نارين عباس
تتساقط قطرات الماء من داخل سقوف البيوت الترابية في القامشلي …وهي مازالت تلعب بتلك القطرات ..تضحك بصوتها الطفولي يملئ أرجاء البيت
اكتمل القمر هذا اليوم في سماء برلين الجرداء..سرت في شوارعها كعادتي تائهة من جديد وضائعة في محطة أفكاري الجنونية لا أعرف إلى أين؟
الشوق والرغبة ..والأحلام تكاملت كلها لتشكل بهاء هذا القمر من فوقي .. وأزداد الشوق إلى أن أتدفأ بحنين عذب شفاف ..
يجعلني أشعر بالحياة, أكثر, في هذه المدينة. ..
شوقي أرغمني أن أتوقف في محطتك هذا اليوم .. مع أنني أعرف أنني أسير في طريق لا نهاية له.
فكم مرارا وددت أن ألقي بحقيبة سفري إلى عالمك المجهول وأعطيك مفاتيح قلبي الذاخرة بالأشياء البسيطة لتنقذني من دوامتي التي أصارع فيها كالثور بحثا عن لحظات سعيدة تجعلني امرأة..فقط امرأة..
لكنك أيها الحبيب المجهول تركتني أنتظر مرارا في محطاتك مع دموعي والرياح تهاجمني والبرد يأكل مني دفئي
كالنار التي تأكل الحطب ..
تركت شعري يطول كالأطفال الجائعين من حولي ..ينتظرون …
برلين وتظلين إمبراطورية الحزن في نظري حتى الموت ..مدينة أتعبت ناسها ولم تتعب ..للحب مفتوحة على مصراعيها للحزن ..للفرح .للجنون الذي لا ينتهي ..فيها
برلين مقبرة الأسرار جعلتني أن أكون كالصخرة الصامدة وفي داخلي لاشيء سوى قطع متكسرة..
مرارا شعرت بالوحدة الباردة … كالموت يتسلل إلى جسدي خفية … جعلتني أن استسلم له, وكم مرارا كانت لدي رغبة جامحة أن أبوح من أعماقي إلى كائن ما ..وكم كان فشلي كبيرا خائبا ..كم مرة عاد إليّ فشلي كطفل يصرخ إلى أحضاني ..
عندما يهبط الليل على برلين كان قاسيا جدا يشبه قساوة الرب الذي خلقنا ..
هذا الليل الذي غمرني ببرده القارص مرارا فأصبح قطعة ثلج تجمدت عبر السنين وبقيت في مكانها ..ساكنة لا تتحرك ..
ليل برلين المخيف في أكثر الأحيان جعلني مرارا أغمض عيناي في سكونه المخيف وأطير بروحي وأتمدد كريشة ملساء إلى جانب رجل مجهول
يبتعد عني ألاف الكيلومترات ..هناك في مدينتي النائمة ..قامشلو وأسير في أزقتها وأرقص في أعراسها وأعشق كنائسها وجوامعها..
وأسواقها المكتظة برائحة الطفولة السمراء..
كل شيء ضاع بضياعي في هذه المدينة ..حتى كائن أشكو إليه كان عصفورا تائها بين أغصان حدائق برلين الكبيرة ينقر على أخشابها..
وعند بزوغ الفجر أعود إلى عالمي المخيف لأكون لاشيء سوى امرأة بلا حدود..
أمام باب المقهى الصغير في احد أحياء برلين لجئت مرة أخرى إلى هنا ..أحيانا رغما عني وأحيانا رغبة مني ..
كلما أرغمني الشوق واللهفة إلى شيء جديد أجدد به جسدي وروحي ويعيد إلي الحياة والحقيقة ويعيد إلي قطعي المتناثرة من حولي وكلما حاولت أن اجمعها أخفق بالعثور على بعض منها ..
في مقهى مدينتي التي املكها ..جلست على طاولتي التي أرغب أن اجلس فيها دائما .المكان الذي أكون فيه دائما قادرة على أن أرى كل شيء من حولي في تلك الزاوية القابعة في سكون مجهول
وأراقب هذا الحبيب المجهول ..أريده رغما عنه أن يعطيني الشعور بأنني موجودة ..
يتحرك داخل المقهى ..
أراه بدون أن انظر إليه مباشرة يحوم قلبي حوله حائرا و تخطو خطواتها الخائفة معه ..
كلما تقدم نحوي ..شعرت بأنني افقد الوعي واشعر بالغثيان لان الدم يتدفق إلى كل مكان في جسدي
اشعر ببراكين وحمم تثور في كل أطرافي حتى أناملي وكأنها تعزف على البيانو رغما عني…اهو الحب ؟؟ اهو الأمل ؟؟أم ذلك البريق في مساءات يتوه فيها المرء وهو يبحث عن بصيص أمل في عتمة حالكة ..
أرتشف كأس النبيذ الأحمر ليخمد ثورتي وسجائري التي تناولتها من حقيبتي اليد السوداء جعلتها كسجينة أسيرة بين أناملي
اقضي على السيجارة واحدة تلو الأخرى وأحولها إلى دخان كثيف من حولي وكأن أثار الحرب انتهت في هذا المكان
أنظر إليه كلما عرفت انه لا ينظر باتجاهي ثم أتشرد بأفكاري إلى نقطة مجهولة ..انظر إلى الفراغ ولا أرى إلى الفراغ من حولي ..
حتى أنني أحيانا أتحول إلى تمثال زجاجي فأتكسر عندما يحدثني وهو يمسح كاسات النبيذ ليعيدها إلى مكانها ..
“هل تريدين أن تتناولي شيء ما؟؟ “
“بعد قليل ..”
أحاول أن تجنب نظرات الزبائن من حولي فأخطف نظراتي إلى جدران المقهى المطلية بألوان خافتة ..
أنه مزيج من ديكور سحر شرقي ..بالرغم من تكاليفه البسيطة إلا انه يشعرني بالراحة والدفء المفقود في أحشائي.
في هذا المقهى الصغير وفي هذا العالم الكبير من حولي امتزجت الحضارات الكردية والإيرانية والعربية
بالرغم من صراعاتها التي لم تنتهي على ارض الواقع لكنها هنا اجتمعت بدون أية ثورة وحروب ..قتل ودمار أو أي ضوضاء..تثير اشمئزاز القلب.
اللوحات المعلقة على الجدران هنا وهناك تشرح صدري كلما وقع نظري عليها ..هذه اللوحات لمسات فنانين شرقيين دفنوا أحلامها فيها وفي ألوانها رائحة شوقهم إلى وطن بعيد, ربما تعيد إليهم طفولة مسروقة بأيد حكوماتهم الفاشية وشبابهم الضائعين في شوارع برلين الطويلة..
هنا يلقون معاطفهم المحملة بالماضي ويستبدلونها بمعاطف جلدية ..حيث الحيوانات هنا أيضا راقية ..
أتلذذ في سماع الموسيقى لام كلثوم ..هايدي الإيرانية وموسيقى كردية من الطرب الكلاسيكي فأحوم في فضاء سحري شفاف لبعض الدهر ..
يبتسم لي كلما سنحت له الفرصة بدون أن ينقطع عن عمله فينشرح قلبي ويتدفق الدم إلى عروقي التي هجرتها منذ عصور..
أرتشف النبيذ الأحمر بين الحين والأخر وسجائري تبدأ مجزرتها بين يداي من جديد ..رمادها يتكاثر من حولي ويموت ماتبقى منها في منفضتي
رويدا رويدا ..
يرغمني أن أتمسك بخيوط الأمل بالرغم من معرفتي بانتحارها مرارا
استعيد الذكريات الجميلة وتقتحمني أمواج صغيرة من الذكريات الحزينة
تقدم نحوي انحنى برأسه إليّ ..حتى كنت ابلعه كحيتان البحر ..همس في أذناي
“أنتي خائفة من النساء الجميلات قالها بسرعة وذاب في عمله من جديد ..بعد أن ترك ابتسامته معلقة في أمامي “
ابتسمت له من تلك الزاوية الغامضة التي اجلس فيها حتى بدئت اكتب له على ورقة صغيرة …..لماذا ؟؟!!!
قذفتها له بعد أن خطيت خطوتين صغيرتين داخل هذا المقهى ..
تمعن في الورقة بالرغم من هذه الكلمة الوحيدة التي كتبتها …!!
أتابع أنا رحلتي في الفراغ والانتظار وسجائري الملتهبة ..وانظر إلى ورقة صغيرة تنتظر أن أقرأها أنا هذه المرة
لأنني املك تاريخ حافل من النساء..؟؟!!
ضحكت بصوت مسموع ..كان الخمر هو الذي يضحك ..هو الذي يبتسم هو الذي يعشق ..هو الذي يكتب ويتبادل النظرات
آه ما أجمل هذا الخمر الذي يشتهي كل شيء لا حدود له ..لا نهايات ..كل شيء جميل بعينيه ..لا قبيح في عالمه ..
شتائاته ربيع قرية نائية ..مساءاته أحلام عذراء ..
هذا هو الخمر الذي يجعل الإنسان يعبر عن باطنه بدون مجاملات ولا خوف ..حتى قلت بصوت مسموع ..”إنني أحب هذا المقهى ..!!”
تناولت السلطة التي أحضرت لي ..اقطعها كما تقطع عمري في شوارع برلين ومتروهاتها الطويلة ..كثيرة هي محطاتها التي لا تستقبل
امرأة بلا حدود مثلي ..
لم أكن اشعر بالجوع لكن هذا النبيذ اللعين يرغمني أن أضع أي شيء في أحشائي كي أتخلص من ذلك الصراع الكلاسيكي الأبدي الذي كبر معي ..
ولم يصغر ..
أحيانا في لحظات السعادة أو السعادة التي تشبه تلك اللذة في مساءات حيث القمر يعانق الجسد والنجوم نائمة في نشوتها العارمة
تتدلي على أطراف أنثى مستعدة لاقتحام عوالم غامضة ..اشعر بسقوطي من مرتفعات حيث..حيث الغيوم تغطيها بأقمشة شفافة
إنها تلك الأحلام التي تسقط فيها من علو شاهق وعندما تستيقظ يكون العرق أخذ طريقه ليصب في مكان ما على جسدك الوحيد ..
دفعت فاتورتي المليئة بالنبيذ وخرجت إلى شوارع برلين ..لم اشعر بالبرد فقد كان النبيذ يغطيني حنانا يشبه أمومة بعيدة ..انتظرته
كما انتظرتني أمي هناك في القامشلي..
انتظرته كقطرات الندى على أوراق طرية كثيفة اللون خضراء ..
انتظرته كما أمي انتظرتني أن أعود والقي عليها بقايا تراب مازال معلقا تحت أظافري الملتهبة من القلم ومن حبرها الذي يجرني معه..
اشهق من أعماقي ..مستعدة أنا لأية معركة .. كانت طاقتي بلا حدود ..في هذا اليوم ..
انظر من حولي إنها برلين وأنا جسد صغير يموت ويحيا مع أضوائها ألاف المرات
تقدم نحوي بعد لف جسده بمعطف طويل التقط يداي الباردتين لعبور هذا الشارع حيث سيارته الضائعة بين أكوام السيارات الأخرى..
لم استطع سوى أن أطيعه بجوارحي التي امتلكها هذه اللحظة له ..
“صدقيني عندما أوقف سيارتي هنا لا توجد سيارات بهذه الكثرة هنا ..وعندما انتهي من العمل لا أجد سيارتي بتك السرعة التي أوقفها ..”
فتح باب السيارة القديمة .. جلست إلى جانبه ..يبتسم لي ببراءة طفل صغير ..ولا اعرف إلا أن أقابله بابتسامة أم حنونة ..
برلين التي تبدو هذا اليوم حنونة على غير من عادتها ..
وفي ظلمة الليل وفي ساعات الليل المتأخرة هذه قررنا أن نلتقي بتوقيت غير معلن ..
في شوارع برلين الرطبة التي نمتلكها قاد سيارته ..إلى جانبه جالسة أنا كفراشة تكسرت أجنحتها من ذرات المطر التي لا تنتهي في برلين
في داخلي أنين ينبع من الصميم يقول لي عيشي عيشي هذه اللحظة وليكن ما يكون ..
اعرف مسبقا أن اللحظات السعيدة زهور صغيرة تموت على حافة الطرقات ..
اليوم جريئة أنا لأستقبل كل هذا الحب ..
كنا نتحدث عن أشياء بسيطة نمتلكها في عالمنا الذي ننتمي إليه والذي من المستحيل أن نعود إليه ونحن الذين نسبح في محطات الغربة
وخوف عميق يتصدر قلوبنا ..خائفون في الغرق في زوبعة جديدة
أحاديثنا كعصفوريين تائهين على أغصان حدائق برلين ترفرف بأجنحتها تارة من شدة الفرح..وتارة يخبئ أجنحته تحت أغصان أشجارها
عبر نافذة السيارة التي يقودها ..تأخذني نظرات خاطفة لأنظر إلى سماء برلين ..هذا القمر يلاحقنا في كل مكان
كان منظرا أكثر من رائع ..القمر وهذه الغيوم الرمادية المتراكمة من حولها ..تشبه ليلة صعود الأنبياء إلى السماء ..
أحيانا يختفي القمر بين تلك الغيوم وسرعان ما يعود ليدهشني بروعة هذا الخالق لذي أبدع في كل رسوم الكون.
عبر نافذة السيارة التي يقودها ..تأخذني نظرات خاطفة لأنظر إلى السماء ..القمر يلاحقنا في مسيرتنا وبعض الغيوم البيضاء منتشرة حولها
يختفي هذا القمر في نوبة موحشة ..وأنا مازلت ابحث عن أمل مفقود
هل تعرف بأنني في يوم اكتمال القمر لدي طاقة ..للحياة لأشياء كثيرة لا حصر لها ..يصعب علي أن القي على جسد الكلمات ثيابا ترمز لمعانيها
إنها تشبه تلك الأفلام التي يعدو فيه الذئب إلى أعالي الجبال ويتواجه مع القمر وجها لوجه ..ويفتح فمها معبرا على ما في داخله من طاقة كبيرة
فتهرع قطعان المواشي للبحث عن مخبئ لجسدها الضعيف ..
قهقه بصوت جعلني أن استيقظ من نشوة أحلامي اليقظة هذه وبدء يصدر كصوت الذئب وهو يقول
من منا الذئب ومن منا الوديع؟؟
كم شعرت برغبة أن ألامسه بكلتا يداي ولكنني لم أجرؤ وانتظرته وسط أشواقي المكتملة..
عندما أراه تتجدد الدنيا في عيناي وتكبر الشمس لتنير هذا العالم من حولي وتنمو أزهاري صغيرة على أطرافي
يا ليتني كنت قلما بين أناملك ..لكتبت لك روايات الحب على صفحات جديدة بيضاء
يا ليتني كنت خريطة على طاولتك ..لتبحث فيها عن كنوز مدفونة ..لكنت أرشدتك ألى كنوزي التي تغرق جسدك كله ولا تغرق..
يا ليتني عطرا جديدا تضاف إلى سلسلة عطورك لتنثره على جسدك ..لطردت به كل امرأة تعشقك
يا ريتني استطعت أن اختبئ في ثنايا معطفك هذا وحملتني معك أينما ذهبت في هذا الشتاء..لشعرت بالدفء حتى يحل الربيع على
برلين من جديد..يا ليتني ..ياليتني ..
كنت غارقة في التفكير لحد أنني ..نسيت بأنني جالسة إلى جانبه في السيارة إلى جانب هذا الرجل الذي تحكم في مشاعري كملك عظيم
ما بالك شاردة هكذا ..؟؟ بماذا تفكرين ؟؟
لاشيء أنا دائما هكذا ..!!
أوقف سيارته على حافة إحدى الطرقات في برلين ..الشوارع الشبه الخالية في ساعات الليل المتأخرة هذه
كنت انظر إليه إلى أن أوقف السيارة فجأة ..أدار برأسه إليّ وامسك كلتا يداي وضغط عليهما بقوة
لماذا يداك كالثلج ..؟؟
لا اعرف لكنني أعاني من هذا الشيء منذ سنوات أو ربما دمي بارد كما يقولون
بل أنت قطعة من السكر.. قالها وهو يتحسس عروقي الشبه جافة التي زحف إليها البرد في غفلة مني وبدأت تقتل خلايا كثيرة في أطرافي
كان يحدثني عن مملكته وأنا عن مملكتي وأحاديثنا تتأرجح مابين عامودا والقامشلي
مابين الطفولة والحب ..الهارب
عيناه التصقت في بؤبؤ عيناي حتى استطعت أن أرى تلك الخلايا الصغيرة التي تبعث إلي كل هذه الأشعة الجميلة فأغرق في كومة من الزهور
التي لا حدود لها ..
اقترب مني ..حتى شعرت بأنني قطعة مدفون تركها الزمن ليزيح الغبار عني من جديد ..وأنا التي ابحث عن أمطار موسمية تغسل جسدي
المشوه مابين قامشلي وبرلين ..
قاد سيارته من جديد بعد أن طلبت منه ذلك ..انه لشعور رائع أن تسبح في شوارع هذه المدينة التي لا تنام وتزيح من عليها قناع النهار لتراها على حقيقتها في مثل هذه الليالي..
هذه المدينة لا تنام وان نامت فهي ثملة بأشياء كثيرة ..كم هو رائع أن تقود سيارتك في شوارع لا تنتهي وتشعر انك تملك هذه المدينة وتحضنها
هذه المدينة لا تنام ..رائحة كائناتها النائمة ممزوجة بأحلام ملفوفة بغبار الماضي الذي تعلق بأجسادهم ..في هذه المدينة قد تشعر انك تملكها
وتضمها إلى جسدك المنهك ولكن في الحقيقة أنت تملك قلب وحيد في مدينة كبيرة ..
توقف أمام مطعم من مطاعمها الكثيرة التي لا تنام بعد أن قاد بي السيارة في طرقات مثيرة
ماذا تريدين أن تأكلي يا سكرة؟؟
لاشيء
آه بليز قولي ..إنني اشعر بجوع شديد ولأنني صاحب المطعم واعد الأطباق بنفسي فلا أملك شهية لأطباقي ..
أريد قهوة لو سمحت
فقط قهوة !!
عن جد سوى قهوة مع حليب وسكر..أو احد أصابعك ..هههه
انتظرته ..أراقبه عبر نافذة السيارة مع أنني اشعر بجوع شديد ومعدتي تتقلص وتتمدد إلا أنني لم أكن ارغب بالطعام ..
لم تمضي لحظات قصيرة حتى تقدم نحوي وفتح باب السيارة ليلقي إلي كيس من النايلون من مطعم تركي ..وأعطاني كأسا من القهوة
الساخنة ..
عبثا أحرك هذا السكر والقي بالحليب في جوف الكأس وأحرك كما أحرك عمري بملعقة الأيام التي مضت ..
أتحسس الكأس واسرق دفئها إلى جسدي
اشعر بنوبة البرد من جديد كلما شعرت بضياع أخر يقترب مني ..
التهم هو فطائره التركية المحشوة باللحم والجبة وأنا أشم رائحة الطعام تخترق انفي ..واشعر بتقيؤ لا أود أن أفصح عنه ..
بعد أن انتهى من تهدئة طفل جائع في معدته ..قال
هل تعرفين يا سكرة ..إنني احلم في لحظات الاسترخاء والعودة إلى جسدي بأن أعيش مع امرأة كردية ..؟؟
لم استطع في البداية سوى أن ابتسم ثم أضاف
لان لغتنا مشتركة هذا الشيء اللعين الذي يجعلني لا انحصر في زوايا ..أقاوم الترجمة من اجل جملة صغيرة عابرة ..أحيانا أترجم الكلمات الجميلة فتخرج بشعة وبثوب جديد بعيدة ألاف الكيلومترات عن ما أعنيه..
حاولت أن افهم ما يعنيه فأنا في وادي وهو في وادي أخر ..له قضاياه التي اجهلها وأنا لدي قضايا ذات أبعاد أخرى..!!
ثم أضفت
لكنك اخترت هذا الطريق لوحدك..
ربما ما أفصح عنه كان سببا تافها لحزن شديد في داخلي ..أزيحه بابتسامة ..
لكنني اشتاق إلى دفء شرقي ..بعيدا من هنا ..احن إلى عامودتي الصغيرة ..
قلت له بشيء من التحدي
أنا لا استطيع أن افهم الرجل الشرقي الذي يخلع ثيابه الشرقية للمرأة الغربية ويتحول إلى أغا متسلط بعد انهزامه المتكرر مع شقراوات..
فيختار صغيرة من بلدته ..طرية كالقطن ..
أهي الهزيمة من نساء أوربا وهن في خريف العمر ..وهن اللواتي بارعات في لغة الجسد الذي يبحث عنه الرجل الشرقي
وما إن يمل منها يبحث عن سذاجة معطرة في ربيع أعمارهن..
لماذا يمر في مرحلة العبودية التي لا ينتهي منها الرجل الشرقي ثم يعود طفلا مدللا إلى أحضان كردية ..حيث الأحلام الوردية
غارقة في ضباب كثيف تحت وسادتها ..ربما هو أيضا يبحث عن وطن جديد ليحط برحاله ..
لماذا لوحته الكردية يجب أن تكون عذراء مكتملة الأوصاف ..وحين يغضب يقذف بها إلى الأعالي ..ولا يعلم أين تسقط هذه المرة ؟؟!!
لا اعرف يا سكرة لكنها رغبة جامحة أن أعود واخترق الماضي ..أن أشم رائحة الغبار في جسدها ..
أحيانا نخجل من كل تلك الأتربة التي تركت لنا أثار في كل أطرافنا ..وسط هذه الأضواء الجذابة ..بالرغم من ذلك نحن إلى أن نغوص في ذلك الوحل
ونرسم على وجوهنا أشياء جديدة ..
قهوة جاراتنا الثرثارات هناك ..التي طالما أزعجتنا بصوتها الصاخب ..رائحة الأعشاب التي تتدلي حول القبور في أول أيام العيد ..
أشياء وأشياء أصبحت تحفيات في ذاكرتنا الشرسة..
توقفت فجأة عن حديث عقيم كررته مئات المرات في ذاتي ..عندما انظر إلى مرآتي ..والبس أثواب العمر بألوان مزركشة ..حتى إنني احرقها
بسيجارتي التي ترافقني ..والبس لونا داكنا كغيوم برلين ..
توقفت عن النطق ..وأصبحت لوحة صامتة لا توحي إلى شيء..
حاولت أن اخفي وجهي فأدرت برأسي مرة أخرى إلى نافذة السيارة
قال ..هل تعرفين انك تلك المرأة التي تجذبين كل أنواع الرجال من حولك ؟؟
لماذا تقول لي ذلك ؟؟
إنها الحقيقة وتساءلت كثيرا ما هو ذلك الشيء ؟؟ لقد اكتشفت ذلك في مطعمي الذي تترددين إليه ..
جمالك غامض وفيها الكثير من التحدي ..تلك الجزر التي في داخلك ..وشواطئك الهادئة شيء ساحر ..
“ألف رجل يتمناك يا سكرة”
وكأنه حطم في داخلي تصاميمي الجديدة لهندسة كانت متناسقة ..أغمضت عيناي لبرهة من الزمن وابتلعت ريقي من جديد..وأنا مازلت أصغي إلىه وكأنني أسير في حقول ملغومة..لا أعرف متى تتفجر ..لأفجره من حولي ..
عدت لأحدق في عيناه الزرقاويين من لون بحار بعيدة امتزجت مع الظلام فلم يبقى سوى بريقهما ..
وأنا ذلك الزورق الصغير أعبر مساحاته وخائفة أن اغرق ..في زوبعة جديدة..
كانت لدي رغبة أن أجهش من لاشيء وأغطي راسي بوسادة تبكي أحلامها معي ..
قلت له من جديد والتحدي هو ذلك الذئب الذي يعود إلي ..
“كم احلم أن أكون امرأة عادية ..جاهلة من الكتابة والقراءة ..لا تعرف القلم ولا النبيذ ولا السجائر ..
أعيش في قرية لا تصلها الشمس ..احلب أبقار وأرعى ماشيتي والملم أطفالي ..أخاف من زوجي ومن الرب الذي ينظر إلي ..في السماء .
أليس جميلا أن لا تفكر إلا في الأطفال والطبيعة وزوج ينتظرني أن أفك ضفائري التي تطول في غفلة عن العالم ..”
أضفت إليه وأنا اشرح جنوني المتبقي ..
“وهذا الصراع بين الشرق والغرب ونحن منقسمين مابين هنا وهناك ..حتى أننا لا نعرف في أي اتجاه نسير ؟؟
مازلنا نلهث على درجات الحضارة ..ما نكاد نصل إلى منتصفها حتى نجد أنفسنا أننا لم نصل إلى أول الدرج..”
قال بشيء من التعجب والاستغراب !!
“لم أكن اعرف انك تحملين كل هذه الأفكار في جمجمتك الصغيرة التي توحي بهدوء بستان مليء بالرمان ..
ضمني إلى صدره من جديد ..وساد صمت طويل بيننا ..”
“هل قابلت مجنونة مثلي من قبل ؟؟”
“لا ..لا أنت لست مجنونة بل تعيشين في عالم وبين مجانيين لا يفهمونك ..!!”
“صدقني بحياتي لم أكن سعيدة ..لكنني اخلق لنفسي أحيانا لحظات عابرة اسميها سعادة..”
“اصبري وعيشي حياتك كما هي مثل الآخرين ..أنا أيضا كانت لي أحلام أخرى غير هذا المقهى الذي يأخذ كل وقتي ..
شوقي إلى عامودا جرح اسود وعيون أمي مازالت ترسم لي طريق العودة ..مازالت نيرانها تحرقني في الداخل نيران سينما لم اعرف عنها سوى في الأحاديث لكنني أتحسسها وكأنها أمام ناظري تلتهب ..فتشعلني معها كل مرة ..”
كان يتحدث وهو يتحسس يداي اللتين نامتا بين يديه ..رفع رأسه إلى الوراء وشهق من أعماقه..ثم ترك يداي لبرهة وابتسم وكان سيئا لن يغير عالمنا وبدء يبحث عن كاسيتات في زاوية سيارته ..
سحبت أناملي من أطرافي وخبئت وجهي من جديد ..هذه المرة لم استطع أن اخفي دموعي ..أغاني محمد شيخو جاءت كي اقذف دموعي خارج جسدي وأعيش مع كلماته وكأنني الآن بجوار جرحه الذي لهث إلى كل أصقاع كردستان وعاد مهزوما إلى قبره ..في ليلة من ليال آذار
آسفة ..لم استطع إلا ..أن ..!!
اشعر إنني أنا نسرين وهناك ألاف النسرينات مثلي بودهن أن ينزرعن من جديد في تربة أكثر خصوبة ..
لا استطيع أن اصدق بأنك تلك الأنثى القاسية على نفسها !!
أريد أن أعود إلى ارض تستقبلني وتعيد إلي لونا أجمل ..
هنا أضرم جسدي ألاف المرات بنيرانها واصبغ أناملي بألوان رمادية ..
التقي بأناس من لغتي ..يرفضونني لأنني رفضت أن يمشي أمامي رجل ولا يراني ..إنها أبواب جديدة غير مرئية يقفلونها أمامي ..
يفشلون في تغيري وافشل في التعبير عن ذاتي ..الحقيقية ..هم لم يخلقوا ليعرفوا الحقيقة ..ولا يريدون سوى أن نكون دائما كذبة نيسان ..ولكن كل يوم ..كل يوم كذبة نيسان ..
في مدينتي هذه حاولت مرارا أن أجد وطنا صغيرا يؤويني ..
أو رجل عظيم يحملني بين يديه كباقة قرنفل أو طفل يرضع من أثدائي..
هذه الأشياء ربما تشعرني بأنني موجودة ..
أوقفني بقبلة غريبة ..فيها الكثير من رائحة التفاح ..
كم تمنيت أن اختبئ بين ثنايا معطفه حتى يحل الشتاء ويأتي الربيع إليّ بأمل جديد ..
لكنني وجدت الطريق مسدودا ..رائحة الأقفال كانت كثيفة ..وعدت مرة أخرى كملك مخلوع ..
سقطت جدار الصمت بيننا من جديد ..
قال ..سامحيني أنا لا استطيع أن أخون زوجتي ..يكفي أنني خنتها مرارا
لنذهب إلى البيت أوشك الفجر أن يتلاشى
قاد بسيارته إلى منزلي ..إلى سجني الصغير ..إلى جنتي العذراء ..إلى كوكبي المضيء
إلى خيمتي السوداء إلى شمسي المشرقة ..إلى أسطورتي المقدسة إلى حلمي الغريب إلى دفتري المليء بشخبطات الأيام ..إلى شقتي التي تتوسط أحد أحياء برلين
ودعته وفي داخلي ..انكسرت جذوري من جديد ..وتدلت أغصان عمري على أطرافي ..
فتحت باب المنزل ..ودعته من شباك الانتظار أو شباك المطر كما اسميه .لمحت له بان يذهب ..بلا عودة ..
تخلصت من أشيائي التي تخنقني وقذفت بحذائي إلى الأعلى .. حتى سقط ..بعيدا عني ..
انظر إلى شقتي ..إلى زوايا تنظرني ..إلى صدى صوتي الخافت تحت ضوء القمر الذي يأتي إلي كل شهر ليلقي على نظرة عتاب ..
اتجهت إلى الحمام وبدء الماء الساخن يسقط شلالا دافئا تلاحمت الدموع مع الماء ..كتوأمين ..
جسدي يؤلمني ..
انظر إلى حوض الاسماء الصغيرة في زاوية منزلي …اسماكي التي تسبح في عالم صغير ..عالمها الذي لا يحوي على رجل ..ولا امرأة ..ولا وطن …
وأنام على سرير يحضنني …حتى الصباح
برلين