فراس الغضبان الحمداني
تفتخر عواصم الدنيا كافة بما تظهره من رموز جمالية لها دلالات من ذاكرة الشعب وتقف شاخصة وسط المدينة في ساحاتها العامة الكبرى تحكي للأجيال قصة مجد وتاريخ امة. الا عاصمتنا بغداد المصابة بتبدل الأزمنة واقتلاع الرموز واختفائها مع اختفاء الأنظمة السياسية .
ندما ظهر الحكم الملكي في العراق وتأسست الدولة العراقية عام 1921، حاول العديد من المعنيين بتحويل وجه المدينة ورسم علامات ملكية في أماكنها العامة وهكذا بدأت الحكاية ، وحين سقط النظام الملكي بطريقة دموية في 14 تموز عام 1958 انقلبت معه أيضا الرموز الجمالية فهجمت الجماهير الغاضبة وحطمت تماثيل الملك وكل الإشارات التي تذكر به وحاولت وعلى طريقة هذه الأيام إن تجتثه من الجذور وتضع مكانه التماثيل والنصب التي تتحدث عن الزعيم والقائد الملهم عبدالكريم قاسم وارتبطت بذلك أيضا بقية المكونات الفنية مثل الجندي المجهول ونصب الحرية واقترنت أيضا بالزعيم وثورته أو انقلابه كما يحب البعض إن يسميه .
وتوالت هذه المعادلة على مدى العهود الجمهورية التالية حتى وصل ذروتها وصار الناس يجدون اسم صدام ورموزه في كل مكان وعلى كل الأشياء التي حملت جميعا اسمه وألقابه ، ولعلها ليست مفارقة بل حقيقة واقعة بان يتحول الرمز إلى نقطة أكثر أهمية من الأصل حيث إن الجماهير الغاضبة في 9 نيسان ومعهم القوات الأمريكية الغازية التي فشلت بإلقاء القبض على صدام في ذلك اليوم نجدها استعاضت عن ذلك بعملية إسقاط صنمه في ساحة الفردوس وانهالت عليه بالضرب وهشمته وكأنه صدام بذاته بدمه ولحمه وراحوا يسحلونه في الشوارع ويتقاسمون حطامه وبادر البعض وعلى وجه السرعة إن يضع نصبا بديلا يعبر عن النظام العراقي البديل عن استبدادية صدام .
والغريب إن هذا التكوين الجميل المعبر عن الحرية ومعه عدد كبير من التماثيل والنصب ذات الدلالات الجمالية والتاريخية وليست السياسية اختفت هي الأخرى بدون ثورة أو انقلاب وهذه ظاهرة غريبة ربما كان للصوص دور وراء ذلك والعجيب أيضا إن الحكومة التي ورثت مليارات لا تعد ولا تحصى من إيرادات النفط لم تبادر لإعادة وصيانة هذه التماثيل والنصب بل بادر الأهالي لاستعادتها بنسخ مقلدة ومنها تمثال السعدون الذي تم وضع بدلا عنه تمثالا من البلاستك وتمثال آخر للعلامة العراقي الكبير مصطفى جواد حيث تم وضع نصبا بديلا من الجبس في مدخل مدينة الخالص ومع زخات المطر الأولى تآكل التمثال وظهر هذا العلامة ممزق الثياب وكأنه من المتسولين وتحول تكريمه إلى اهانة ، إما التمثال المعبر عن الحرية في ساحة الفردوس فقد اختفى دون رجعة بعد إن تهاوى شيئا فشيئا بسبب الظروف الجوية ولم يصمد طويلا لأنه صنع من مواد هشة كأنها تعبر عن هشاشة العملية السياسية .
ترى من سيعيد لبغداد نظامها الجمالي حيث تخلو ساحاتنا العامة من عمل عملاق يخلد تاريخ الشعب العراقي ولا يرتبط باسم النظام لنضمن زوال الأنظمة وبقاء الأثر الجميل ونموذجنا ملحمة نصب الحرية لجواد سليم الذي ظل صامدا عبر تغيير كل الحكومات لأنه يتحدث عن روح الثورة وتاريخ الشعب وليس تمجيدا وتخليدا لفلان وعلان .