الدكتور زاحم محمد الشهيلي
مما لا شك فيه، ان الولايات المتحدة الأمريكية تتربع، منذ قيام الحرب العالمية الثانية، على عرش زعامة العالم سياسيا واقتصاديا وعسكريا، الامر الذي جعلها اول الدول ممن تقوم بخرق القوانين والمواثيق والأعراف الدولية للتدخل في شؤون الدول الأخرى، وأمست تختار حلفاءها على أساس مقولة: “في السياسة ليس هناك عدو دائم او صديق دائم”… “وعدو الامس صديق اليوم”، والعكس صحيح ايضا. واصبحت أمريكا في الامس واليوم تصنع وتمول جهارا المنظمات والمجاميع الإرهابية المتشددة من (القاعدة وداعش) والفصائل المسلحة الأخرى باعترافها لتصدرها إلى الدول التي تسعى إلى زعزعت الامن فيها، في حين لا احد من تلك الدول يعترض او يدين تلك السياسة، واضحت البلدان التي وقع عليها الحيف وتحملت كثيرا من الضرر تبرر للأمريكان مسالة تواجدهم لمحاربة الارهاب المصطنع، وفي نهاية المطاف تعقد امريكا اتفاقا، سمي بـ”اتفاق الدوحة”، مع (القاعدة) مطلع عام ٢٠٢٠ أمام مراى ومسمع العالم، لتحول بوصلة الحرب على الارهاب بين (القاعدة) و(داعش) حسب الاتفاق، بهدف ابقاء القوات الأمريكية بمناى عن الصراع بين ما يسمى بالمتشددين الإسلاميين الذين تدعمهم وتمولهم الإدارات الأمريكية المتعاقبة بالفكر والمال والرجال.
ان توجه الإمبراطورية الأمريكية المتوحشة نحو عسكرة العالم واثارة المشاكل والصراعات في كثير من البلدان، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، وابتعادها عن القيم الإنسانية وعدم تنفيذها لمشاريع الاستقرار والبناء والتنمية الاقتصادية والتكامل الاقتصادي في الدول التي تسيطر عليها، والتي من الممكن ان تدر بالفائدة المادية على الشعب الأمريكي والشركات الأمريكية والشعوب ذات العلاقة، واعتمادها فقط على استخدام القوة المفرطة في التدمير ونشر الفساد وتبيض الأموال لسرقة قوت الشعوب، ادى داخليا إلى تنامي الفكر العسكري المعارض للسياسة الأمريكية في الخارج، والذي يقوده اليوم مجموعة من المتقاعدين الشباب من الضباط والمراتب الذين خدموا في الجيش الأمريكي، وشاهدوا بأم اعينهم موت أصدقاءهم واولادهم ونساءهم في الحروب، ولاحظوا عن كثب تخبط السياسة الأمريكية وعنجهيتها ووحشيتها في التعامل مع الشعوب في الوقت، في حين تدعي بانها بلد القانون والإنسانية وراعية للديمقراطيات والحريات العامة في العالم، حيث يقود هؤلاء الفتية حملة رافضة لتلك السياسة التي تخدم فقط مصالح الأثرياء ليكونوا اكثر ثراءً على حساب الفقراء الأمريكان من الطبقة الوسطى والمعدومة الذين ينتظرون مصيرهم المحتوم في الحرب التي يخطط لها وينفذها الجبابرة من صقور الادارة الأمريكية أعضاء الحزب الجمهوري، ولذلك فهم يقودون في الوقت الحاضر حملات توعية رافضة لمرشحي الطبقة النبيلة للرئاسة الأمريكية الملطخة أيديهم بدماء الأبرياء، مطالبين في ذات الوقت الادارة الأمريكية بتغيير نهجها العدواني ضد الشعوب الأخرى، ووقف صرف الأموال الطائلة لتمويل الحملات الانتخابية والحملات العسكرية في الخارج من أموال الفقراء والمحتاجين، بحيث يعد هذا التحرك واحدًا من بوادر بداية انهيار الإمبراطورية الأمريكية من الداخل في المستقبل.
ان خلق الأزمات الاقتصادية والصحية لأغراض الكسب غير المشروع، والتي تعصف بالعالم اليوم، تعد واحدة من اهم بوادر انهيار الإمبراطورية الأمريكية، بحيث لن تتمكن، في المستقبل المتوسط والبعيد، الدول الداعمة للتوسع الأمريكي في العالم من دفع مساهماتها المالية، وعليه فان امريكا ستتحمل كل الأعباء في المستقبل من ميزانيتها السنوية التي تعاني من عجز مستمر ربما يتجاوز التريليون دولار لعام ٢٠١٩-٢٠٢٠ مع نسبة نمو تقدر بـ ٢٪ بعد ان أضحت الشركات الأمريكية تنقل معامل انتاجها خارج الولايات المتحدة بسبب ارتفاع نسبة الضريبة وتكاليف الإنتاج السلعي مما سبب ارتفاع في نسبة البطالة، ناهيك عن الدين الداخلي الأمريكي الذي يقدر بـ ١٩ تريليون دولار، وكذلك الكساد الاقتصادي الذي يشهده العالم عموما، بحيث اثر بشكل مباشر على الناتج القومي الإجمالي العالمي الذي سجل نسبة تراجع تقدر بثلاثة أضعاف مقارنة بما وصل اليه الدين العالمي العام الذي يقدر باكثر من ٢٥٠ ترليون دولار.
ورغم قيامها ببناء قواعد عسكرية في الفضاء الخارجي منذ سنين بهدف الإخلال بتوازن القوى في العالم، والذي اثار حفيظة الروس مطلع عام ٢٠٢٠، فان الإمبراطورية الأمريكية تشعر بالضعف النسبي في جوانب معينة من قوتها، الامر الذي جعلها تتجنب الصدام مع الدول ذات الإمكانيات الحربية المتطورة والاستقرار الاقتصادي المثالي مثل الصين وكوريا الشمالية وروسيا وباكستان والهند، واجبرت على عقد اتفاقيات معها بشأن سباق التسلح والتبادل التجاري وتقاسم النفوذ السياسي والاقتصادي العالمي … لكنها بقيت تتعامل باحتقار وعدم احترام وعنجهية مفرطة مع الانظمة الاسلامية في الشرق الأوسط، التي تعاني من الانقسام الذاتي النفسي والسياسي والفكري، وتخلف نظمها السياسية والاقتصادية والصناعية بسبب تطلعاتها الفكرية التي غيبت إلى حد ما دور العقل في التطور والبناء الحضاري الإنساني الذي انعكس سلبا على واقع شعوبها رغم مواردها الاقتصادية والبشرية الهائلة التي من الله عليها بها، وعليه تولدت قناعة ثابتة لدى الغرب – الأمريكي بضرورة ان يحل الفكر الغربي مكان الفكر الشرقي المتخلف، ولا يتحقق ذلك الحلم حسب تصورهم الا من خلال إدامة استمرار الحروب والأزمات والصراعات في المنطقة للقضاء على الجيل الأول والثاني والثالث وخلق جيل رابع جديد يتعاطى فكريا مع ثقافة التصنيع والتطبيع الغربية، والذي يرونه يلوح في الأفق الاسلامية في الوقت الحاضر وسط تقهقر الفكر القديم الذي لم يقدم للشعوب الاسلامية سوى الويلات والحروب الإقليمية والدولية، والتناحر الطائفي والعرقي، وسوء الادارة والتهميش، والفساد الاداري والأخلاقي.
لذلك فان المتابع للأحداث السياسية بعد الحرب العالمية الثانية يرى ان نفوذ الإمبراطورية الأمريكية بدا يتمحور في الآونة الأخيرة بالمناطق الجيوسياسة الرخوة في العالم الاسلامي التي لا تكلف السيطرة عليها جهدا كبيرا، بسبب انها نامية في تكوينها، وأرضا خصبة للمشاكل والتبعية السياسية، والتي غالبا ما تكون عدائية لشعوبها، متمسكة نوعا ما في ماض عريق، ومتخوفة كثيرا من الانطلاق نحو مستقبل مشرق خوفا من ان يفقد حكامها الجاه والسلطان، ولذلك يعمل الأمريكان على ان تبقى دول الشرق المسلم متخلفة، لان تطورها العلمي والفكري وتكاملها الاقتصادي واندماجها الاجتماعي والحضاري والوطني يعد بادرة من بوادر انهيار الإمبراطورية الأمريكية وانتهاءَ لدورها في المنطقة كما حدث معها في المانيا واليابان وكوريا الجنوبية بعد ان شهدت تلك البلدان نموا اقتصاديا وسياسيا واجتماعيًا وفكريا يشار اليه بالبنان، وأصبحت دولا صناعية تضاهي في صناعتها او تفوق المنتج الأمريكي، بحيث تحولت من بلدان محتلة من قبل الإمبراطورية الأمريكية إلى حليفة لها وتحظى باحترامها.
لذلك يمكن التكهن، بان من اهم مخرجات بوادر انهيار الإمبراطورية الأمريكية في “المستقبل البعيد” هو ان تنبذ الدول الاسلامية في الشرق الأوسط سياسة العنف والعدائية فيما بينها وتلجا إلى سياسة التكامل الاقتصادي، وتكون بلدانا منتجة ولديها ابتكارات مستندة إلى استقرار الوضع السياسي والأمني الداخلي والتنمية الاقتصادية والبشرية والنهضة العلمية والثقافية والفكرية الحقيقية المستمدة من الروح الوطنية الجامعة للشعب الواحد، بحيث يكون هناك ضمان للحقوق والحريات العامة، وسيادة للقانون الذي يتساوى تحت طائلة جميع ابناء الشعب الواحد ذو القوميات والأديان والعرقيات والطوائف المختلفة التي انتهجت ثقافة النظم الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، وحاربت بقوة الإرادة الفساد بكافة اشكاله، وحرصت على الاستغلال الأمثل لموارد الدولة الاقتصادية والبشرية للنهوض بواقعها المؤلم، حينها ستتحول تلك الدول من بلدان خاضعة لهيمنة الإمبراطورية الأمريكية إلى دول حليفة لها على اقل تقدير.
وهنا إقتضى التنويه، على أن لا تعلل دول الشرق الأوسط – خاصة العربية منها التي تخضع لهيمنة الإمبراطورية الأمريكية – النفس بالآمال بان تكون بوادر انهيار تلك الإمبراطورية آنية وفي متناول اليد، وإنما ستكون مستقبلية تمر بمراحل تتحكم بها العوامل سالفة الذكر، وعليه يجب ان يكون في الحسبان بان امريكا إذا ما شعرت بالانهيار فإنها ستجر معها إلى الهاوية ثلاثة ارباع العالم الذي تتحكم بمصيره السياسي والاقتصادي والمالي من خلال البنك الفدرالي، وسيكون الانهيار جماعيا للمنظومة الدولية يفضي إلى تشضي النظام العالمي القديم وظهور نظام عالمي جديد تقوده احدى الدول الصناعية التي ستخرج من رحم المأساة باقل الخسائر.
١٧-٣-٢٠٢٠