ونحن نعيش حالة الأزمة في المنطقة والعالم بأقصى حدتها وأشكالها، حيث أنها تعمقت بشكل كبير في جميع مجالات الحياة حتى أصبح الاستمرار من دون تغيير جذري في الماهية والذهنية والسلوك شبه مستحيل، وبات بنية النظام العالمي وتوابعه الإقليمية والدولتية القومية واستمرار هيمنتها أمام الكثير من التحديات المادية والمعنوية، تستوجب و بالضرورة إعادة ترتيبات الأولويات والتموضعات، لكون السلطوية والمركزية الشديدة والاقتصادوية والأنانية المتجذرة في النظام العالمي كحداثة لاتمت بشيء للواقع وللحياة الطبيعية التي امتازت و تتميز بالتنوع والتعدد. وبات مانعيشه من الحروب والصراعات والإبادات بمثابة حرب عالمية ثالثة وبأدوات وأشكال مختلفة أقل ظهوراً وربما أكثر تأثيراً وفعالية على الإنسان والمجتمعات والشعوب والمناطق والبلدان المستهدفة من الحروب العالمية السابقة.
لاشك إن ماتم تسيير شؤون وإدارة المنطقة به، عبر ما تم تصديره للمنطقة من الأفكار والفلسفات وطرائق التفكير الاستشراقية والعمل ونماذج السلطة والدولة في القرنين الأخيرين، كانت بعيدة عن ثقافة المنطقة وشعوبها و كان بغرض الهيمنة على المنطقة وتحديد بوصلة الأمور السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأيدولوجية فيها ونهب ثرواتها وإبقائها في وضع ضعيف مفتت ومغلوب على أمره وفي حالة تناحر قوموي وديني ومذهبي.
ولو ذكرنا بعض الأشكال والممارسات والمؤشرات التي تجسد و تعكس حالة الأزمة الحالية مثل فرض أدوات الفوضى الخلاقة على التحركات الجماهيرية ذات الطابع الشبابي والمطلبي العادل والتسلل لها وتوظيفها حسب الغاية ، إنتشار أو نشر الإرهاب تحت ستار المقدسات والأديان و كذلك تزايد الأمراض والفقر والبطالة وتغيرات المناخ كما الفيضانات والحرائق وغيرها وممارسات الإبادة والتطهير العرقي والتغيير الديموغرافي والديمقراطيات التمثيلية المضللة والمنحرفة وقلة أو إنعدام الحريات والديمقراطية والتنمية والعدالة والاصرار على المطلقية والأحادية والمركزية الشديدة والفاشية القوموية وإنتشار تيارات الإسلام السياسي التي تستهدف تشتيت المقاومة الثقافية للإسلام، وفي جعل المنطقة خائرة القوى ومنفتحة للتدخل الخارجي والبعيدة عن القيم الأخلاقية والحضارية للإسلام وتقزيم المجتمعات والمحاولة المستمرة لإضعافهم وتشتيتهم والاصرار على القضاء عليهم كحالة جامعة للإنسانية وقيمها وحافظة لأبنائها وربما كحالة مقاومة ورفض محتملة يخشاه النظام السلطوي المركزي التابع. بالإضافة إلى التناقضات بين النظام المهيمن العالمي وأدواتها من الدولة القومية وسلطاتها في المنطقة كأدوات إنتهى أزمنتها وحان إزالتها وإبدالها أو إصلاحها على الأقل للحفاظ على الاستمراية والديمومة في الخدمة ولكنها تصر وتقاوم التغيير أو الاصلاح المراد إجرائها في بنيتها من قبل النظام العالمي.
إن حالة الديالكتيك أو الجدلية التاريخية بين السلطة والمجتمع ومنذ القرون وحتى اليوم مازالت قائمة ورغم كل محاولات الوفاق المؤقتة التاريخية و كذلك محاولات النظم الرأسمالية العالمية المختلفة من تعظيم الفردية والأنانية كحالة مضادة للمجتمعية، إلى أنها بقيت المجتمعات ورغم ضعف أنسجتها السياسية والأخلاقية نتيجة حالات القمع والفردية إلا أنها ماتزال تحتفظ بإمكانيات قابلة للتفاعل والفعل والتاثير و للمقاومة والحفاظ على التنوع والتعدد والحياة المشتركة الحرة والديمقراطية وإعادة تنشيطها وإحيائها من جديد.
لكن كيف السبيل للخلاص و للحل الديمقراطي وما هو البرنامج السياسي الديمقراطي الممكن اختياره للعمل البناء وكيف نبدأ وعلى أي ذهنية وإرادة مشتركة يجب التعويل، وماهي المقترحات التي تناسب المنطقة والتي تستند للثقافة المشتركة الكلية وللمجتمعية الأخلاقية المتكاملة وتأخذ المجهودات البشرية وعلومها الحديثة المختلفة بعين الاعتبار.
لنستعرض بعض المقترحات التي اشار إليها المفكر والقائد عبدالله أوجلان في كتبه ومجلداته و مرافعاته الخمسة الأخيرة التي هي باسم (مانيفستو الحضارة الديمقراطية) كبرنامج سياسيّ وديمقراطي في المنطقة لكل المجتمعات والشعوب ولقوى الحرية والديمقراطية والعدالة والتنمية المستدامة فيها:
1- المظلة العامة أو التنظيم السّقفيّ للكليّاتية الثقافية : من الممكن بناءه باسم “كونفدرالية الأمم الديمقراطية” في المنطقة أو الشرق الأوسط. والتي تتضمن عدة نقاط منها:
• لايمكن إنشاء الأمم الديمقراطية بالإستناد إلى حدود الدول القومية الحالية. و محال تواجد حدودٍ مرسومةٍ للأمم الديمقراطية.
• قد تتواجد الأقاليم والمناطق والمدن والقرى الوطنية المركّزة. ولكنّ الأكثر اعتيادياً هو الخليطة ومتعددة الأمم. و التاريخ شاهد على عددٍ الأقاليم والمدن المليئة بالقبائل والأقوام والأديان والمذاهب والطرائق التي عاشت متفاعلةً ومتداخلةً على الدوام. هذا ولم يكن الحديث عبثاً في التاريخ عن بابل المشهورة بالاثنين والسبعين قوماً ولغةً.
• إنّ الوطن المشترك للأمم ممكن بشكل كبير. والتاريخ مليء بأمثلة. فضلاً عن أنّ مفهومي المجتمع النّقيّ والأمة النّقيّة ليسا علميّين إطلاقاً. لا شكّ أنه،
• كما قد تتواجد الأمم المتحدثة باللغة المشتركة عينها، فالأمم متعددة اللغات ممكنة أيضاً. والأمثلة المتعلقة بالأمم متعددة الرموز ليست بالقليلة. بينما النموذج الذي لا مثيل له تاريخياً هو احتكارية الدولة القومية ونمطيّتها والطابع الوحشيّ واللاإنسانيّ لهذا النموذج.
• تعتمد على هويات الأمة المرنة ومنفتحة الأطراف، ولا تقتصر على كونها ملائمةً للوقائع التاريخية والاجتماعية فحسب، بل وتشكّل في الوقت ذاته تعبيرها المثاليّ أيضاً.
• ينبغي النظر إلى الكونفدرالية على أنها مكوّن التشاركيات الديمقراطية ، وليس كاتحاد دول. إلى جانب ضرورة النظر إلى التشاركيات الديمقراطية على أنها إدارة الوحدات والمكوّنات الوطنية الاجتماعية المنضوية داخلها. وتتحلى تشكيلاتها بامتيازات التنفيذ الأفضل للمبادئ الديمقراطية.
• لا تشاد أمم الكونفدرالية بقوة السلطة والدولة، بل بالمبادئ والممارسات الديمقراطية. فالتشييدات المعتمدة على القوة، وخاصةً تشييدات الأمم المعتمدة على قوة السلطة والدولة، لا تتوافق والمصالح الوطنية كاملةً مهما زعم ذلك وروّج له؛ بل تهدف إلى المصالح الأنانية لزمرةٍ أوليغارشية وفئة سلطوية. في حين أنّ إنشاء الأمة المرتكز إلى الديمقراطية، يغطّي مصالح الأمة جمعاء، نظراً لترسيخه طوعياً وبمثل العدالة والحرية.
• الكونفدرالية الديمقراطية منفتحة على الاتحادات الكونفدارلية الأكبر والأصغر منها على السواء. وهي تحفّز على الكونفدرالية الديمقراطية على الصعيدين الإقليمي والقاري والعالميّ. كما لا تقتصر على الإعلان عن إمكانية وجود عالمٍ آخر فحسب، بل وتصرّح أنها بذاتها العالم الأكثر واقعيةً وعدلاً وحرية.
2- المجتمع الاقتصاديّ والأيكولوجيّ:
وهو المجتمع الذي تتّخذه الكونفدرالية الديمقراطية أساساً له وأنْ يكون اقتصادياً فهذا يشير إلى اعترافه بالسوق ورفضه للاحتكارية. إنه يرفض الاحتكارية لعلاقتها مع شتى أشكال الاستغلال والقمع. في حين أنّ السوق الاجتماعية ممكنة. بينما السوق الخاضعة لحاكمية الاحتكارات لا تخدم المجتمع، بل تخدم الاستغلال فقط.
والكينونة الأيكولوجية تدلّ على التبعية المتبادلة بين الحياة الاقتصادية والبيئة. ذلك أنّ الاقتصاد غير البيئويّ لا يمكنه أنْ يكون مجتمعياً. بينما النشاط المنساق دوماً وراء التكديس والربح الدائمين، يعدّ مضاداً للاقتصاد والبيئة والأيكولوجيا على السواء.
التشاركيات هي وحدات القياس الأساسية في الاقتصاد. فشكل ملكيّة وسائل الإنتاج المقسّمة حتى مستوى العائلات –وعلى رأسها ملكيّة الأراضي– هو غير اقتصاديّ. وبالعكس، فالملكيّة الاحتكارية للأراضي ولوسائل الإنتاج أيضاً لا تعتبر اقتصادية. وأشكال الملكية هذه هي وسائل الحداثة والمدنية التي تضرّ بالاقتصاد.
أما الحل الأمثل، فهو الملكية التشاركية أو الجماعية للأرض ولوسائل الإنتاج، بغية الحصول على أعلى درجات العطاء والفائدة في كلّ ميدانٍ من ميادين النشاط الاقتصاديّ.
والمرأة التي خلقت اصلاً الاقتصاد و المتروكة خارج النشاط الاقتصاديّ،. إنها والاقتصاد عنصران مرتبطان ببعضهما البعض ارتباط الظّفر باللّحم. ولأنّ المرأة تنتج الحاجات الاقتصادية الأساسية، فإنها لا تؤدي إلى ظهور الأزمات، ولا إلى تلوّث البيئة، ولا إلى تهديد المناخ. لذا، فالقضاء على شكل الإنتاج الهادف إلى الربح، سيعني بدايةً حقيقيةً لتحرّر العالم؛ الأمر الذي يعني تحرر الإنسان والحياة والمرأة.
3- علاقة الكونفدرالية الديمقراطية مع الدول القومية: ليست صراعاً ضدها حتى آخر رمق، ولا انصهاراً في بوتقتها. بل هي علاقة مبدئية تستند إلى اعتراف الذاتين الفاعلتين بشرعية ووجود بعضهما بعضاً، وتتّخذ الحياة المشتركة ضمن أجواءٍ سلميةٍ أساساً لها ، ومهما أطيحت الثورة بالدولة وأسّست أخرى مكانها، فلن يؤدي ذلك إلى تغيّرٍ ملحوظٍ في الحرية والعدالة. أما التطوّرات التي ستحصل تأسيساً على الكونفدرالية الديمقراطية، التي تعتبر الدعامة السياسية للعصرانية الديمقراطية، تمتلك المهارة التي تخوّلها لتأمين العدالة والحرية والديمقراطية على المدى القصير والمتوسط والطويل.
الرفض التامّ للدولة أو القبول التامّ بها لا يخدمان أهداف الحرية والمساواة والديمقراطية. وتجاوز الدولة، وبالأخصّ الدولة القومية، هو مسألة زمن. فكلما فرضت الكونفدراليات الديمقراطية تفوّقها وكفاءتها في حلّ القضايا الاجتماعية، فسيتمّ تخطّي الدولة القومية تلقائياً مع التحول فيها. لكنّ هذا لا يعني البقاء بلا دفاعٍ تجاه هجمات الحداثة الرأسمالية ودولها القومية، بل ستمتلك الكونفدراليات الديمقراطية قوات الدفاع الذاتية عن المجتمع في كلّ الأوقات وتحت كل الظروف.
لا تكتفي الكونفدراليات الديمقراطية بالتنظيم داخل دولةٍ واحدةٍ فقط. وإنما بإمكانها تنظيم ذاتها قدر ما تشاء فيما وراء الحدود، وتشكيل اتحاداتٍ كونفدراليةٍ عليا، وامتلاك دبلوماسياتٍ عائدةٍ لها أيضاً في كلّ الأوقات.
4- الكونفدرالية الديمقراطية إمكانية حلٍّ لوقف العديد من الحروب والاشتباكات والتوترات: التي لا تزال قائمةً في الشرق الأوسط، والنابعة من أشكال الظّلم التاريخيّ– الاجتماعيّ. ودرب الكونفدرالية الديمقراطية في الحلّ هو درب السلام والعدالة والحرية مقابل عراقيل الحداثة الرأسمالية والدولة القومية، اللتين تعتبران المسؤول الأساسيّ عن الحروب والصّدامات. وضمن هذا الإطار، فمن الأهمية بمكان بذل الجهود أولاً في سبيل وضع حدٍّ للحروب والاشتباكات، وتلافي التوترات، وتذليل أشكال الظلم التاريخيّ. كما ينبغي صياغة الحلول الديمقراطية غير العاملة أساساً بمبادئ وممارسات الدولة القومية، في الأجندة بأقصى سرعة. ففتح المعابر الحدودية لوحده لا يكفي لحلّ القضية الأرمنية، بل على الأرمن أنْ يتحلّوا أيضاً بأشكال الاستقرار التشاركي الديمقراطيّ. ويجب تيسير الأمور في سبيل ذلك. هذا ويجب اتّخاذ المبادئ والممارسات نفسها من أجل الآشوريين، الرّوم، الأتراك، الكرد، العرب، المجموعات المسيحية الأخرى ، واليهود والعلويين والإيزيديين أيضاً.
فكلما دام الإصرار على المواقف الدولتية القومية، فلن يكون ثمة مهرباً من استمرار الصراع الإسرائيليّ– الفلسطينيّ، والصراع بين الكرد والشيعة والسّنّة في العراق، وكذلك الحروب الساخنة في كلٍّ من كشمير، باكستان– أفغانستان، بلوجستان، كردستان، تركيا و سوريا العراق،اليمن، لبنان، السودان، الصومال وما شهده وتشهده العيد من المناطق والدول من حروب. ولهذا السبب بالتحديد، ثمة حاجة ماسة للبنى الكونفدرالية الديمقراطية.
أيّ حلٍّ ديمقراطيٍّ سيولد ويتعزز وسيوطّد في أيّ مكانٍ من أماكن الصراع المحتدم في المنطقة، سوف يستطيع تعميم تأثيره تسلسلياً على كافة المناطق التي تشكّل قضيةً إشكالية. ولهذا السبب أيضاً، فمستقبل المنطقة و الشرق الأوسط يكمن في الكونفدرالية الديمقراطية.
5- حاجة الحركات المناهضة لنظام الهيمنة في إعادة تقييم الأوضاع وإعادة النظر في ذاتها مجدّداً: فإذ ما كانت القضايا بلغت حدّها الأقصى في مكانٍ ما، وكانت الحركات عاجزةً عن حلّها؛ فمن المحال حلّ القضايا هناك، حتى لو تفكّك النظام وانهار.
• الحركات المعنية بقضايا المرأة والبيئة ،من غير الممكن أنْ تسير صوب أهدافها بمنوالٍ مبدئيٍ راسخ، ما لم تتخطّ حداثة النظام المهيمن الرأسمالي. من هنا، فالتزام هذه الحركات بكلّيّاتية حركة المجتمع الديمقراطيّ شرط لا غنى عنه من جهة المبدئية ولأجل إحراز النجاح.
• الحركات اليسارية والتقدمية، التي هي ثمرة الممارسة العملية للاشتراكية المشيدة (التي طبقت في الاتحاد السوفيتي وعدد من الدول الأخرى)، عليها الخروج من كونها متمحورةً حول السلطة، وتحوّلها إلى تنظيماتٍ متمحورةٍ حول الديمقراطية؛ فسيغدو سبيل الخلاص السديد. كما على هذه الحركات أنْ تنقذ أنشطتها النقابية والحزبية من الاقتصادوية الضيقة، وأنْ تلحقها بكلّيّاتية الحركات المجتمعية الديمقراطية كضرورةٍ من ضرورات تحقيق الانطلاقة وإحراز النجاح.
• الحركات التقليدية والثقافية والمناطقية والإقليمية والوطنية الأخرى عليها القيام بتغيير تعابيرها بشأن الحقيقة وبناها المتمحورة حول مختلف مصطلحات ونظريات ومؤسسات الحداثة كسبيل حلٍّ للقضايا التي تعاني منها، والتحامها وتكاملها بالمقوّمات النظرية والبنيوية للعصرانية الديمقراطية؛ يعدّ شرطاً لا بدّ منه في سبيل إنجازها انطلاقتها وإحرازها النجاح. إذ إنّ الأممية الجديدة لن تكون ممكنة، إلا بمدى تجاوز هذه الحركات للحداثة الرأسمالية للنظام العالمي عموماً وللدولة القومية خصوصاً.
6- الارتكاز إلى نشاطات علم الاجتماع الذي يتعدى السوسيولوجيا الوضعية : إنّ التيارات الأيديولوجية والسياسية المناهضة للحداثة الرأسمالية المهيمنة مرغمة على الارتكاز إلى نشاطات علم الاجتماع الذي يتعدى السوسيولوجيا الوضعية. ذلك أنّ السوسيولوجيا الوضعية من الشّركاء الاحتكاريين لتصاعد هيمنة الحداثة الرأسمالية، والذين قدّموا الثمار الإيجابية للجهود العلمية الإيجابية والثمينة للغاية في تلك المرحلة إلى احتكارات رأس المال والسلطة كرأس مال والتواطؤ معها، وجعلوها شريكاً لهم فيها. وعليه، فصلب محاولات علم الاجتماع الجديد يمكن أن يتمثل في تحطيم الاحتكار العلميّ المسخّر في التهافت على خدمة النظام القائم، وفي استلام محاسن إرثه، وتصييره جميعةً عبر انتقاد الواقع العينيّ، ومن ثم تقديمه كحقيقة.
بإمكان كلّ نشاطٍ أيديولوجيٍّ وسياسيٍّ واقتصاديٍّ مناهضٍ للنظام المهيمن العالمي الرأسمالي، أنْ يحقق النجاح ويستمرّ في التطور، فيما إذا اتّخذ هذه الأعمال أساساً.
كما وبالمقدور إنشاء الوحدات الأولية لنشاطات علم الاجتماع على شكل مؤسساتٍ أكاديميةٍ ومعاهد. ويمكن تأسيس هذه المؤسسات في شتى مجالات العلاقات الاجتماعية حسب الحاجة. من هنا، بالمستطاع تعريف التيار الأيديولوجيّ بأنه نشاط تكييف المعارف المارّة من المرحلة المؤسساتية مع الميادين الاجتماعية. وهو يتميز بإرثٍ غنيٍّ من الخبرة في ثقافة الشرق الأوسط. وأولى مراحل انتشار الأديان، وعمليات إنشاء الطرائق والمذاهب الدينية، إنما تعكس هذه النشاطات.
بالإمكان اعتبار فعاليات المجتمع المدنيّ الراهنة أيضاً مثالاً، ولو ناقصاً، لهذه النشاطات. فالفامينية التي تعدّ حركةً مهمةً في المجتمع المدنيّ، هي تيار أيديولوجيّ أساساً. لذا، فهي ملزمة بالاعتماد على أرضيةٍ علمية. إلا أنّ التيارات الفامينية تواجه الوهن والفشل مراراً بخصوص تحليل المجتمع الجنسويّ ذي الحاكمية الذكورية التي تستند إلى قوة الهرمية والسلطة والدولة المتحكّمة بالمرأة بكلّ وطأتها، وفي تقديم نماذج الحلّ، وفي تجسيد مساعيها بهذا الشأن في حياتها العملية. من العسير على روح النضال النسائيّ الحرّ أنْ يحرز النجاح، من دون امتلاك شخصياتٍ خارقة. بل وحتى أنّ نجاحاته المحدودة المتحققة، ستعاني الانصهار بتحامل المجتمع الجنسويّ وضغطه اليوميّ والشامل جداً عليها. بالتالي، فتكوين وممارسة التشاركيات الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية المتمحورة حول حرية المرأة، أمر لا استغناء عنه.
الأساس الضروريّ لإحراز النجاح أثناء دمقرطة ثقافة الشرق الأوسط، هو تقييم المجتمع المدنيّ كضربٍ من قبائل وكلانات العهد الحديث، وإبداء الموقف ذاته إزاء التقاليد والشرائع الدينية أيضاً؛ وبمعنى آخر مقتضب، فالأساس هو تطبيق علم الاجتماع بتنظيمه وفق هذه التقاليد أو إكماله ولحمه مع إرثها حسبما يتطلب الأمر، بحيث يذكّر بحيوات المؤسسات الكلانية والقبليّة والمذهبية والطرائقية والدينية.
ومن الضروري أنْ تكون هناك علاقة وثيقة بين التيارات والحركات السياسية وبين التيارات والحركات الأيديولوجية، مهما كانت تتسم بفوارق فيما بينها. فكيفما أنّ التيارات السياسية المفتقرة إلى القيمة الأيديولوجية لا تكون قيّمةً كثيراً، فالتيارات الأيديولوجية غير المنعكسة على الواقع السياسيّ أيضاً لن تبلغ مرتبةً قيّمة. الهدف الأوليّ للنضال الأيديولوجيّ هو تطوير المجتمع الأخلاقيّ والسياسيّ. وهذا ما لا يمكن إلا بالممارسة الأيديولوجية المرتكزة إلى علم الاجتماع. أو بالأحرى، محال تطوير ممارسةٍ أخلاقيةٍ وسياسيةٍ من دون علم الاجتماع. هذا ولن نتمكّن من صون وتطوير المجتمع الذي يواجه احتكارات السلطة ورأس المال، إلا بالممارسة الأيديولوجية والسياسية المعتمدة على علم الاجتماع. كما يستحيل تحقيق دمقرطة ثقافة الشرق الأوسط، ما لم تنقّ ثقافته السياسية من الإرث الهرميّ والسلطويّ والدولتيّ، وما لم تزاول الممارسة الأيديولوجية والسياسية المصيّرة نمطاً للحياة اليومية إزاء الوقائع الراهنة للسلطة والدولة.
7- المحاولة الأوربية لجعل الحداثة الرأسمالية أكثر قابلة للعيش والديمومة: شرعت القوى الاحتكارية في أوروبا (مركز هيمنة الحداثة الرأسمالية) في إنجاز الإصلاحات الجذرية داخل بناها بعد أعوام 1950م، وذلك تأسيساً على الدروس والعبر التي استخلصتها من الحروب والاشتباكات والتوترات الدائرة خمسة قرونٍ بحالها. والاتحاد الأوروبيّ هو ثمرة هذه الدروس. إنه لا يهدف إلى تجاوز الحداثة الرأسمالية كنظام مهيمن، بل إلى جعلها قابلةً أكثر للعيش والديمومة. لذا، فالدمقرطة في ثقافة الشرق الأوسط في ظلّ تأثير هذه الإصلاحات أمر شاقّ. وستجذب الحداثة ثقافة المنطقة إلى أجواءٍ يسودها مزيد من التناقضات والصدامات والحروب، عن طريق النتائج الأكثر سلبيةً للنزعة الاحتكارية. وما من إمكانيةٍ للنفاذ من ذلك، إلا بالانقطاع الجذريّ عن مفهوم وبنية الحداثة الرأسمالية للنظام العالمي، وبتبنّي العصرانية البديلة لها. والعصرانية الديمقراطية تنبع من هذه الحاجة التاريخية والجذرية. ذلك أنّ العصرانية الديمقراطية، التي تواجه الرأسمالية والصناعوية والدولتية القومية ببديلها في المجتمع الاقتصاديّ والمجتمع الأيكولوجيّ والكونفدرالية الديمقراطية، إنما هي بمنزلة العامل الأساسيّ للدمقرطة في ثقافة الشرق الأوسط.
تنجز قوى العصرانية الديمقراطية تركيبةً جديدةً مؤلفةً من مناهضي الحداثة من جهة، ومن بقي خارج السلطوية والدولتية والمركزية الشديدة ومن مجتمع الزراعة– القرية الذي احتلّ مكانه ضمن سياق الخلفية التاريخية في القطب المقابل دوماً للمدنية المسيطرة، وأنساب القبائل الرّحّالة، والحرفيّين وصغار الكسبة، ومناهضي العبودية من الجهة الثانية. بالتالي، وحصيلة مساعي الثورة والإصلاح التي بادرت إليها بالتأسيس على المجتمع الاقتصاديّ والمجتمع الأيكولوجيّ والمجتمع الوطنيّ الديمقراطيّ، فستتمكن من إثبات تفوّقها بجدارة بكفاحها الطويل المدى تجاه عناصر الحداثة الرأسمالية الثلاثة.
ليس بموقفٍ صحيحٍ القول: “إما الحرب أو السّلم سيظلّ قائماً إلى الأبد بين الحداثة والعصرانية المختلفتين والمتناقضتين”. فمثلما يمكن للثورات والإصلاحات أنْ تتصاعد متحاربةً ومتصادمةً إلى جانب حملاتها المضادة، فبمقدورها الاستمرار بتطوّرها على شكل وفاقٍ ضمن أجواء السّلم أيضاً. كذا الحداثة والعصرانية بنيتان على علاقةٍ وتناقضٍ شائكين فيما بينهما، بحيث تكونان منفتحتين لسياقات الحرب المتكاثفة أحياناً، ولسياقات السّلم والوفاق أحياناً أخرى. وكينونتهما كبديلين لبعضهما بعضاً، لا تتحقق بالأحداث والسياسات اليومية التي يعبّر عنها بمصطلحي “الفترة قصيرة المدى” و”الفترة متوسطة المدى”، ولا بالتغييرات الحاصلة في مراحل نضوج وثبوت النظامين. بل بالمقدور إنجاز التحوّلات الجذرية في هذا المنحى، كنتيجةٍ للأزمات البنيوية طويلة المدى على صعيد النظام. إنّ الكفاح ومساعي التحول إلى بديلٍ فيما بين المدنية والحضارة، وبين الحداثة والعصرانية، سواء القائمة طيلة خمسة آلاف سنة، أم خمسة قرون، أم قرنين؛ إنما هي شأن معنيّ بالمرحلة والسياق، ولا تبرح مستمرةً بأعلى وتيرة. ومثلما الحال في كافة أصقاع العالم، ففي الحقل الثقافيّ للشرق الأوسط أيضاً، سيتمّ تجاوز الحداثة الرأسمالية المتخبطة في الأزمة البنيوية، عن طريق نمط الحياة البديلة قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى، ومن خلال مفهوم (استراتيجية) وتنفيذ (تكتيك) التنظيم والممارسة؛ وستتحقق العصرانية الديمقراطية كعصرٍ رئيسيٍّ من خلال قيمها، وستجد بذلك معناها.
وعليه ورغم كل الأزمات التي تعصف بالمنطقة وكذلك التحديات الداخلية والخارجية وتدخلاتها وتأثيرات حداثة النظام العالمي المهيمن ورغم هجماتها وتسلسلاتها الفكرية الاستشراقية والنظم التعليمية الخادمة لها لتشكيل بنى فكرية معرفية ووعي عام يسهل لها تقديم البدائل وكذلك كل التحكم عبر الفضاءات الافتراضية وضخ المعلومات المحددة، ومع كل ماتم زرعه في المنطقة من القضايا والمصائب وحالات التطهير العرقي والإبادة بيد بعض السلطات والتيارات القومية والدينية الوظيفية لتقزيم المجتمعات وتفتيتها وتقسيم شعوب المنطقة وجغرافياتها الطبيعية ، يبقى للقوى المجتمعية والديمقراطية وحتى لكثير من الحركات الراغبة في التغيير وحل القضايا العالقة الكثير من الفرص وهي في تزايد وتفاعل مشترك نتيجة وضوح حالة النظام المتأزم وكذلك تاريخها الفاشل في المنطقة متجسدة في دولها القومية والممارسات الفاسية والتطهير العرقي التي جلبتها ومارستها وبعدها عن تحقيق مصالح الشعوب والمجتمعات. وهنا تظهر أهمية إمتلاك ذهنيات وإرادات مشتركة تتجاوز تمثيل أدوات الأزمة المخادعة وتصل لحقائق الأمور وإدراك الإنحراف الذي تسبب به النظام العالمي المهيمن للثقافة المشتركة كأهم عنصر من عناصر التفاعل و المقاومة والمصير المشترك والاستمرار بإصرار على إنسانية وقداسة الحياة الحرة والديمقراطية والعادلة. وسيكون كونفدرالية الأمم الديمقراطية في المنطقة من أهم الحلول الديمقراطية لإعادة بناء الحياة الحرة المشتركة وأكثر الوسائل الديمقراطية لإدارة الحياة وفق ديمقراطية مباشرة تحقق بناء الإنسان وتوحيد روحه وقلبه وعقله الذي حاولوا تشتيته وتفريقه حتى يسهل السيطرة عليه كأهم عنصر في الحضارة الديمقراطية في المنطقة والعالم الحر الذي ينتظر ولادته مع بدء محاولات بناء الكونفدرالية الديمقراطية للأمم في المنطقة والعالم.