقود مسيرتهم في الكفاح والمقاومة ،
لكن السلطات الصهيونية، كما هي عادتها ولا تزال ،
عملت على إخماد صوت الشاعر الجريء،
وحرمان البراعم الصغيرة المتفتحة على مقاعد الدرس ،
من تنسّم عبق الحرية، ليعيش فترةً رهن الاعتقال….
وقد حبته هذه المرحلة التي قضاها في التعليم والسجن،
أفكاراً كبيرة أغنت قصائده بالوعي والتجربة والمعاناة الحية،
وقد اعتقل الشاعر أكثر من عشر مرات قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره،
فكان شعره وثيقةً حية لمعاناة أهله.
نشر الشاعر كتاباته الاحتجاجية على صفحات جريدة “المرصاد“ ،
وغـدت كتاباته ذاكرة اللحظة الحية،
مما أثار حنق الطغمة العسكرية، فعملت على إبعاده عن الجريدة،
فاضطر للعمل عاملَ بناء في تل أبيب،
تساعـده زوجته الأمريكية الأصل على شظف العيش،
وقد استطاع أن يثير اهتمامها بالقضية الفلسطينية،
فتحمست لها ووقفت إلى جانبه.
كان الشاعر كلما خرج من سجنه شرع قلمَه ،
سلاحاً يقاتل به مع إخوته على كافة الجبهات الداخلية والخارجية،
فارتفع صوته من فوق منابر الصحافة والمنتديات في فلسطين وخارجها.
أدرك الشاعر مبكراً أن الصهيونية تقلب الحقائق وتطمسها،
وتصف المقاومَ مخرّباً وإرهابياً،
لذلك آلى على نفسه التأكيد على أن حرية الإنسان الفلسطيني،
ليست اعتداءً على حق الآخرين،
وإنما هي دفع للعـدوان ، وردّ للظلم واسترداد للحق المغـتـصب.
بعد قيام إسرائيل، نُقلت أملاك الوقف الإسلامي ،
إلى “القـيّم على أمـلاك الغائبين”، وصودرت أملاكه،
وقد استطاع راشد حسين أن يجسّد هذه اللعـبة الصهيونية الجائرة،
ويترجمها إلى لغة الشعر بسخرية حادّة:
“الله أصبح غائباً يا سيدي
صادرْ إذن حتى بساط المسجـدِ
وبعِ الكنيسة فهي من أملاكه
وبعِ المؤذن في المزاد الأسـودِ
حتى يتامانا أبـوهم غـائب
صادرْ يتامانا ، إذن ، يا سيدي
لا تعـتذرْ من قال إنك ظالم؟!
لا تعـتذرْ من قال إنك معـتدِ؟!
حررت حتى السائمات غـداة أن
أعــطيت إبراهام أرض محمد
هل شعـبك المختار أمدن سيدِ!؟
أم شعبك المختار أمدن معتدِ!؟
أنا لو عـصرت رغيف خبزك في يدي
لرأيت منه دمي يسيل على يدي!..”
إن هذه اللوحة الناطقة المعبّرة عن رومانسية ،
تحمل الألم الإنساني جميعه، أشبهُ بلوحةٍ رخامية،
يعلّقها الشاعر على جدار الزمن ،
بعـد أن نقش عليها رسوماً خالدة لا تمحى.
لقد استطاع الشاعر بسخريته اللاذعة ،
أن يخلّد هذا النوع من الإرهاب الذي تمارسه إسرائيل ،
ضد المواطنين العرب وأملاكهم داخل الوطن المحتل،
وظل صوته يرتفع قوياً هادراً ،
لم ترهبه تهديدات الحاكم العسكري،
ولم يأبه للإنذارات المتواصلة الموجهة إليه.
لكن إسرائيل أرغـمته ، بعد أن يئست من سجنه ،
على النزوح عن وطنه الذي ترعرع فوق ثراه الْطَيب، واستظل بظلاله.
أُرغـم الشاعـر على مغادرة فلسطين عام 1966،
في الوقت الذي كانت فيه المنطقة العربية ،
تعيش على فوهة بركان من الأحداث السياسية والعسكرية ،
التي أسفرت عن اندلاع حرب حزيران في العام التالي.
ونظراً لوعيه المتفتح وحماسته القوية لقضيته العادلة،
ارتضى الشاعر أن يتوجّه إلى نيويورك سفيراً لمنظمة التحرير،
وليكمل هناك حلقة النضال التي بدأها في الوطن.
كان الشاعر يقاتل بالكلمات، ويناضل بالأفكار،
مما أثار حقد اللوبي الصهيوني، فحاصرته الأيدي الأثيمة،
وعملت على إطفاء جذوة الحياة في جسده، وذلك في شباط عام 1977،
وعلى الرغم من أن حياة راشد حسين كانت شعلة متوهجة،
من النضال المتواصل التي لم يخبُ أوارها في يوم من الأيام،
إلاَّ أنه كان يعمل بصمت، وكان يعطي أحسن ما يكون العطاء.
لم يتطلّع إلى شهرة وأضواء براقة،
رحل تاركاً ثلاثة دواوين: “مع الفجر”، “صواريخ”، “أنا الأرض لا تحرميني المطر“،
وقد رثاه محمود درويش بقصيدته المؤثّرة “كان ما سوف يكون“:
كان ما سوف يكونُ
فضحتهُ السنبلة
ثم أهدته السنونو
لرياح القتلة!..
يـُعـتــبـر راشد حسين واحداً من الشعراء ،
الذين يمثلون بدايات الشعر الفلسطيني المعاصر،
وقد فُتن بشعره كثير من الشعراء وقلدوه،
ويمكن أن نقرأ فيه جانباً من جوانب النهوض الشعري الحديث،
كما نقرأ فيه مرحلة كاملة للمنفى الذي لم يكن راشد حسين قادراً على تجاوزه،
فثمة تحولات تكشف أن الكلمة ليست صدى،
وإنما هي فعـل، بدأه الشاعر في مدارس فلسطين وعلى منابرها،
ورسم المسافة بينها وبين نيويورك بكلمات كتبها ورددها ،
فتحوّل موته من حدث إلى رمز، ومن قصيدة شعـرية إلى موقف:
“وترى نجوم الليل مثل معـسكرات اللاجئين
وكهيئة الغوث الحزينة، يخطر القمر الحزين
بحمولة من جـبـنة صفراء، أو بعـض الطحين
هـذي حديقة… حديقـتها لقومي البائسين