عزيزة رحموني
خرج من جسد الشعر ليكون شاعرا بلون آخر،سكن حواس اللغة الدارجة العذبة السلسة ،فصار بتعدد اصداراته عامل خلْق يسعى لتطهير القصيدة الزجلية من الغبار والاستسهال ،حتى صار صوتا شعريا متميزا يستطيع الجمع في حيوية نصوصه بين الحداثة و بين مرجعياته المعرفية .مما نآى بدواوينه عن ان تكون خزنة للتقاليد الشعرية النمطية أو للتراث الزجلي و ظلال الماضي ،ربما لأنه أدرك مبكراً بأن الشعر الزجلي مدرسة أدبية تستحق التجديد و قطع الحبال الصوتية المتهرئة لتنقية المكتبة الزجلية من التكرار والاستنساخ بين مختلف الأجيال .
حميدة بلبالي شاعر بمخيلة واعية .ترسانةُ نصوصهِ شمسٌ تُسْند ماء الدارجة و تفجر جينات الكلام. لشعره سحر، و رهافة روحه تكتسي غواية الوصف، يخاطب العقل و الوجدان ، يجلد الذات يرفض المكوث في المربع القديم للغة و يمضي الى جوهر تجربته الشعرية ليكشف للمتلقي -مع كل نص جديد- بعضا من ذاته الشاعرة و همومها و غيومها و فلسفتها في الحياة و الكتابة …
في شعر حميدة بلبالي، يحرر التخييل نفسه ليصبح خلقا جماليا يفتن اللغة و يطوعها ببراعة لا تترك فراغات في القراءة ، يملأ النصوص صورا توِّ وِّل و تكشف و تلامس سقف القلب و العقل معا ، يدخل الكينونة الوجودية بمكونات لغوية تجمع بين الموهبة و عمق التجربة الشعرية الواعية (الديوان الاول : لسان الجمر) ،
اذا كان الشعر جوهرا عاقا فإنّ بلبالي له من الموهبة ما يكفي لترويضه و لخلخلة اللغة الشعرية و تعرية استعاراتها و تفكيك رمزيتها و مجازها – ربما لانه آت من فضاء الرياضيات يستطيع قياس انفاس شيطان الشعر و عرض صهيله- يكفي القارئ ان يرحل في ديوانه( الرحيل فشون الخاطر) ليدرك فيض العمق و عمق الفيض في تجربة حميدة بلبالي .
حميدة بلبالي وجه جميل للزجل المغربي و العربي- الذي يعرف مستويات متفاوتة و نزاعات باردة و غيابا للتنافس الحقيقي ما بين الزجالين – زجال يجرف ما يركد في الذاكرة الشعرية من زجل عتيق او محدث . شاعر تُغَيِّبُه الصحافة التي تُفضل اتباعا تهُب على المواقع الالكترونية و و ورق الجرائد كالجراد الموسمي لا يجلب غير الّلعنة و الجفاف الابداعي …حميدة بلبالي ليس مبنيا للمجهول نقديا و لو ان الصحافة الادبية قائمة على العلاقات الشخصية و الشللية. حاضر متوهج في مهرجانات الزجل-
لكني اتساءل عن موقعه في (الانطولوجيات الزجلية و هل هناك اصلا انطلوجيا للزجل؟) –
حميدة بلبالي جوهرة شعر الزجل المغربي المعاصر تشهد له دواوينه الذي احدثت انقلابا في الزجل العربي إذ يُحَمّلُ نصوصه تطعيما شديد الانتقاء ،ليقيم احتفالاته باللغة كما يراها و يحسها.كأنه يدعو هاته اللغة الى التحرر من نفسها لتكون مضادة للتحجيم و الاقصاء دون ان تكون فضفاضة أو هلامية بل منقذة للذاكرة من التكلس و الظلام.ايسألوا (ريوس المعنى) او انصتوا ل (الساعة سؤال) لتدركوا (حروف الابدية)
في فضاء تيفلت تنفلت نصوص حميدة بلبالي واقعية وصفية ملحمية دانية الرطب مُلِحّة في صورها السريالية ديوان (شمس الما) الذي يُصَعِّد فيه لغة عميقة تكسي الصور لحما و عظما و تغدق عليها انسنة َحكيمةَ تكسر جمود الزجل و تنبني على اختراق المألوف بنسجها للقصيدة نسيجا اسطوريا جامعا بين نقل الصورة و الهلوسة الشاعرية العميقة المعنى الملغزة .
امام شاعر زجال متميز له طبيعته الكوسموسية الخاصة المدجنة، لا يَسَعُ القارئَ الرصين إلا ملامسة الحرف الصادح الذي لا يُقاس بغيره و لا يسَعُه إلا أن يكون معادلا للشاعر ليصبح متلقيا متأملا متذوقا و شريكا فاعلا في الكشف المعرفي و الجمالي للوصول الى استنتاجات ناضحة عن ذلك التفاعل الشخصي-الثقافي-الفكري مع النص الزجلي ل أحميدة البلبالي ..