أ.د.قاسم حسين صالح
مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية
من اربعين سنة والسياسة هي الشغل الشاغل للعراقيين..في كتاباتهم وقراءاتهم ونشاطهم العام وأحاديثهم اليومية. حتى أشعارهم هجرت الحب الذي هو موضوع الشعر ومبدعه وصارت سياسة . بل صارت السياسة (سلطة ) الطعام في وجباته الثلاث. وأظن أن أحلامهم صارت أيضا سياسة!..فصار الجميع يعيش حالة هوس سياسي بإيقاع روتيني عام ، فالكل يستقبلون صباحاتهم بقراءة الأخبار والموضوعات والتحليلات السياسية أو سماعها من الإذاعات لأحداث تتناسل في وطنهم بطريقة ما عادت تحتويها الميتافيزيقيا والديالكتيك . والجميع يقضي معظم نهاره في نشاطات سياسية فكرية أو عملية ، ويمضي معظم لياليه أمام شاشات التلفزيون يقلّبون القنوات الفضائية العراقية ” صرن بعد التغيير أكثر من 50 قناة !” والعربية والأجنبية . وكثيرون يتصفحون المواقع الإلكترونية العراقية التي صارت مقروءة أكثر من الصحافة الورقية لكونها تكشف عن المستور وتتحدث عن المحضور ولا تلتزم بما يسمى تقاليد أو قيم صحفية أو خطوط حمر ..فصار كل شيء في حياة العراقيين سياسة: الشارع ..سياسة ، مكان العمل ..سياسة ، المقهى ..سياسة ،البيت ..سياسة ، وسائل الإعلام ..سياسة..حتى الدراما العراقية سياسة ،الكل يضخ سياسة في رؤوس العراقيين فتحول الحال من الاهتمام العادي بها الى هوس أخذ شكل الطقس اليومي الذي يفضي بالضرورة الى حالة مزمنة من الإدمان عليه . والأقبح أن الهوس السياسي اختزل قيما واعتبارات اجتماعية ، فمن كان ذا أخلاق عالية ويخالف الآخر في اتجاهه السياسي ..راح هذا الآخريقلل من شأنها أو يتجاهلها أو يطعن فيها بخباثة وافتراء . فضلا عن أن الهوس السياسي يفضي ، بحتمية سيكولوجية ، الى أن يجبر صاحبه على امتهان رذيلة تعصبية مثيرة للفتنه : تضخيم عيوب الآخر أو العائلة أو العشيرة وغض الطرف عن محاسنهم ..التي منها نجم هذا الهوس الطائفي والعرقي والشوفيني الذي نعيشه ،وهذه اللخبطة والفوضى والتداخل التي أصابت الثقافة القانونية والدستورية ، حتى ليبدو هذا الهوس حوتا ابتلع كل الثقافات. والمصيبة أن معيار تقويم الناس لم يعد على أساس شخصياتهم وأخلاقهم ومنجزاتهم ، إنما صار على أساس اتجاهاتهم السياسية ..حتى العلماء والمفكرين شملهم هذا المعيار الذي هو أحط معايير التقويم وأكثرها بغضا عند محبي الخير والحق والجمال ، واوطأها تفكيرا عند العقلاء الذين يعرفون أن الهوس بكل أنواعه لا يقود الى أحكام عقلانية.
والفاجعة أن العراقيين ، أبناء الألفية الثالثة وأحفاد أول من أقام دولة في التاريخ (سومر ) واول ملك استحدث المؤسسات وأشاع فيها الأمن والسلام..وأحفاد الأوائل في اختراع الكتابة والعجلة والرياضيات والفلك والقانون وكل فنون الذكاء واللباقة..صرنا نتصرف بغباء وحماقة وتخلف خرافي ونقوم بأفعال لا يرتكبها حتى المجانين..واحد أسباب ذلك،هذا الهوس الذي استحوذ علينا.
وثمة استنتاج أقوله على مسئوليتي : ان كثرة الكتابة والقراءة والاستماع والتحدث اليومي في السياسة تبرمج العقل على الانشغال المفرط بالأمور العملية والسلوك الجدّي، والابتعاد عن النشاطات الترفيهية واللهو الممتع ، والتصلّب في الرأي ، وتنشيط الدوافع العدائية والآليات الدفاعية ..فيما تبرمج النفس على الضيق والضجر والاكتئاب ، وتقلّب المزاج ، والبرود العاطفي، وتسفيه ما يريحها ويمتعها ،وحرق الأعصاب الذي يأكل من العمر..وان هذا الهوس غير المنظور،هو الذي دمّر طيبة العراقيين!
لقد أخذنا ، نحن الكبار ، بعض وطرنا من الدنيا واستمتعتنا بالحياة والجمال والحب أيام كانت عيون المها بين الرصافة والجسر يجلبن الهوى من حيث ندري ولا ندري، وحين كانت ليالي دجلة عامرة بفرح الناس والعشاق ، فيما جيل الشباب صاروا الآن مسكونين بالهوس السياسي . حتى الشعراء منهم هجروا الغزل والحب وصارت قصائدهم مراثي للأمهات والحبيبات ومآتم لفواجع الوطن وشكاوى الى الله والأئمة والأولياء . .وأظن أن كثيرين منهم سيفشل عاطفيا في حياتهم الزواجية ، لأنهم سيتوزعون بين من أدمن على الاكتئاب والتشاؤم وتوقع الشر وبين مصاب بنهم الحصول على المزيد من المتع ليعوض عمرا عاشه بالكدر والحرمان حتى من لهو الطفولة.
ما أخشاه ،على جيل الشباب تحديدا،أن ادمانم على الهوس السياسي سيبرمج جيناتهم عليه فيورّثونه الى جيل من الأطفال سيتحدثون بالسياسة قبل أن يخرجوا من بطون أمهاتهم!.